في ضيافة مصر الأيوبية

رحلة الشاعر ابن سعيد الأندلسي

حسام نور الدين

هكذا كانت أول أبيات المؤرخ الرحالة والشاعر/ علي بن موسى بن محمد بن سعيد الأندلسي (610 -685هـ)، عند بَدء رحلته، متجهاً للفسطاط من قاهرة المعز، في فصل من فصول السِفْر الثمين (المُغَرِب في حُلَى المَغرب)، الذي تعاونت في كتابته عدة أجيال من أسرة واحدة، بدءاً من سنة 550 هجرية/ 1135 ميلادية، حينما كتبه عبد الله الحجاري باقتراح من عبد الملك بن سعيد، ثم واصل العمل فيه أبناؤه وأحفاده، وآخرهم شاعرنا ومؤرخنا علي بن سعيد الذي اختص بكتابة كتاب ضمن السِفر الموسوعي المذكور، بعنوان: (الاغتباط في حُلى مدينة الفسطاط)، وقت حضوره القاهرة عام 641 هجري/ 1243 ميلادية.

فمذ وطئت قدماه باب زويلة؛ فوجئ بأنه لا مفر من ركوب الحمار، للانتقال إلى الفسطاط، فنلمحه بعين المخيلة يروح ببصره يَمْنة ويَسْرة، يساوره القلق من خشونة حركة الحمار يسوقه مُكاري فظ، لا يعبأ بزوابع الأتربة التي يثيرها، سالكاً طريقه بين ارتفاع وهبوط، وهو يتفاهم مع حماره في علاقة (مُبرمجة) بحكم الاعتياد، فينكزه، وينغزه، يلكزه، وبسوطه يلسعه، صارخاً فيه، ليفز، ويُسرع، فيزمزم الحمار، أو يعود لصمته الوقور، بعدما ينهق نهقة تذمر عابرة، في حين يتأرجح على ظهر الحمار المهموم مؤرخنا الأندلسي ربيب القصور، يتذبذب جسده، ويتهزهز، كطفل تهدهده أمه في مهده الهزاز، فتصطك الدنانير الأيوبية في سُرته، كأنها تفزع، ثم فجأة تنكفئ قامته للأمام وتتقوس، يكاد أنفه يَلُز بأذن الحمار العرقان، بينما لا تصادف عيناه سوى أسوار حجرية تسد مرمى بصره، وحوائط شبه حلزونية شاهقة تسجن أنفاسه، من درب لدرب أضيق، لذا كتب عن القاهرة:
"هذه المدينة اسمها أعظم منها، وكان ينبغي أن يكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته، ومن عيوب القاهرة أنها في أرض النيل الأعظم، ويموت الإنسان فيها عطشاً لبعدها عن مجرى النيل لئلا يصادرها ويأكل ديارها، وجَوُها لا يبرح كدراً بما تنثره الأرجل من التراب الأسود...".

وهو الرأي الذي وصفه المقريزي بالتحامل الشديد، مع إجلاله الجم لكتاب العلَّامة الأندلسي.

بعدها قرر أن يكمل طريقه ماشياً نحو ميلين، يشده فضول تَشَوّفِه وطبيعته الشاعرة عن منفذ يرى منه مجرى مياه النيل، حتى اقترب من مدخل الفسطاط، فلم يجد -واقعياً- ما قرأه عنها من كلمات التمجيد التي دونها لنا في كتابه لأهم زائريها، مثل: (ابن خداي، وابن حوقل، وعمر الكندي، والصحابي أبي بصرة الغفاري، وغيرهم).

فكأنه قد سأل نفسه، متعجباً:
- أهذه هي الفسطاط التي مجدوها بكل هذا الافتتان؟

ويستكمل السير، معايناً ملامح المدينة، فلم يكن من حفنة المؤرخين السطحيين الذين انتقدهم ابن خلدون ووصفهم بأنهم: (يجلبون الأخبارَ عن الدّول، وحكاياتِ الوقائع في العصور الأول، صوراً قد تجرّدت عن موادّها، وصفاحاً انتضيت من أغمادها) يقصد نقل أخبار جامدة، وحوادث مجردة ومبتورة من لُحْمة وسياق واقعها المُعاش، فها هو ابن سعيد يكتشف مدخل المدينة بعقله وحواسه؛ إذْ يشتَم رائحة الصابون النفاذة في مصانع الفسطاط المنتشرة، ويرى على حافة النهر مَرسىَ السفن تستقبل البضائع، ثم يتأمل بإعجاب قصر الملك الصالح أيوب، بجزيرة الروضة، تنعكس صورته على صفحة النيل الرقراقة، وبين التفاته وأخرى يلوح له في العمق بكبرياء جامع الفسطاط، فتجيش نفسه بتيار الشعور الروحاني، متناسياً ما نفرت منه نفسه، داخل صحن الجامع العتيق، مما لاحظه من الوسخ والإهمال، وتعَشُش بيوت العناكب أعلى حيطانه.

ونحس من وراء كلماته برعشة وجدانية، ترفرف معها طيور الحنين مع طيف أول يمامة وطئت أرض هذا الموضع، فكان قرار الفاتح عمرو بن العاص، فور أن رآها، بجعل هذه البقعة موطن بناء أول (جامع كبير) في مصر وإفريقيا، تنطلق منه صيحة الصلاة، وتصدح فيه أول حروف القرآن الكريم، ثم يزيح ابن سعيد الستار عن مسرح الماضي العريق يتنسم فيه شذى الصحابة الذين فتحوا مصر، كالصحابي/ عبد الله بن عمرو يقيم دروسه العلمية، ليُعرَّف أهل الفسطاط بالدين الجديد، ويعلمهم علومه الشرعية، وتتسع حلقات الجامع، وتتفرع إلى حلقات أدبية، ومناقشات حامية فكرية، عبر سنوات تطويها قرون، تنسكب فيها سليقة العربية، في قلب ووعي ولسان أهل الفسطاط، ويضم جامعها بيت المال، ومجلس القضاء (بيت العدل)، ومقصد طلاب العلم، على يد أكبر الفقهاء، فنسمع صيحة الشافعي، في حلقته بالجامع:
- إذا صح الحديث فهو مذهبي، فالشرع عندي إما نص، أو قياس على النص.

فيتحول تدريجياً أغلبهم من مذهب مالك، للمذهب الشافعي. وفي زمن تالِ يُلقي المتنبي أشعاره بجوار جامعها، فيتلقف صدى أشعاره أهل الشعر، حتى يخترق جلستهم بمقصورة الجامع ابن سيبويه المصري (الناقد الأريب بالقرن الرابع الهجري)، موضحاً نقاط الضعف في أبيات المتنبي، فينهره علماء آخرون، ويردون على حُجته، وقبلها يتلو الشاعر الظريف/ المريمي أشعاره الوصفية في مدح خمارويه، وهكذا يطوف بنا الكتاب على طائفة من أنبغ الشعراء ممن لقيهم شاعرنا بنفسه، أوسمع عنهم، مثل: ناصر الدين بن شاور، وابن الكيزاني المعتزلي، وهو أهم شاعر صوفي بالقرن السادس الهجري الذي لم يفارق جبل المقطم، وله ديوان كان يباع كثيراً في أسواق الفسطاط والقاهرة لسهولته. ثم تلحق بالفسطاط فتنة خلْق القرآن الكريم، فيرفضها أهلها، فيعلق العباسيون رؤوس الثوريين على المشانق في جامعها الأثير... ثم نتعرف في رحلة الكتاب على قرار غلق الجامع لفترة، من قِبل الإخشيد، بعدما انفلت زمام المناقشات المستعرة في الجامع (أعظم ملتقى ديني وأدبي في مصر وقتها).

وتنسجم أسارير ابن سعيد بحكم نشأته الأندلسية لجاذبية الطبيعة في الفسطاط، فوصف جمال بركة الفيل، وبركة الحبش المزدانة بالزوراق على ساحل النيل، وكان يصحبه في طوافه أبرز شعراء مصر/ أبو الحسين الجزار، فسجل لنا ابن سعيد قصائدَه، وأشاد بكرم ونبل أخلاقه، وتعففه (أي الجزار) عن ذكر الخمر في كتاباته، وقد أقام العلامة الأندلسي في شرق قرافة الإمام الشافعي، حيث تستوطن وقتها منازل الأثرياء بالفسطاط، وفيها أشهر متنزهاتهم، بالرغم من حياة القبور المجاورة، فانفعلت قريحته الشعرية، لسحر ليالي القرافة القمرية، فكتب:
إن القرافة قد حوت ضدين من
دنيا وأخرى فهي نعم المنزلُ
كم ليلة بتنا بها ونديمنا
لحنٌ يكاد يذوب منه الجندلُ
والبدر قد ملأ البسيطةَ نُورُه
فكأنما قد فاض فيها جَدولُ

وإن كان المحقق الدكتور/ زكي محمد حسن في مقدمته الضافية للكتاب (مطبعة جامعة فؤاد الأول– القاهرة-1953م)، قد عاب على ابن سعيد السرد (الميكانيكي) الرتيب عن أخبار الدول وولاتها بعد الفتح، بَيْد أنه أثنى على الكتاب، مثلما فعل كبار العلماء على مر العصور (المقري، الصفدي، ابن فرحون، ابن خلدون، وشيخ الأزهر/ حسن العطار).

ويرى د. زكي حسن أن أهم ميزات كتاب ابن سعيد تتمثل في قيمته النفيسة لمن يدرسون شخصية مصر الأدبية في تلك العصور، واعتماد الكتاب على المشاهدة العينية بدقة، دون أن يُماري أو يداهن، بدليل نقده للقاهرة، مع ذكره مصادر رواياته الشفوية، وكذلك احتفاظه بتراجم ثمينة، وقصائد نادرة من الشعر الفاطمي في مصر، من مُصنف (جنان الجنان ورياض الأذهان) لابن الزبير.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها