
من بوابة العناية النفسية المتعلِّقة بالأطفال، وجب علينا التفكير في الوصول إلى مواجهة الآثار السلبية للذكاء الصناعي التي تُحيط بهم من كل الجوانب. خاصة أنه لم يعد باستطاعة الأسر بالدرجة الأولى حماية أطفالهم من مخاطره، مهما كانوا على درجة عالية من المراقبة والاهتمام. فسطوة النهم لرؤية كل ما يُعرض أمام الأطفال من جذب وتشويق وبغزارة لا حدود لها، لا يمكن التغلُّب عليها على الإطلاق. من هنا آثرنا الخوض في هذا الموضوع لما له من أهمية بالغة لشريحة غاية في الحساسية في أول تبرعمها.
الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين بما يوفر من جهد ووقت وتقديم المعلومات والخدمات والتسلية على طبق من فضة أولاً، وثانياً بما يتركه من آثار سلبية على الصعيدين: النفسي والجسدي معاً. فيجب أن يحسب لها ألف حساب. علماً أنه، ليس بإمكاننا التغاضي عنه، أو الهروب منه على الرغم من إدراكنا مخاطره. ومن الجميل أن نعلم أنه قد أسست وزارات في العديد من البلدان تحت اسم وزارة الذكاء الاصطناعي، مثال ذلك ما حدث في الإمارات.
الذكاء الاصطناعي يجعلنا نقف أمام مفترق طرق، ونسأل العديد من الأسئلة: ماذا بإمكاننا أن نفعل أمام هذا التقدم العلمي الإيجابي من جانب، ومن جانب آخر الخطير جداً؟ ما البدائل التي يمكن لنا أن نستخدمها كي نتمكَّن من مواجهة تلك المخاطر؟ وما الإجراءات التي تحمي الجميع وتقيهم شر السقوط في فخ التقدُّم الرقمي؟
الحقيقة أنه توجد مخاوف من الذكاء الاصطناعي، وخاصة من "جي بي تي" الذي يعطيك كل ما ترغب فيه "شبيك لبيك عبدك بين يديك"، فيمكن أن يطلب منه الطفل مثلاً أن يكتب له قصة وفق الموضوع الذي يريده، مرفقة بالرسومات المناسبة، فتأتيه القصة حالاً وبشكل رائع. والأمثلة لا حدود لها، مما سيلغي دور الكاتب والرسام مستقبلاً والقائمة تطول. هذا ما يهدد مستقبل الأجيال القادمة بلا شك، ويجعل الطفل يتوقَّف عن الإبداع والتميز.
الانعكاسات السلبية التي تتركها الثورة الرقمية على شخصيات الأطفال خاصة من الناحية النفسية:
◅ من الملاحظ أن الذكاء الاصطناعي قد اعتمد على تقديم خدمات جاهزة دون أن يبذل الطفل أي جهد في تحصيلها، ودون الاعتماد على تطوير مهارات عقله، مما ينعكس سلباً على تطوير فكر الطفل، فيضعه في حالة ترهل وانكماش، ويصبح فكراً اتكالياً محبطاً خمولاً. تضمحل قدراته، ويفقد الكثير من المرونة الذكائية أو بالأحرى تقلُّ بشكل ملحوظ، مما يؤدي إلى الشعور بالاغتراب النفسي ليكون طفلاً انعزالياً مجرداً من كل جوانب وعوامل الإنسانية التي يسعى مستقبلاً إلى ترسيخها في مجتمعه.
◅ من دواعي الاستغراب والقلق أن بعمل الربوت على تربية أطفالنا، الربوت الإلكتروني المعدني الخالي من العواطف الإنسانية المميزة! ويعتبر هذا أول بادرة من بوادر انهيار المجتمع الإنساني. مما يخلق شعوراً لدى الطفل بالانكماش العاطفي، وعدم وجود مرجعية آمنة يعود إليها في حالاته الصعبة، إضافة إلى صعوبة تعلم السلوك البيولوجي، وتعلم السلوك الاجتماعي الذي من الممكن أن يكون هشاً، وينعكس على شخصية الطفل. ونقصد بالسلوك البيولوجي عمق الإرث النفسي، ومن خلاله يمكن تطبيق الأعراف والتقاليد الاجتماعية، بينما إذا قام الروبوت برعاية الطفل، فسوف يتعلم الطفل سلوكاً آلياً تقليدياً فارغاً من معنى الإرث النفسي والاجتماعي، بحيث يتقولب سلوكه، وتكون استجابته غير مرنة، وفاقدة كل معايير العاطفة والتجاذب الإنساني، مما يؤدي مستقبلاً إلى تفكك المجتمع، والانحدار نحو الغربة والاغتراب النفسي داخل المجتمع.
◅ تقدم برامج الذكاء الاصطناعي للأطفال الحلول الجاهزة التي تبدد قدراتهم على الإبداع والتطور التزاماً منهم بتلك الموضوعات والحلول دون البحث من أجل التغيير والتجديد.
كذلك، إدمان الأطفال على وسائل الاتصال الحديثة ومنها برامج الذكاء الاصطناعي، يضعف من قدراتهم على بناء علاقات اجتماعية ناجحة مع من حولهم. أضف إلى ذلك، مرور الأطفال في مرحلة التطور العقلي والعاطفي والجسدي يجعلهم أكثر تضرراً ببرامج الذكاء الاصطناعي؛ لأنهم يحتاجون إلى التجديد المرحلي بين فترة وأخرى.
وبسبب صعوبة بعض برامج الذكاء الاصطناعي قد يصاب البعض بالعجز والانتكاسة؛ لأنها فوق طاقتهم وإمكانياتهم. إضافة إلى أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تؤثر في كثير من الأحيان على طرق تعلمهم الكلام والحديث. وبعض تلك البرامج قد تثير مشاكل لا أخلاقية إذا لم تستخدم بالشكل الصحيح.. كذلك سوف يؤثر الذكاء الاصطناعي على شخصيات الأطفال واستقلاليتهم وتطورهم على المدى البعيد.
فالإلكترونيات، وقضاء وقت كبير أمام الانترنت بالتأكيد سوف يحد من التواصل الاجتماعي مع الأطفال. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نتوقع أن تكون نسبة الدعم النفسي أقل بسبب قلة التواصل الاجتماعي؟ هل ستكون نسبة الاكتئاب أكثر؟ هل قضاء معظم الوقت على الآيباد وغيره، سيقلِّص اهتمام الأهل بأطفالهم، وبالتالي لن يوفروا لهم الحب والاهتمام الكافيين؟ لذلك يجب أن نستدرك الأمر منذ الآن، ونعمل على التوعية، حتى ولو كان الأطفال يقضون وقتهم على الآيباد بسبب الدراسة عبر الوسائل المبرمجة، فيجب علينا أن نقوم بتنظيم وقت دراستهم والجلوس معهم، إضافة إلى اللعب بألعاب أخرى بعيدة عن الانترنت، فلو تركنا الذكاء الاصطناعي يجتاح حياة الأطفال على مدار النهار دون ضابط، فسوف يكون الأمر خطيراً بلا شك.

كيف يجب علينا استغلال الذكاء الاصطناعي؟
اللافت منذ عقود أن نسبة ذكاء الطفل ومقدرته على الحفظ كانت عالية جداً، فهو يحفظ القرآن الكريم، والكثير من أبيات الشعر، وما إلى ذلك، أما اليوم فوجود البدائل الجاهزة، مثلاً فيما يتعلَّق بحلِّ مسائل الرياضيات، يعتمد على الانترنت، حتى جدول الضرب، يجده سهلاً على الشاشة، وكل الدروس محلولة أمامه.. مما يدفعه إلى الكسل، ويضعف مقدراته العقلية. علماً أنه في السنوات الأولى من عمره يمتلك ساحة فارغة يمكن ملأها بالمعلومات الهامة والأساسية بسهولة، فيجب علينا استغلال هذه الفترة الزمنية الخصبة، للاستفادة من الذكاء الاصطناعي بشكل سليم وفق ترتيبات خاصة يقوم بها الأهل والمدرسة على حد سواء.
من المهم اليوم في عالمنا تدريس المحبة والعطف والتعاون كقيم مشتركة مع كل ما نفعله في حياتنا؛ وإننا دون هذه القيم لا نُحقّق شيئاً مهما بلغنا من النجاح العلمي أو المهني. فاستثمار المواهب لصالح القيم الإنسانية، قد يزرع داخل الإنسان هدفاً أسمى، يجعله مميزاً وناجحاً في حياته العملية.
يجب تطوير البرامج التعليمية، خاصة في الروضات والمدارس، بحيث نغذِّي عقول الأطفال بشكل صحيح، وذلك من خلال برامج تدريب على الذكاء الاصطناعي نفسها، عندها سيكون تأثيره إيجابياً بلا شك. هذا ما يسمى بالوقاية التي تحمينا من المخاطر المحتملة، مما يشكِّل لدينا رصيداً فكرياً وإيجابياً، نواجه من خلاله المجتمع المتطور بشكل إيجابي؛ لأننا وصلنا إلى مرحلة الوعي الجيد للذكاء الاصطناعي.
يجب ضبط نظام حياة الطفل بشكل يومي، ليأخذ حقَّه من اللعب خاصة مع أطفال من عمره والدراسة والجلوس أمام الآيباد أو غيره بشكل محدَّد، وأخذ قسطاً وافراً من النوم.. ويكون هذاً قراراً من قبل الوالدين، لا رجعة عنه.
ختاماً نقول: إن الذكاء الاصطناعي ظاهرة تكنولوجية حضارية فرضت نفسها على صعيد العالم، هذا مما يدفعنا إلى توجيه دفة المعرفة نحو الوجهة الصحيحة لنكون قادرين على مواجهة سلبيات تلك الثورة الصناعية بكل ما نملك من وسائل لتخفيف حدة السلبيات والسير بثقة، آخذين بعين الاعتبار الأجيال الطفلية الصاعدة التي سوف يقع عليها عبء ومخاطر تلك الثورة الرقمية، فلا بد لنا من تمهيد الطريق لهم حتى يصلوا إلى بر الأمان.