جامعة القرويين

الأدوار العلمية والمقومات المؤثثة للامتداد الحضاري

عبد الحكيم البقريني


كثيرة هي المقومات المؤثثة للامتداد وللتجذر الحضاري لجامعة القرويين، فعلى مدار قرون ما عرفت أفولاً ولا تراجعاً على غرار مثيلاتها من الجامعات العريقة، إذ ظلت منارة ساطعة ومنبع إشعاع علمي. كما بقيّت وفية لأدوارها التنويرية النورانية، راسمة لنفسها وللمملكة المغربية أفقاً ممتداً، وجاذبية نحو كراسيها وحلقاتها العلمية التي لها الفضل العظيم في تكوين الأطر للمغرب ولسائر الأقطار. في هذه الورقة سنسلط الضوء على هذه المعلمة الحضارية التي تعتبر في ريادة المؤسسات المغربية بأبعاد عالمية.
 

التأسيس بأبعاد دينية وروحية:

تعتبر جامعة القرويين، الواقعة بقلب مدينة فاس بالمغرب من أقدم الجامعات، وتعد مؤسسة تعليمية تابعة لجامع القرويين، ذاك الجامع الذي تكلفت ببنائه فاطمة الفهرية، ابنة مهاجر من عرب الحجاز الذين حلوا بأرض المغرب، بعدما أقام بالقيروان، ويسمى محمد بن عبد الله الفهري، الذي كان تاجراً ثرياً. وقد شرع في البناء سنة 245 هجرية الموافق لـ 859 ميلادية، واستمر ثمانية عشر عاماً، وعلى امتداد المدة ظلت أم البنين (وهو لقب فاطمة الفهرية) صائمة محتسبة إلى أن انتهت أشغال البناء، فصلّت في المسجد شكراً لله. هي المنارة العلمية التي بنيت مائة عام قبل إنشاء جامع الأزهر، وقامت بأدوار كبيرة في تكوين العديد من الأطر والعلماء والمفكرين المغاربة والأجانب من مختلف الجنسيات.

ترجع التسمية نسبة لأهل القيروان الذين استقروا بالناحية المقابلة لعدوة الأندلس. ذلك أن المولى إدريس الثاني مؤسس مدينة فاس سنة 182 هجرية الموافق لـ 789 ميلادية، عندما أكمل بناء المدينة وأدارها بأسوار عالية، استقر الوافدون بناحية أطلق عليها "عدوة". اختار أهل القيروان عدوتهم وسموا الجامع باسم "جامع القرويين"، والذي أشرفت عليه فاطمة الفهرية أو أم البنين، في حين اختارت أختها مريم الفهرية تشييد جامع الأندلس أو الأندلسيين في الضفة اليمنى لوادي فاس وذلك سنة 859م. وبذلك تم تعزيز البعث الديني والإشعاع العلمي للمغرب عامة، ولفاس خاصة التي تعتبر العاصمة العلمية والروحية للمملكة المغربية، تلك الميزة التي أخذتها المدينة من الأسس التي قامت عليها دولة الأدارسة، وعززها أثرياء المدينة وفي مقدمتهم فاطمة الفهرية (أم البنين) وأختها زينب، وغيرهما من حرفيي وصناع المدينة الذين عملوا على تعزيز البعد الروحي والديني للمدينة، وربطوها بما هو خارجي خاصة بالأندلس.

الأدوار الثقافية والتعليمية ببعديها الديني والعلمي:

إن إشعاع القرويين وأدوارها العلمية والتعليمية جعل اليونسكو تصنفها ضمن كتاب غينيس للأرقام القياسية، باعتبارها جامعة تمتلك مقومات تعليم عال، وأول جامعة تمنح إجازة الطب في العالم، وبرحابها تدرج العديد من أعلام الثقافة العربية والعالمية، ويكفي أن نشير للفيلسوف ابن رشد، والجغرافي محمد الإدريسي، والفيلسوف محمد بن ميمون، وابن عربي، وابن خلدون، وابن حزم الأندلسي، وسيلفستر الثاني وغيرهم...

يجمع معظم الدارسين وفي مقدمتهم الدكتور أمال جلال: أن جامعة القرويين تعد أقدم جامعة، وهي كذلك، نظراً لتجذرها التاريخي، واستفادة رواد الثقافة والعلم والفلسفة من كراسيها، كما أنها لا تزال تقوم بوظيفتها التعليمية دون انقطاع. وإن كانت الدراسة بها ارتبطت بداية بعلوم القرآن والحديث والسيرة النبوية والفقه؛ فإنها سرعان ما انفتحت على العلوم الحقة والإنسانية كالطب والرياضيات والفلك والفلسفة. ويكفي أن نشير لتوفر مرصد وغرفة إحدى مآذنها على أقدم الساعات المائية في العالم، وأن أول ظهور لما اخترع من الساعات العصرية في أوروبا كان في غرفة الصومعة، كما أن سيلفيستر الثاني (359 ه) تعلم بالقرويين، ومنها نقل الأرقام العربية إلى أوروبا. هي إذن معلمة متجذرة تعليماً وتنويراً لتخرج العديد من الأطر والسفراء والمثقفين المغاربة والأجانب منها.

إن الانتقال من التعليم الفقهي الديني إلى العلوم الحقة تعزز خلال العصر الحديث بتأسيس مجموعة من المعاهد والمدارس المنضوية تحت هذه الجامعة التنويرية ويكفي أن نذكر: "مؤسسة دار الحديث الحسنية"، و"معهد الفكر والحضارة الإسلامية بالدار البيضاء"، و"المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب"، و"معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين"، و"مدرسة العلوم الإسلامية"... هذا التنوع والغنى في الروافد عزز تجذرها التاريخي، وحفظها من كل النكبات التي حلت بمثيلاتها. كما أشار عبد الهادي التازي في كتابه: "جامع القرويين" الذي يعد عبارة عن أطروحة لنيل الدكتوراه يقول: "لما قال المؤرخون إنه أقدم جامعة كانوا يقصدون أنه المعهد الوحيد الذي استمرت فيه أدوار رسالته المقدسة، من دون أن يتعثر فيما تعثرت فيه "الزيتونة"، وما حل بالأزهر الشريف من نكبات، وما أصاب المدرسة المستنصرية من أزمات، ظلت القرويين بعيدة عن التيارات العاتية التي غيرت من معالم عواصم المشرق بغداد ودمشق والقاهرة، فاحتفظت نتيجة ذلك بكل ملامحها".

ومن مميزات جامعة القرويين أن التدريس بها انفتح على معتنقي الديانات الثلاث، فاليهودي موسى بن ميمون الذي قدم من الأندلس درس بها قبل أن يصبح مدرساً فيها في مجال الطب والفلسفة، ليرحل لاحقاً للعمل في بلاط صلاح الدين الأيوبي، كما حل بها أيضاً الفرنسي جربرت دورياك عالم الرياضيات، وكان أول من أدخل الأرقام العربية إلى أوروبا... هذا الإشعاع تعزز بحضور مجموعة من العلماء المسلمين للدراسة والتدريس، ونخص بالذكر: "ابن خلدون"، و"ابن رشد"، و"ابن زهر"، و"ابن البيطار"، و"ابن البناء المراكشي"، عالم الرياضيات، و"ابن البيطار"، و"موسى بن ميمون" الطبيب والفيلسوف، و"نيكولاس كلينايرتس... وكل الشخصيات المغربية التي لمعت بالمشرق، تنتسب إلى القرويين: ابن العربي، ابن بطوطة، ابن خلدون، المقري... ومن المعاصرين: عبد الكريم الخطابي، علال الفاسي، أحمد أبا حنيني، أحمد الريسوني، عبد الهادي التازي، أحمد بوزفور، عبد القادر زمامة، محمد الكتاني، محمد الحلوي، عبد المجيد بن جلون وغيرهم كثير، من كل ذلك فهي الجامعة التي كونت الأطر المغربية في مختلف التخصصات، وساهمت في النهضة بشكل فعّال، ولم يقتصر التعليم بها على الرجال بحسب، بل العديد من الفضليات المغربيات تلقين تعليمهن برحاب القرويين، وساهمن بدورهن في الثقافة المغربية، كل منهن في مجالها الخاص، ويكفي أن نشير لسعاد بنت محمد الزموري الكتاني، وغيرها من العالمات والأديبات والسياسيات والفقيهات والقارئات والمحدثات. هذا الرقي والاشعاع العلمي كان سبباً ليسود بين أهل المدينة القول المأثور: "العلم ولد بالمدينة، وتربى بمكة، وطحن بالقاهرة، وغربل بفاس".
 

المغرب هبة القرويين:

إذا كان الأشقاء بالشرق الأوسط يعتبرون مصر هبة النيل، فإن أحمد الريسوني اعتبر المغرب هبة القرويين، لما توافر لها من اعتمادات مالية وعقارات وقفية تدر على خزينتها العديد من المداخيل. هذا الثراء والغنى جعلها مستقلة تماماً عن خزانة الدولة، كما أورد الدكتور عبد الهادي التازي، بل إن الدولة اقترضت من ميزانيتها في كثير من الأوقات، باعتبارها أغنى شخص "معنوي" في المغرب، ويرجع هذا الثراء والغنى إلى مساهمة المجتمع المغربي بعامته وأغنيائه وأحياناً بمساعدة أمرائه من خلال إهداء أموالهم، وتحبيس ممتلكاتهم لفائدة جامع القرويين.

إن الغنى الفكري والعلمي والثراء المالي تعزز بحضور الأسر من مختلف الجهات المغربية، لتستقر بالمدارس الداخلية التي شيدت لاستقبال الطلبة الوافدين من كل الأنحاء، والأمر نفسه تحقق مع مجموعة من العشائر والقبائل حينما أغرتهم بالاستقرار على غرار الأندلسيين والأفارقة، وثلة من الفرس والكرد والعجم الذين وجدوا ضالتهم بها، هذا الاستقرار رفع من جاذبية الجامعة، وأسهم في الثراء الذي أغناه الوقف في كثير من الأحيان، والذي قدمه أثرياء المدينة من عقارات وغيرها، يقول الدكتور عبد الهادي التازي: "لقد استغنت وأثرت حتى نافست مداخيلها ميزانية الدولة نفسها، لما توفرت عليه من جليل العقار وفسيح الأرضين والغابات... اضطر الدولة أحياناً الالتجاء إلى أوقافها لتسدد به خصاصها وتغطي به عجزها".


جامعة القرويين والأدوار السياسية:

لم تقتصر أدوار القرويين على ما هو علمي ثقافي فقط، بل كانت مهد الثورة على الظلم، ومنطلق الجهاد ضد المستعمر، لذلك سماها الجنيرال ليوطي بالبيت المظلم، وكان ينادي دائماً: "متى سيغلق هذا البيت المظلم"؟ فكل محاولات المستعمر الفرنسي للفصل بين السلطان وطلبة جامعة القرويين باء بالفشل، إذ التعلق عظُم خاصة بعد نفي السلطان الشرعي، لتنطلق من هناك شرارة الثورة والتمرد ضد المستعمر، ولعل منع السلطات الاستعمارية السلطان من الصلاة بجامع القرويين أثناء زيارة المدينة، وإقامتها بإحدى مساجد المدينة يعبر عن رغبة المستعمر في منع السلطان من لقاء الطلبة وعلماء القرويين الذين ظلت بيعتهم حدثاً حاسماً في إقرار الملوك على عروشهم خلال قرون عديدة. فالبيعة لا تتم إلا إذا كانت موقعة من طرف العلماء يقول الدكتور سعيد بن سعيد العلوي في مقال عن "مستقبل القرويين"، والذي نشر بجريدة "العلم" دجنبر 2004.

إن جامعة القرويين مدرسة سياسية، ومعهد لتكوين وإنجاب الأطر المغربية، ويكفي أن نشير لتخرج محمد بن عبد الكريم الخطابي، وعلال الفاسي من هذه الجامعة العريقة التي ما زالت تنجب العديد من الكفاءات، كما أن حجة الانتساب للقرويين كانت كافية للاعتقال أو الطرد من المدارس الفرنسية إن صح الانتساب لها، كما ورد في حوار لعبد الهادي التازي والمنشور بجريدة "التجديد" المغربية بتاريخ 11 فبراير 2002. وقد لعبت القرويين دوراً هاماً في التصدي للظهير البربري، الذي ميز بين العرب والبربر بالمغرب، حيث دعا رجال القرويين إلى الخروج من المساجد وهم يقرأون: "اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر". هي إذن مدرسة سياسية بأبعاد وطنية وعالمية، مدرسة النضال المغربي، إذ كان لها الفضل في إبراز مجموعة من السياسيين، خاصة رجالات الحركة الوطنية، وكوادر حزب الاستقلال. وبرحابها تعلم العديد من السفراء والديبلوماسيين المغاربة، فضلا عن رجالات الفكر والفلسفة، الذين برزت تصوراتهم بالمغرب والمشرق.
 

***


وإن كنا لامسنا جوانب من جامعة القرويين المغربية؛ فإنها تبقى مقاربة تقريبية نظراً لتجذر الجامعة وامتدادها بعمق التاريخ المغربي، وتعدد أوجه إشعاعها، وجوانب قراءاتها.. ذلك أن مثل هذه المعالم مهما قاربناها بالدراسة، فإننا لن نفي بالغرض، لذا فهي دعوة للباحثين للنبش في هذه المعلمة وإظهار خفاياها على غرار باقي المدارس والجامعات العريقة. وفي الأمر ربط الحاضر بالماضي، وجعل الأجيال الحاضرة والقادمة على علم ودراية بالمؤسسات التاريخية المساهمة في بقاء الأمة حية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها