جماليات اللغة الروائية

في رواية "شمس نيسان" لرشيد الخديري

عزيز العرباوي


اكتسب الكاتب والناقد المبدع المغربي رشيد الخديري تجربة كبيرة في مجال الكتابة الأدبية والنقدية، حيث استطاع أن ينوع من مجالات إبداعاته شعرًا وسردًا ونقدًا وفكرًا، خلال مدة زمنية ليست بالطويلة؛ فأنتج أعمالًا إبداعية ونقدية متميزة أبانت عن شخصية مثقفة ومبدعة، ارتبطت بحجم ما أنتجه بصفته مثقفًا بالدرجة الأولى، ثم بصفته مبدعًا وناقدًا ومفكرًا متذوقًا عالمًا بحاجات قارئه المفترض. ولقد تبلورت مراحل الإبداع الأدبي عند رشيد الخديري فاندرجت في إطار حقيقي من الأفكار والمعارف والتصورات لواقع مجتمعي مليء بالتجارب الإنسانية الجديرة بالتأمل والتفكّر والاكتشاف.
 

ينهل رشيد الخديري من ذاكرته التي تحمل العديد من الأفكار والمعارف المرتبطة أساسًا بتجربته الإنسانية وبعلاقاته المتعددة؛ فهو يستدعي وعيه بالمحيط والإنسان والطبيعة، وتجارب الحياة والعادات والتقاليد والتراث. كما يغرف من قراءاته المتعددة أشكال التعبير الإبداعية والفكرية التي يعبر عنها تارة شعرًا، وتارة سردًا، وتارة أخرى نقدًا وفكرًا واعيًا بالواقع الاجتماعي الذي يعيشه. بل يتأكد لنا أن الكتابة الأدبية عنده عمومًا، والسردية خصوصًا، هي وسيلة للتفكير القريب من تجربة الإنسان على المستوى الجمالي والفني والثقافي معًا؛ حيث تصير الصورة المعبَّر عنها أقرب إلى التجربة والبيئة والمحيط وفق نظرة روحية للعالم.

إن الكتابة الأدبية عند الخديري قائمة على رحلة ثقافية وفكرية وجمالية تحظى بمقامات التفكير، حيث الكتابة بالعاطفة الإنسانية والشعور المرهف بمشاعر الآخر بمختلف تجلياته. ورغم أن هذه الكتابة تتلون بمتخلف تلاوين التجربة الذاتية؛ فإنها تمتزج بشكل أو بآخر بعوالم الروح والنفس والحب والعاطفة الجياشة والشعور الخاص بحاجيات الإنسان الحقيقية وعلاقاته المشروطة بالنقاء والصفاء.
 

شمس نيسان: تساؤلات وجماليات الكتابة

تتشكل الكتابة الروائية عند رشيد الخديري في روايته الجديدة "شمس نيسان" الصادرة مؤخرًا عن منشورات دار السلام الجديدة بالدار البيضاء؛ حيث يحكي السارد في النص حكايته الخاصة، حكاية الذاكرة الفردية، ذاكرة تتماهى مع الخاص والعام في الحياة، حياة السارد نفسه. وكأننا به يقدم لقارئه تركة ثقيلة عليه يرغب في التخلص منها والتي لا تنفك مغادرة مخيلته وذاكرته، وفق نسق تخييلي يطمح إلى نقل آفاق للتفكير والسؤال المعرفي المحقق للدلالة والمعنى العميق.

إن وعي السارد بحالته النفسية يمهد لأسلوب سردي مختلف يتضمن محتوًى روائي مليءٍ بالأفكار والمعارف الخاصة التي ترتبط أساسًا بتجربة السارد، وتجربة الروائي نفسه.

إن الحديث عن رواية "شمس نيسان" يحقق لدينا ملذة قرائية تقدم لنا متعة معرفية، تحيلنا على إدراك مجموعة من الأفكار الرائجة في النص، إضافة إلى ما يمكننا أن نفهمه في إطار الحكاية المؤطرة التي تؤسس لأحداث اجتماعية مفعمة بالعاطفة الجياشة والرغبة في الآخر بشكل يوحي باستغراق السارد في كشف تفاصيل العلاقة التي تجعلنا ننفذ إلى مشاعر الشخصيات الروائية وعواطفها القوية. "ظللتُ لثوانٍ ثابتًا في مكاني. أحدق مليًا في هذا الوجه المشرق. اسم على مسمّى. لا تكاد تخطئ العين هذه النضارة التي تحيط بالوجه: شروق فتاة في العشرينات، بشرة بيضاء، ذات عينيْن بندقيتيْن واسعتيْن يشع منهما حزن شفيف، وثغرٍ كرزيّ شلاليّ داكن مائل إلى السواد. كانت حريرية الملمس، متأنقة بشكل مدهش: وزرة وردية اللون، حذاء جلدي خفيف، ومنديل أرجواني مطرز بالأبيض ملفوف حول العنق".

يستند الخديري في روايته على لغة روائية تنحو نحو اللغة الشعرية في العديد من المحطات، حيث الاحتفاء بجمالية العبارة والجملة، والهروب إلى اللغة الدالة على المعنى اللانهائي المحلق في عالم الكتابة السردية المبدعة. فتتراءى لنا لغةً تخترق حواجز الغموض من أجل الإنصات إلى الآخر كاعتراف ضمني بالخطيئة، خطيئة العشق والبحث عن الشهوة واللذة العابرة. وفي هذا الإطار، تترك الذات الساردة الفرصة لباقي الشخصيات الروائية بالتعبير عن مشاعرها وعواطفها وتصوراتها الفكرية.

يكشف الروائي في النص رؤى متعددة للسارد حول العاطفة الجياشة، ومدى شعوره الكبير بالطرف الآخر، وبوجوده القوي في حياته، من أجل بناء الأحلام في قلبه على صيغة أسئلة تحمل أوجه العشق الحقيقي والمتحكمة في تفاصيل حياته؛ إنها الأنثى القادرة على الإجابة على هذه الأسئلة من طرف العاشق وخلق منطقة سرية لخلخلة الثوابت الكامنة في قلبه وتكسير الحواجز الواقفة أمام العاشق المتردد. هنا نحصل على تأملات السارد البعيدة في أفق المحبة والوله واستيعاب الآخر المحبوب بشكل يوحي بمشاعر قوية مثيرة تتجسد في تعبيراته الخاصة داخل النص الروائي وتمثل صورة العاشق المنصهر في عالم الحب وتشكلاته المتعددة.

لقد لجأ الروائي على لسان سارده إلى سرد تفاصيل مباشرة عن العشق، عن رجل يعشق امرأة جميلة أخرجته من قسوة الحياة وجعلته يؤمن بقدرة الحب على خلخلة النفس الغامضة والذات المتصلبة. بل يحتفي بهذه الذات المتقلبة التي أُخرجت من عوالم الغموض والتصلب والخوف والحزن، يقول السارد في الرواية: "إخلاص، إننا نولد من أجل الكمال. البحث عن نصفنا الغامض الأنثوي المفقود بين ثنايا الذاكرة. التورط المفرط الجميل في خلق إنسانياتنا، في مقاومة الخواء الداخلي الهش، صدقيني، تألمت كثيرًا لرحيلك، أكان ضروريًا أن ترحلي؟ يا عزيزتي، إن القدر أوجدني في طريقك. في قلبك مثل النور المشاع، ولا يمكن لأي قوة، أن تنزع بذور حبك من قلبي".

هناك تراسل نسقي في الأحداث داخل النص الروائي، حيث تنتقل تفاصيل ومشاهد الحياة الخاصة بالسارد وعلاقاته العاطفية من ماهية تشكلت في زمن الشباب والطيش إلى ماهية متجسدة في الإحساس بالإنسانية والنضج وقوة الإرادة في اتخاذ القرارات دون خوف أو تراجع. فمنطقه العاطفي فرض عليه التأسي على ما فات وما عاشه في فترة زمنية من عمره وحياته الطلابية التي قضاها في الجامعة، وما شعر به تجاه حبيبته التي ندم على التخلي عنها وهجرها بسهولة؛ وهنا يتجلى نوع من الامتحان الذي رسب فيه بامتياز.

جمالية اللغة السردية في الرواية

تقف وحدة الأثر اللغوي في الرواية عند المعجم المستخدم والرصيد اللغوي الغني بالدلالات، والمعاني القوية التي تشعر القارئ بلذة القراءة ومتعتها، حيث يتشكل لديه في النهاية نوع من التأثير والتوجيه لإعادة تأويل النص وأفكاره، ومواقفه الإنسانية المتعددة داخله. ومن هنا ينبغي علينا الاتكاء على فعل القراءة وطبيعتها القائمة على سبر أغوار النص وفاعليته اللغوية، ومستويات تشكلها المحققة للدلالة من أجل الوصول إلى المعنى المراد تقديمه للقارئ في النهاية.

إن الروائي عندما يستنطق السارد في النص الروائي يكون قد جعله يبوح بأسراره وكفاءته اللغوية التي من خلالها يحاول إقناع الطرف الآخر، محبوبته بكلامه المعسول الذي يتوسل الشعر الجميل والكلام المنغم القادر على إثارة مشاعرها واستغلال عواطفها الجياشة تجاهه حتى تسقط صريعة لعشقه الجميل. فلغة النص هي لغة شعرية تتمثل جمالياتها من قدرة الروائي الشاعر الذي يعرف أسرار الشعر والنثر معًا، وأسرار اللغة السردية التي تثير القارئ حتى يشركه في القراءة وإعادة الإنتاج، إنتاج نص روائي مختلف من خلاله يستطيع فهم ما يكتبه وما يعبر عنه كعاشق من طينة الكبار.

تتأكد جمالية اللغة الروائية في النص من خلال ما يبرز في لغة السرد والوصف، حيث تتميز كلغة مبدعة يتحسن أداؤها من خلال تسريد الفكرة والموقف والعبارة حتى يشعر القارئ بلذة القراءة وإثارتها؛ وفي هذا الإطار نستحضر مقطعًا جميلًا من النص: "لم يبق في داخلي سوايْ. تشقق مريب. هدم للذة العيش. ماذا أستطيع أن أفعل الآن؟ أشعر أنني غارق في عالم رديء عدمي، ولا أكاد أصدق. مجرى حياتي لم يتغيرْ. طويل كنفق مظلم وشاق كذاكرة المحبين المتعبين، لكن، لا بد أن يأتي يوم تتغير فيه الأقدار، وتهوي الكآبات إلى وادٍ سحيق". هنا نشعر مع السارد أن لغة الرواية هي لغة مفعمة بالحيوية والشعرية التي تتأكد قوتها الإبداعية وجماليتها من خلال اختيار العبارة والكلمة المعبرة بشكل أو بآخر عن إمكانيات الروائي نفسه على تحويل إبداعه الشعري إلى إبداع سردي جميل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها