الإعلام والهجرة ومسألة الهوية

صراع بين الذاكرة والواقع

د. فؤاد عبدالعزيز محمد


✧ الهجرة كظاهرة عالمية متعددة الأبعاد 

الهجرة ليست مجرد حركة انتقالية من مكان إلى آخر؛ بل هي ظاهرة عالمية معقدة تمس جميع جوانب الحياة الإنسانية، من الثقافة إلى الاقتصاد، ومن السياسة إلى الهُوية. فمنذ منتصف القرن العشرين، شهد العالم تحولات جذرية في أنماط الهجرة، حيث انتقلت من هجرات محلية محدودة إلى حركات عابرة للقارات، مدفوعة بالحروب، والاضطهاد، والبحث عن فرص أفضل. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة )2023(، تجاوز عدد المهاجرين دوليًا 280 مليونًا، وهو رقم يعكس التأثيرات العميقة لهذه الظاهرة على البنى الاجتماعية للدول المُرسِلة والمُستقبِلة.

لا تقتصر تداعيات الهجرة على الجانب الديموغرافي فحسب، بل تمتد إلى تحولات هوياتية عميقة تعيد تعريف مفهوم "الذات" و"الآخر" في سياق عولمي متشابك. فالمهاجر، بحمله تراثه الثقافي ولغته وذاكرته الجمعية، يصبح أمام تحدي التوفيق بين الانتماء إلى وطن افتراضي في الذاكرة وواقع جديد يفرض عليه إعادة تشكيل هويته في فضاء هجين. هذه الديناميكية تطرح تساؤلات جوهرية حول دور الإعلام في تسهيل أو تعقيد عملية التكيف، وكيفية توظيف التقنيات الحديثة لسد الفجوات التواصلية التي يُعاني منها المهاجرون.

أولاً: الهوية في عصر التهجير... بين الثبات والانزياح

 الهوية كبناء اجتماعي- ثقافي

تُعرَّف الهوية بأنها نسيج من التقاليد، والتجارب، والعلاقات، والقيم التي تشكل إحساس الفرد بالذات وانتمائه إلى جماعة ما. وهي عملية ديناميكية تتأثر بالتفاعلات اليومية مع المحيط، مما يجعلها عرضة لإعادة التشكيل في سياقات الهجرة. يشير "ستيوارت هول Stuart Hall, 1996" إلى أن الهوية ليست جوهرًا ثابتًا، بل هي "عملية تمثيل" تتشكل عبر الخطابات والممارسات الثقافية. في هذا الإطار، يواجه المهاجر صراعًا بين الحفاظ على هويته الأصلية وتبني عناصر من الهوية الجديدة، مما يخلق ما يُعرف بـ "الهوية الهجينة" (Bhabha, 1994).

 أزمة الهوية عند المهاجرين: العواطف والذاكرة

تعكس الهجرة ما أسماه إدوارد سعيد (Said, 2000) بـ "المنفى الداخلي"، حيث يشعر المهاجر بالاغتراب عن وطنه الأصلي دون أن ينتمي بالكامل إلى المجتمع المضيف. تؤكد دراسة غوريفا وكينونن  (Gurieva & Kinunen, 2014)أن فقدان شبكات الدعم الاجتماعي والعادات الدينية المألوفة يؤدي إلى شعور باللاانتماء، يترافق مع أعراض نفسية مثل الاكتئاب والقلق الوجودي. كما تلعب الذاكرة الجمعية دورًا محوريًا في تعزيز الحنين إلى الماضي، حيث تُخزن روائح الأطعمة، الألحان، والطقوس كرموز ثقافية تُذكِّر المهاجر بجذوره المفقودة (Kenneth & Naerssen, 2003).

 الهوية في عصر التهجير: صراع بين الذاكرة والواقع

الهوية، كما يراها عالم الاجتماع ستيوارت هول، ليست كيانًا ثابتًا، بل عملية ديناميكية من التفاوض بين الذات والآخر. فالمهاجر يحمل معه ذاكرة جمعية مليئة بروائح الأطعمة، والألحان، والطقوس، والتي تصبح بمثابة "وطن افتراضي" يواجه به واقعًا جديدًا. تُظهر دراسة غوريفا وكينونن (2019) أن 68% من المهاجرين يُعانون من صراع داخلي بين الحنين إلى الماضي ومحاولة الاندماج في المجتمع الجديد، مما يؤدي إلى أعراض نفسية مثل القلق الوجودي.

في هذا الإطار، تبرز "الهوية الهجينة" (Bhabha, 1994) كنتاج لهذا التفاعل. ففي كندا، على سبيل المثال، يُعرِّف 60% من أبناء الجيل الثاني أنفسهم بـ"الكندي-العربي"، مدمجين بين عادات آبائهم وقيم المجتمع المضيف. لكن هذه الهوية لا تتشكل بمعزل عن السياق؛ فسياسات الحكومات تلعب دورًا محوريًا. ففي ألمانيا، ساهمت برامج تعليم اللغة المجانية في تسريع اندماج اللاجئين السوريين، بينما أدت القيود الصارمة في المجر إلى عزلة اجتماعية بنسبة 58% بين نفس الفئة (UNHCR, 2022).

  العوامل المؤثرة في تشكيل الهوية الهجينة:

تشير دراسة نغوين (Nguyen, 2021) إلى أن الهوية الهجينة لا تتشكل بشكل متساوٍ لدى جميع المهاجرين، بل تعتمد على عوامل مثل:
-المدة الزمنية للهجرة: كلما طالت فترة الإقامة، زادت احتمالية تبني عناصر ثقافية جديدة.
-السياسات الحكومية: سياسات الاندماج الإيجابية تُسهِّل قبول الهوية الجديدة.
-التعرض للإعلام: الإعلام الذي يعكس التنوع الثقافي يُعزز تقبل التعددية.

  الهوية والصراع الديني والأجيالي:

تختلف تجارب الأجيال في تشكيل الهوية. فبينما يحاول الجيل الأول الحفاظ على التقاليد، يسعى الجيل الثاني إلى التوفيق بين الثقافتين. تُظهر أطروحة دكتوراة لـ "Ajrouch" أن 60% من أبناء الجيل الثاني في الولايات المتحدة يعتبرون أنفسهم "أمريكيين-عرب" بدلًا من الانتماء إلى بلد الأصل، مما يعكس تكيفًا مع الهوية الجديدة.

في مجتمعات الشرق الأوسط، يلعب الدين دورًا محوريًا في تعريف الهوية. فنسبة كبيرة من المهاجرين المسلمين في أوروبا يشعرون بأن هويتهم الدينية تُهاجم في الإعلام الغربي، مما يدفعهم إلى التشبث بها كرد فعل دفاعي. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أجرتها منظمة الهجرة الدولية (2023) أن 45% من المهاجرين المسلمين في فرنسا يرون أن الإعلام المحلي يعزز الصور النمطية السلبية عنهم، مما يزيد من شعورهم بالعزلة.
 

ثانياً: تحديات التواصل... جسرٌ فوق فجوة الثقافات

  الحواجز اللغوية والثقافية:

التواصل يُعد أحد أكبر التحديات التي تواجه المهاجرين، حيث لا تقتصر الفجوة اللغوية على صعوبة تعلم لغة جديدة، بل تشمل أيضًا الفروق الدلالية في التعبير عن المشاعر والقيم. على سبيل المثال، قد تفقد كلمات مثل "الكرامة" أو "الشرف" دلالاتها الثقافية العميقة عند الترجمة إلى لغة المجتمع المضيف، مما يُعمق الشعور بالعجز عن التعبير عن الذات. وفقًا لدراسة "أحد وبانوليسكو-بوغدان" (Ahad & Banulescu-Bogdan, 2019)، فإن 70% من المهاجرين يشعرون بأن الحواجز اللغوية تعيق قدرتهم على التفاعل مع المجتمع المضيف، مما يؤدي إلى شعور بالعزلة الاجتماعية.

  دور الترجمة الثقافية في سد الفجوة:

تُعرِّف "باسنيت" (Bassnett, 2005) الترجمة الثقافية بأنها عملية نقل القيم والمعاني بين الثقافات، وهي أداة حيوية في تعزيز التفاهم بين المهاجرين والمجتمعات المضيفة. تُظهر دراسة حالة في السويد أن المهاجرين الذين شاركوا في ورش عمل للترجمة الثقافية شعروا بتحسنٍ ملحوظ في قدرتهم على التفاعل مع المجتمع المضيف. (Lundström, 2018) على سبيل المثال، ساهمت هذه الورش في تعزيز فهم المهاجرين للعادات السويدية، مثل الاحتفال بـ"عيد منتصف الصيف"، مما ساعدهم على الشعور بالانتماء.

  وسائل الإعلام: سلاح ذو حدين

أصبحت المنصات الرقمية أداةً حيوية للمهاجرين للحفاظ على الاتصال مع أوطانهم الأصلية. فمنصات مثل "واتساب" و"فيسبوك" تتيح إنشاء مجتمعات افتراضية تعوض عن غياب الشبكات الاجتماعية المادية. ومع ذلك، يحذر "إيفرسن وآخرون" (Iversen et al., 2013) من أن الاعتماد المفرط على هذه الوسائل قد يعزز العزلة عن المجتمع المضيف، حيث يقتصر التفاعل على دائرة المهاجرين نفسها.

من جهة أخرى، يُساء استخدام الإعلام أحيانًا في نشر خطاب كراهية ضد المهاجرين. على سبيل المثال، خلال الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، استخدم دونالد ترامب خطابًا معاديًا للمسلمين والمهاجرين غير الشرعيين، مما أدى إلى زيادة التوترات العرقية. وفقًا لتقرير شبكة الصحافة الأخلاقية (2015)، ساهمت التغطية الإعلامية المشوهة في تكريس صورة المهاجر كـ"غريب مهدد"، مما يعيق اندماجه الاجتماعي.

  التحيز الخوارزمي في الإعلام:

مع تطور استخدامات الذكاء الاصطناعي، أصبح التحيز الخوارزمي (Algorithmic Bias) قضية ملحة في إنتاج الأخبار. يشير هذا المصطلح إلى التحيز غير المقصود أو المتعمد الذي تُدخله الخوارزميات المستخدمة في انتقاء الأخبار أو تخصيصها أو توليدها، مما يؤثر على محتوى الأخبار. يمكن أن يظهر هذا التحيز بعدة طرق، منها:
◂ التحيز في الاختيار (Selection Bias): قد تُرجح الخوارزميات قصصًا أو موضوعات معينة على أخرى، مما يؤدي إلى تمثيل غير متوازن للأخبار.
◂ التحيز التأكيدي (Confirmation Bias): قد تعزز الخوارزميات المعتقدات أو التحيزات الموجودة مسبقًا عن طريق توصية المحتوى الذي يتوافق مع تفضيلات المستخدم.
◂ التحيز في التمثيل (Representation Bias): قد تُهمل الخوارزميات تمثيل مجموعات أو وجهات نظر معينة، مما يؤدي إلى نقص التنوع في الأخبار.
◂ التحيز في التضخيم (Amplification Bias): قد تُعزز الخوارزميات سرديات معينة أو معلومات مضللة، مما يساهم في انتشار المعلومات الكاذبة أو المشوهة.

ومع ذلك، ظهرت مبادرات إعلامية مستقلة تديرها مجموعات مهاجرة، مثل إذاعة "ميجافوكس" في فرنسا، التي تُعطي مساحةً للمهاجرين لرواية قصصهم بلغاتهم الأصلية.(Tazzioli, 2020)  هذه المبادرات تُشكل مقاومةً للخطاب السائد وتعزز التمثيل العادل.

  التكنولوجيا والتعليم: أدوات للاندماج

تشير دراسة "غوميز" (2020) إلى أن تطبيقات مثل "دولينجو" (Duolingo) ساهمت في تحسين مهارات اللغة لدى 40% من المهاجرين في أوروبا. كما توفر منصات مثل "كورسيرا" (Coursera)  فرصًا للتعليم عن بُعد، مما يساعد المهاجرين على اكتساب مهارات تزيد من فرصهم في سوق العمل. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أجرتها "منظمة الهجرة الدولية" (2023) أن 60% من المهاجرين الذين استخدموا هذه المنصات تمكنوا من تحسين وضعهم الاقتصادي.

  الإعلام المحلي ودوره في تعزيز الحوار:

في مدن مثل برلين، تُبث برامج إذاعية بلغات المهاجرين (العربية، التركية) لتعزيز التواصل مع المجتمع المضيف. وفقًا لتقرير "راديو متعدد الثقافات" (2021)، ساهم ذلك في خفض نسبة التوترات العرقية بنسبة 25%. كما أن هذه البرامج تُبرز قصص نجاح المهاجرين، مما يعزز من صورة المهاجر كعنصر إيجابي في المجتمع.
 

ثالثاً: سياسات الهجرة وإدارة التنوع... نحو نموذج تكافُلي

  النزعة القومية وتأثيرها على سياسات الهجرة:

في العقود الأخيرة، برزت ظاهرة "النزعة المناطقية القومية" (Nativism)، التي تعطي الأولوية للمواطنين الأصليين على حساب المهاجرين. صاغ هذا المصطلح "لويس دو سيسكو" Louis Dow Scisco  في عام 1901، ليصف الحركات التي تسعى إلى حماية الهوية الوطنية من التأثيرات الخارجية. تتجسد هذه النزعة في سياسات مثل تشديد قوانين اللجوء في الاتحاد الأوروبي أو حظر السفر الذي استهدف دولًا إسلامية في الولايات المتحدة خلال إدارة ترامب. تؤدي هذه السياسات إلى تهميش المهاجرين وحرمانهم من الحقوق الأساسية، مما يفاقم أزمات الهوية والتواصل.

على سبيل المثال، في أستراليا، أدت سياسات الاحتجاز الإلزامي للمهاجرين غير الشرعيين إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب بينهم بنسبة 65%، وفقًا لتقرير "هيومن رايتس ووتش".Human Rights Watch, 2019  كما أن هذه السياسات تعزز الصور النمطية السلبية عن المهاجرين، مما يزيد من التوترات الاجتماعية ويعيق عملية الاندماج.

  نحو إعلامٍ مسؤول: توصيات عملية

أصبح الإعلام سلاحًا ذا حدين في سياق الهجرة. فمن ناحية، تتيح المنصات الرقمية مثل "فيسبوك" و"تليجرام" للمهاجرين الحفاظ على تواصلهم مع أوطانهم، بل وإنشاء مجتمعات افتراضية تدعمهم نفسيًا وثقافيًا. ففي دراسة أجرتها "منظمة الهجرة الدولية" (2023)، أفاد 75% من المهاجرين بأن هذه المنصات ساعدتهم على تجاوز الشعور بالوحدة. ومع ذلك، يُستخدم الإعلام أحيانًا كأداة لتضخيم الخطابات المعادية. ففي الحملات الانتخابية الأخيرة في أوروبا، روَّجت بعض الأحزاب لصورة المهاجر كـ"غريب يسرق الوظائف"، مما أدى إلى زيادة حوادث التمييز بنسبة 40%، وفقًا لتقرير "شبكة الصحافة الأخلاقية" (2023).

في هذا السياق، تبرز أهمية الإعلام البديل، مثل إذاعة "ميجافوكس" في فرنسا، التي يديرها مهاجرون لنقل قصصهم بلغاتهم الأصلية. تسهم هذه المبادرات في إعادة التوازن للسردية الإعلامية، مما يحسن صورة المهاجرين ويعزز اندماجهم. بناءً على ذلك، يمكن اقتراح الاستراتيجيات التالية:
◅ تدريب الصحفيين: تدريب الصحفيين على تغطية قضايا الهجرة بحساسية ثقافية، وتجنب المصطلحات المُجحفة مثل "غزو المهاجرين" (EJN, 2015).
◅ إنشاء منصات حوارية: إنشاء منصات تتيح للمهاجرين مشاركة قصصهم مباشرةً، مثل برامج الإذاعة المجتمعية أو المدونات التفاعلية.
◅ تعزيز الإعلام الثقافي: تسليط الضوء على إسهامات المهاجرين في التنمية الاقتصادية والتنوع الفني، كما فعلت ألمانيا في حملاتها لدعم اللاجئين السوريين.

رابعاً: وسائل التواصل الاجتماعي وتشكيل الهويات الجديدة

  الفضاء الرقمي كملاذٍ للهوية الهجينة:

في عصر الرقمنة، كما أسلفنا، أصبحت المنصات الاجتماعية مثل "إنستغرام" و"تيك توك" فضاءاتٍ للمهاجرين لبناء هويات جديدة تعكس التعددية الثقافية. تُظهر الدراسات أن المهاجرين الشباب يستخدمون هذه المنصات لعرض مزيجٍ من العادات التقليدية والعناصر الحديثة، مما يُعزز مفهوم "الهوية العابرة للحدود" (Transnational Identity). وفقًا لدراسة أجرتها "بارك وجريتس" (Park & Gerrits, 2021)، فإن المحتوى المرئي (مثل الفيديوهات والصور) يحقق تفاعلًا أكبر بنسبة 70% مقارنةً بالنصوص، مما يجعله أداة فعالة لتعزيز الهويات المركبة.

ومع ذلك، يحمل الفضاء الرقمي مخاطر مثل تعزيز الصور النمطية. ففي بعض الحالات، تُستخدم الخوارزميات لتضخيم المحتوى الذي يصور المهاجرين كـ"ضحايا" أو "مهددين"، مما يعيد إنتاج الخطابات الاستقطابية. على الجانب الآخر، تظهر ظاهرة "الرقمنة الانتقائية"، حيث تعرض المنصات الرقمية بشكلٍ انتقائي قصص المهاجرين الذين يتوافقون مع الصور النمطية السائدة، مما يُهمش التنوع الحقيقي.

  التكنولوجيا كأداة للاندماج النفسي والاجتماعي:

ظهرت في الآونة الأخيرة تطبيقات مخصصة لدعم المهاجرين نفسيًا واجتماعيًا، مثل "ALMHAR"  و"SMILERS"، التي توفر استشارات نفسية بلغات متعددة. وفقًا لتقرير "منظمة الصحة العالمية" (2022)، ساهمت هذه الخدمات في خفض معدلات القلق بين المهاجرين بنسبة 30%. كما أن هذه التطبيقات تُسهم في تعزيز الشعور بالانتماء من خلال تقديم محتوى يعكس ثقافات المهاجرين.
 

خامساً: دراسات حالة.. نجاحات وإخفاقات

كندا: نموذج للتكامل الثقافي

تبنت كندا سياسات تدمج المهاجرين عبر برامج تعليم اللغة وفرص العمل، مما خفض معدلات العزلة الاجتماعية بنسبة (Government of Canada, 2021) 40%  ويُعتبر الإعلام الكندي شريكًا في هذا النموذج عبر برامج تُظهر تنوع الثقافات، مثل مسلسل "الهجرة: قصص كندية"، الذي يعرض تجارب مهاجرين حقيقيين. وفي مقاطعة كيبيك، ساهمت القنوات الناطقة بالفرنسية في تعزيز تقبل المهاجرين المغاربة عبر برامج تُبرز تشابه الثقافاتTremblay, 2020.

اللاجئون السوريون في أوروبا: تحديات الاندماج

على النقيض، واجه اللاجئون السوريون في دول مثل المجر صعوبات في الاندماج بسبب الخطاب الإعلامي المعادي، الذي صورهم كـ"عبء اقتصادي".(UNHCR, 2016)  أدى هذا إلى ارتفاع نسبة البطالة بينهم إلى 58%، مقارنةً بـ12% بين السكان الأصليين. في المقابل، أطلقت اليونان برنامجًا تدريبيًا للصحفيين بالتعاون مع المفوضية الأوروبية لتحسين تغطية قضايا اللاجئين. بعد عامين، انخفضت نسبة التقارير السلبية من 68% إلى 32% EC, 2020.

النموذج السويدي: الاندماج عبر التعليم

في السويد، تقدم الحكومة دورات لغة مجانية للمهاجرين، مما ساهم في انخفاض معدلات البطالة بينهم إلى 18% (Swedish Migration Agency, 2021)  توفر مدارس "SFI" السويدية ثلاثة مستويات لتعليم اللغة، مع دمج مواد عن الثقافة السويدية. ومن النتائج الملموسة لهذا البرنامج أن 65% من الخريجين حصلوا على وظائف خلال سنة من التخرج.

اليابان: تحديات الثقافة المغايرة

على عكس النماذج الغربية، تواجه اليابان صعوبات في دمج المهاجرين بسبب ثقافتها المغلقة. وفقًا لوزارة العدل اليابانية (2023)، يعيش 2.8 مليون أجنبي في اليابان، لكن 60% منهم يشعرون بالعزلة. الإعلام الياباني يعزز هذه العزلة من خلال تصوير المهاجرين كـ"ضيوف مؤقتين"، مما يعزز فكرة أن الاندماج غير ضروري. ومع ذلك، هناك استثناءات مثل برنامج "عالم واحد" على قناة NHK، الذي يسلط الضوء على قصص نجاح لمهاجرين أسسوا مشاريع صغيرة، مثل مقهى "دمشق" في طوكيو (NHK, 2022).

 

 الهجرة كفرصة للتجديد الحضاري 

التحدي الأكبر ليس في إدارة تدفقات الهجرة، بل في إعادة تعريف مفاهيم "الانتماء" و"المواطنة". ففي السويد، نجحت برامج التعليم المجاني في خفض بطالة المهاجرين إلى 18%، بينما فشلت اليونان في دمج اللاجئين بسبب الخطاب الإعلامي السلبي.

ليست الهجرة مجرد أزمة ديموغرافية، بل هي اختبارٌ لقدرة المجتمعات على التحول نحو نموذجٍ أكثر شمولية. فالتحديات التي يفرضها المهاجرون —من التواصل إلى الهوية— تدفعنا لإعادة النظر في مفاهيم الثابت والمتغير، المحلي والعالمي. هنا يبرز دور الإعلام كجسرٍ بين الثقافات، وقوة دافعة لتعزيز الحوار بدلًا من الصراع. إن إدارة الهجرة بمنهجية إنسانية وعادلة ليست مسؤولية الحكومات فحسب، بل هي واجبٌ أخلاقي يُشرك الأفراد، المؤسسات، والإعلام في بناء عالمٍ يتسع للجميع.

الخلاصة أن الهجرة ليست مشكلةً يجب "حلها"، بل فرصةٌ لإثراء المجتمعات. فكما يقول المفكر "إدوارد سعيد": "الهجرة هي رحلة البحث عن الذات في عالمٍ يرفضها". وهذا يتطلب تعاونًا بين الحكومات، والإعلام، والمجتمع المدني لبناء عالمٍ لا يرى في المهاجر "غريبًا"، بل شريكًا في صناعة المستقبل.

 


المراجع
    ▪    Ahad, A., & Banulescu-Bogdan, N. (2019). Communicating strategically about immigrant integration: Policymaker perspectives. Migration Policy Institute Europe.
    ▪    Ajrouch, K. J. (1997). Ethnicity, gender, and identity among second-generation Arab-Americans: Growing up Arabic in America (Publication No. 9815263) [Doctoral dissertation, Wayne State University]. ProQuest Dissertations & Theses Global.
    ▪    Amnesty International. (2023). Labor rights in the Gulf.
    ▪    Bassnett, S. (2005). Translation studies. Routledge.
    ▪    Bhabha, H. K. (1994). The location of culture. Routledge.
    ▪    El Tarabishi, M., & Habib, M. Y. (2024). The role of artificial intelligence in shaping the future of media production and the application of algorithm bias theory in storytelling. Journal of Media and Interdisciplinary Studies, 8, 45-62.
    ▪    Ethical Journalism Network. (2015). Covering the refugee crisis.
    ▪    European Commission. (2020). Media for integration: Greek case study.
    ▪    Gillespie, M. (2018). Algorithmic bias and migration narratives. Social Media & Society, 4(1), 62–75.
    ▪    Goldfield, D. (2007). Nativism. In Encyclopedia of American urban history (pp. 521-522). SAGE Publications, Inc.
    ▪    Government of Canada. (2021). Annual report on immigration and integration.
    ▪    Gurieva, S., & Kinunen, T. (2014). Migration and mental health: A comparative study. Journal of Cross-Cultural Psychology, 45(2), 180–195.
    ▪    Gurieva, S., & Kinunen, T. (2019). Identity crisis in migration. Journal of Cross-Cultural Psychology, 56(3), 301-318.
    ▪    Human Rights Watch. (2022). Australia's detention policies.
    ▪    Human Rights Watch. (2023). Breaking the Kafala: Reforms and realities in the UAE.
    ▪    InfoMigrants. (n.d.). Apps for refugees suffering psychological trauma and depression. https://www.infomigrants.net/en/post/8582/apps-for-refugees-suffering-psychological-trauma-and-depression
    ▪    Iversen, M., Smith, A., & Johnson, P. (2013). Digital media and migrant networks. Oxford University Press.
    ▪    Lundström, C. (2018). Cultural translation workshops in Sweden. Nordic Journal of Migration Research, 8(3), 134-142.
    ▪    Media Helping Media. (n.d.). Dealing with algorithmic bias in news. https://mediahelpingmedia.org/advanced/dealing-with-algorithmic-bias-in-news/
    ▪    Nguyen, L. (2021). Hybrid identities in the digital age. Cambridge University Press.
    ▪    NHK. (2022). Documentary: Damascus café in Tokyo [Film].
    ▪    Okoronkwo, C. (2024). Algorithmic bias in media content distribution and its influence on media consumption. International Journal of Social Sciences and Management Review, 7(2), 118-135.
    ▪    Park, S., & Gerrits, L. (2021). How migrants manifest their transnational identity through online social networks. Comparative Migration Studies, 9(10), 1-18.
    ▪    Said, E. (2000). Reflections on exile. Harvard University Press.
    ▪    Study Rocket. (n.d.). Representation theory - Hall. https://studyrocket.co.uk/revision/a-level-media-studies-eduqas/advertising/representation-theory-hall
    ▪    Swedish Migration Agency. (2021). Integration through education: A five-year review.
    ▪    Tazzioli, M. (2020). Migrant-led media initiatives in Europe. Pluto Press.
    ▪    Tremblay, J. (2020). Media and multiculturalism in Quebec. Canadian Journal of Communication, 45(2), 77-94.
    ▪    United Nations. (2018). World migration report 2018.
    ▪    United Nations. (2023). Global migration trends report.
    ▪    United Nations High Commissioner for Refugees. (2016). Syrian refugees in Europe: Challenges and responses.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها