التّفاعلُ الفكريّ والجماليّ في السينما

مقدمة موجزة في الإخراج السينمائي

بدر الدحاني

 

من منّا اليوم لا يقرّ بخاصية السينما وفاعليتها في تمرير الخطابات والأفكار لدى فئة واسعة من الجمهور في العصر الحديث والمعاصر؟ إن السينما باعتبارها عنصراً أساسياً من عناصر ومجالات الاتصال الجماهيري، فهي تُسهِم في بلورة مشروع اتصالي يهدف إلى البناء الفكري والثقافي والفني لدى الجمهور الواسع، بوصفه متلقياً للرسائل البصرية التي تُرسِلها السينما بواسطة الصورة السينمائية المتحركة، وذلك باعتماد فنون وتقنيات ووسائط متعددة، تنسجم وتنتظم جميعها ضمن نسق فني يشتمل على حزمة كثيفة من العلامات والرموز الدلالية التي تشكل في النهاية خطاباً سينمائياً يُشاهِده الجمهور العريض في القاعات السينمائية. فماذا نقصد بالإخراج السينمائي وباللغة السينمائية؟ وكيف يُفعِّل المخرج السينمائي مخيلته ومرجعيته الفكرية والثقافية لتشكيل صور الخطاب السينمائي؟ وبأية طريقة تتجانس التقنيات والجماليات في الفيلم السينمائي؟
 

 

الأخوان لوميير: "نحو صناعة التاريخ السينمائي"
 

وفقاً للمحطات التاريخية الحاسمة في فن السينما، يمكننا اعتبار أول عملية إخراج فيلم سينمائي، من خلال الأفلام القصيرة للأخوين لوميير. لقد "كان أوجست ولويس لوميير يعملان مع والدهما في تصنيع صفائح التصوير والأفلام. انطلق الاثنان ليعملا على تحسين الكنيتوسكوب والكنيتوجراف مستعملين التقنية التي تعلماها من أديسون. ونجحا في تطوير أقل إزعاجاً وأسهل عند نقلها من كاميرا أديسون، كاميرا يمكنها طبع وعرض صور بدائية متحركة بطريقة متقطعة".(1) ففي سنة 1895 أنتج الأخوان لوميير أول فيلم لهما، وهو "خروج العمال من المصنع"، ومن ثم فيلم قصير آخر بعنوان: "وصول القطار إلى المحطة"، بالإضافة إلى أفلام أخرى... وبالرغم من عدم وجود أي مضمون فكري للفيلمين، إلا أنهما تركا شعبية كبيرة، بوصفهما تأريخاً للفن السينمائي.
 


صورتان‭ ‬للكِنيتوسكوب‭ ‬والكِنيتوغراف‭ ‬-‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬اختراعات‭ ‬الأمريكي‭ ‬توماس‭ ‬إديسون


في مفهوم الإخراج السينمائي

ببساطة يمكننا القول بأن الإخراج السينمائي هو فن إدارة الفيلم السينمائي من الجوانب الفنية والتقنية والجمالية، مع التركيز على الضبط التام لتقنيات المحكي الفيلمي سمعياً وبصرياً. يقول رينيه كلير: "لقد انتهيت من فيلمي تماماً، ولم يبق سوى التصوير"2، والمقصود من خلال كلامه أنه انتهى من مرحلة التحضير المسبق الذي يعني اختيار السيناريو، والممثلين، وتحديد مواقع وفضاءات التصوير، وإنجاز كل الإجراءات القبلية التي تسبق مرحلة التصوير. وبهذا يمكننا القول بأن العملية الإخراجية للفيلم السينمائي تقوم على إدارة الجوانب الفنية والتقنية والجمالية المرتبطة بكل عناصر ومكونات الفيلم، قبل وبعد التصوير، وصولاً إلى المحطة الحاسمة في اختيار المتتاليات واللقطات الفيلمية المنجزة في إطار عملية التصوير، وهي فن التوليف/ المونتاج الذي يعد إجراءً فنياً وتقنياً وجمالياً في صناعة المنجز الفيلمي.
 

في اللغـة السينمائيـة

ينبغي التأكيد في البداية، بأن الصورة هي المادة الخام للغة السينمائية. وبطبيعة الحال يتأتى تشكيل هذه الصورة السينمائية المتحركة بواسطة مجموعة من التقنيات المرتبطة أساساً بفن التصوير السينمائي، وبعض التقنيات الفنية والجمالية للمونتاج. "فالأفلام لا يتم إدراكها فقط كموضوعات للتأمل، بل أيضاً كنصوص حاملة لمعنى. صحيح أن جزءاً من هذا المعنى يرجع الفضل فيه للطبيعة التماثلية للعلامات البصرية والسمعية التي تستعملها... إلا أن التماثل، الفوتوغرافي والفونوغرافي، ليس سوى أحد مكونات اللغة السينمائية: يحيل التأطير وترتيب الصور في متواليات، والمؤثرات البصرية، وحركات الكاميرا، إلى أسس وإن استندت على التماثل التصويري؛ فإنها تتجاوزه تجاوزاً كبيراً"3. فكل التقنيات المرتبطة بعملية الإبداع الفيلمي، من اختيارات التصوير: (اللقطة، الزاوية، الحركة، عمق المجال...)، وفن المونتاج وتقنياته وتوظيفاته الجمالية، ليست إلا تعبيراً عن دلالة معينة، وبالتالي تصبح الصورة السينمائية لغة تعبير عن الدلالات المراد إيصالها في الفيلم.

للقطات الفيلمية –مثلاً- أنواع أساسية، وفقاً لأحجام ومستويات معينة، وكذلك درجة بُعد آلة التصوير عن الأشياء المراد تصويرها... ويعبر كل نوع من اللقطات عن دلالة معينة، في ارتباطها بطبيعة الحال بزاوية النظر والحركة والموضوع أو الشيء المصور. وهي اختيارات المخرج بناءً على تصوره ورؤيته الفنية والجمالية للفيلم. وفضلاً عن ذلك؛ فإن اللقطات وأحجامها هي بمثابة لغة تعبير، تتأطر ضمن مكونات وعناصر اللغة السينمائية التي لا يسعنا ذكرها كاملة في هذا المقال المقتضب.


التأطير‭ ‬الخاص‭ ‬بارتفاعات‭ ‬الشخصية‭ ‬الإنسانية [سلم‭ ‬اللقطات] 


الفكر المرجعي للمخرج السينمائي.. وتشكيل الخطاب البصري

تُرى أليس مخرج اليوم في حاجة للثقافة والوعي الفكري، وتعدد المجالات والحقول المعرفية لصناعة فيلمه السينمائي؟ إن من بين أعقد الوظائف الفنية التي تتطلب الجدية والدقة والتمكن المعرفي والثقافي والفني، هي وظيفة المخرج السينمائي. فالعملية الإبداعية في فن السينما تستلزم تجانس التقني والفكري والفني والجمالي... بالإضافة إلى الإحاطة بحقول معرفية متعددة: كالأدب، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، والتاريخ والحضارات، والجغرافيا... وغيرها من المجالات المعرفية؛ لأن مهمة المخرج ليست مسؤولية عادية، إنها فعل ونشاط فكري وخيالي تنتظم وتتناسق فيه الأفكار والقصص والتقنيات والجماليات، بغاية تشكيل صور الخطاب السينمائي، الذي يحمل دلالاتٍ ورموزاً أيقونية تستدعي التأويل والقراءة.

ينبغي على المخرج السينمائي أن تكون لديه القدرة الكلية الخارقة لصناعة فيلمه؛ أي أن يكون ملماً بالتقنيات السينمائية وما يرتبط: بفن التصوير ومبادئه، ونظم اللقطات وأنواعها ووظائفها، وفنيات الإضاءة، وتقنيات فن المونتاج وغيرها من العناصر التقنية والفنية... فدراسة المجتمعات والطبقات الاجتماعية والعلاقات والسلوك الإنساني، وبناء القصص والحكي الفيلمي، هي عناصر أساسية كذلك، ينبغي أن تتوافر لدى المخرج السينمائي، بل وأن يعرف كيفية استثمارها في العملية الإبداعية للفيلم. ومن هذا المنطلق، يمكننا القول بأن تشكيل الخطاب السينمائي وتضمينه بالدلالات والإيحاءات والرموز؛ إنما هي عملية مركبة تستدعي توليفاً فكرياً وفنياً وتقنياً وجمالياً، ينهل من العلم والمعرفة، والتقنية، والجمالية، حتى تحقق الصور البصرية غاياتها التواصلية والدلالية.
 

الجماليات في الإخراج السينمائي

يوظف الفيلم السينمائي جماليات مختلفة؛ فالمكونات والعناصر المُشكِّلة للصورة السينمائية: (الحبكة السيناريستية، وجمالية التصوير، وجمالية الفضاء والمكان، وجمالية الموسيقى، وجمالية المونتاج، والمؤثرات الخاصة التي تضفي بعداً جمالياً على الفيلم...)، كلها عناصر جمالية تنهل من فنون عدة، تنسجم بعضها لتنتج شريطاً سينمائياً أخاذاً. لذا؛ فالمخرج السينمائي من خلال رؤيته الفنية وعمقه الفكري، وبعبقريته السينمائية، فهو يعمل على صناعة فيلمه باستخدام وتوظيف كل هذه الجماليات السمعية والبصرية، شريطة أن يكون استخداماً وظيفياً حتى يحقق غايته الإبداعية.

وفي هذا الصدد، "يذهب معظم الفلاسفة والباحثين في فلسفة الفن وعلم الجمال أن الفن هو الجمال، فالجمال الحقيقي لا يتجسد إلا في الفن لأنه من نتاج الروح، فتبرز جمالية العمل الفني فيما يضمه من نظام واتزان، وتناسق وتوازن، ووحدة في الكثرة، ودقة التعبير وصدق التجرِبة، ثم ما يتجسد في الصورة التي يبتدعها حدس الفنان"5. لذا فالتوازن ووحدة التنظيم في تركيب الأنساق الجمالية للفيلم، يخلقان تأثيراً جمالياً للأبعاد البصرية والأيقونية والتشكيلية في الصورة السينمائية، بوصفها مادة السينما في التعبير.

تُعدُّ الاختيارات الجمالية في الفيلم من صميم عملية الإخراج السينمائي، الذي يعد بدوره قدرة وكفاءة فنية للفنان، يجسدها في صناعة الفيلم، ويتذوقها المتفرج من خلال التكوين الجمالي للصورة السينمائية ومضامينها الفكرية والفنية والتقنية. وفن المونتاج بوصفه عملية حاسمة في صناعة الصورة السينمائية، لا يمكنه أن يخرج من دائرة وظائف الإخراج السينمائي؛ لأن هذه المحطة هي أساس التركيب البنائي للمحكي البصري للفيلم، وفيه تشتغل الجماليات التقنية والسمعية والبصرية فتنسجم ضمن نسق مركب، بغاية تحديد الإطار الفني والجمالي للصورة السينمائية، وفقاً لقوانين الإبداع والجمال.

ختاماً، يمكننا القول بأن عملية الإخراج السينمائي هي بمثابة رؤية فنية، وتصور إبداعي للخطاب البصري؛ يعمل المخرج على صياغته بوساطة الفكر المرجعي للثقافة الفنية والتقنية، بهدف خلق آفاق حسية وشعورية لدى المتفرج. والسينما بوصفها فنّاً سابعاً يحتوي الفنون الستة الأخرى، فيمكننا اعتبارها مجالاً اتصالياً وجماهيرياً، يعمل على تمرير الرسائل والخطابات البصرية، برؤية وخلفية فنية وجمالية. لذا؛ فإن فن الإخراج السينمائي هو عبقرية الفيلم التي يؤطرها ويديرها المخرج بمنظوره الفكري والثقافي والفني.


الهوامش: 1. جون ر. بيتنر، مقدمة في الاتصال الجماهيري، مركز الكتب الأردني، عمان، 1990. ص: 242- 241. ┊ 2. أنظر كتاب: عقيل مهدي يوسف، جاذبية السينما: دراسة في جماليات السينما، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، الطبعة الأولى 2001. ص: 68. ┊ 3. أندريه غاري وجون بيساليل؛ مفتاح نظرية السينما، تر: مجموعة باحثين مغاربة، منشورات الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب، ط1، 2014. ص: 113. ┊ 4. الصورة مأخوذة من كتاب ستيفن غاتز، الإخراج السينمائي لقطة بلقطة "تجسيد التصور من النص إلى الشاشة"، ترجمة: أحمد نوري، دار الكتاب الجامعي، الإمارات العربية المتحدة، ط1،2005 . ص: 171. ┊ 5. حامد سرمك، فلسفة الفن والجمال: الإبداع والمعرفة الجمالية، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2009. ص: 133.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها