شريطُها الأسود..  قصة قصيرة

أيمن رجب طاهر

أمام شباك صرف المعاش، يفرد كفه على الماسورة الفاصلة بينه وبين طابور السيدات؛ يشعر ببرودة الحديد، يشيح بوجهه للغط رفاقه العجائز المكرور عن فقدان الزوج وهجر الأولاد ونوبات المرض، تعتدل رقبته فتصطدم عيناه بصلعة العجوز الواقف أمامه، في تأففٍ يبتلع ريقه، استشعر صقيع أصابعه وحين همّ برفع كفه جثمت يدٌ دافئة عليها، التفت فرآها ترفع كفها وابتسامة معتذرة ترتسم على شفتيها النحيلتين، أومأ لها فاعتدلت في وقفتها، استباحت نظراته وجهها الممتلئ بعض الشيء وبقية من جمال آفل تخفيه تجاعيد وليدة، خطوطٌ بيضاء تخالط سوادَ شعرها القصير وتنبئ بوقوفها معه على أول درجات الستين.

يهتزّ قلبه لذلك الوجه شبه المألوف، ترددت أصداء ملامحها بين دروب سنواته الفائتة، اعتصر تلافيف ذاكرته، تاه بين كهوف النسيان، انتبه لوقوفهما أمام الشباك والموظف يمد يده، ناوله البطاقة، أناملها تمسك ببطاقتها فحول عينيه لتلتقط نظراته اسمها.. أفاق على الأوراق المالية التي تلقى أمامه، انشغل بالتوقيع في الكشف، لم يعطه الواقف خلفه فرصة للتلكؤ، لم يلبث أن فارق الطابور الطويل، دون أن يعد نقوده وضعها في جيب بذلته، ضاق صدره من رائحة دخان السجائر فخرج من الغرفة الخانقة، استنشق هواء الشتاء البارد فاستراحت رئتاه لنسمات الصباح الرطبة، في تؤدة سار نحو الرصيف المقابل، انتظر خروجها وهو يشحذ ذاكرته، بين لحظة وأخرى ستخرج ويسألها أين تقابلا، اتسعت عيناه لظهورها المتوقع، خطا نحوها لكن صوت آلة التنبيه جعله يتقهقر خطوتين للخلف.

 أشارت بيدها، التاكسي الذي وقف واستقلته كان أسرع من ساقيه الواهنتين، وقف مكان قدميها ورياح باردة ترشق جسمه الممصوص، شعر بدوار خفيف فأغمض عينيه وفتحهما لومضات ذاكرته التي انتعشت فدق قلبه لوجه الفتاة جارته الصغيرة التي كانا يجريان سوياً حتى باب المدرسة، يطارد ضفيرتيها المربوطتين بشريطٍ أسودَ، يظل طوال وقوفهما في طابور الصباح يتأمل الشريط المختلف عن كل فتيات المدرسة اللاتي يربطن ضفائرهن بأشرطة زرقاء أو حمراء أما هي فكانت (فيونكة) شعرها مميزة بشريط حريري أسود، في وقت العودة يهرولان على أكياس القطن الممطوطة بالشونة خلف المدرسة، ضحكاتهما الرائقة ترن، يتقافزان بين كيسين كبيرين، يشد شريطها الأسود فتنفلت ربطته، تقف أمامه وتسمح له أن يعيد عقد الأنشوطة الصغيرة، يتعمّد ملامسة خدها الأملس فتبعد وجنتها ويجريان.

حين يمر بدراجته ويرى شرفة البيت مفتوحة، يضغط على البوق فينطلق صوته الشبيه بصياح البط، تُطل بقامتها القصيرة وتشير إليه، اعتاد غيابها طوال إجازة الصيف فينتظر على أحرّ من الجمر عودتها، لكن بعد انقضاء أيام الإجازة الأخيرة ظلّ باب شرفتها مغلقاً وعلى حبل الغسيل تركت شريط شعرها مربوطاً، لم يطق أن تبهته أشعة الشمس المحرقة فتسلق الشجرة القريبة، تعلّق بأقرب غصن ليصل إليه، فك رباطه وحين همّ بالنزول سقط جوار دراجته..

أفاق على أبواق السيارات وهو يعبر الشارع في سرعة، اتسعت خطواته نحو البيت، في نشاط صعد درجات السلم، بأصابع مرتعشة فتح الباب متهيِّئاً للوقوف على الكرسي أمام السندرة، سحب صندوقاً قديماً، احتضنته ذراعاه، وضعه على المنضدة، مفصلاته القديمة تئز، استنشق رائحة الذكريات البعيدة، عبثت أصابعه بين الأشياء إلى أن قبض على مظروفٍ أصفرَ قديم، فتحه وسحب الشريط الأسود، خفق قلبه واتسعت ابتسامته، أعاد لفه واضعاً إياه في جيب البذلة الأيسر، أراح رأسه على الصندوق المغلق وهو ينتظر انقضاء أيام الشهر الثقيلة، تلاقت رموشه ولا تزال يده تستشعر دفء كفها، حلم أنه يفرد شريطها الأسود أمام عينيها فتبتسم وهي تفتح حقيبتها وتخرج القلم الأخضر الذي أعطاه لها قبل هجرتها بوقت قصير.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها