لقد كثر الحديث عن التكنولوجيا ومستقبلها وتأثيراتها على كافة المجالات، ما بين محذر من خطورتها وبين داع إلى التقليل من ذلك، فمرة بعد مرة يتم اختراع تكنولوجيا جد متطورة كتلك التي تساعد التواصل بين شخصين لهما اختلاف لغوي، والأمثلة أكثر من أن تحصى. في مقالنا نلقي الضوء على جزئية وهي: "مستقبل الاتصال"، انطلاقاً من رؤية فيليب بروتون.
إن علوم المستقبل لا تعني بالضرورة التنبؤ بما سيحدث في المستقبل: ومن سخرية الأقدار أن علماء المستقبل يؤكدون أن الحقيقة الوحيدة، التي يمكن التنبؤ بها بمنتهى اليقين هي: أن المستقبل غير مضمون، يتساءل بروتون "فلماذا إذن التفكير في المستقبل؟ أولا يبدو هذا التفكير ضرورياً من الناحية النقدية؛ فهو يشجع التخيل والصياغة الواضحة لبدائل الوضع الراهن. أوليس جوهر العملية النقدية هو القدرة على تخيل صورة أخرى للواقع؟ بل إن التفكير المستقبلي يمثل شكلاً من أشكال التدخل في الوضع الراهن، وبنفس طريقة تأثر التاريخ بالسياق الذي يعيش فيه المؤرخ، فإن التفكير المستقبلي يدفع الباحث إلى تحليل واضح لحاضره ويدعوه، في نهاية المقام، إلى إعادة تنظيم رؤيته للعالم".
أشكال المستقبل المحتملة في المجتمعات الغربية
يرى بروتون أن الثمانينيات كانت هي العقد الذي شهد البداية الحاسمة لتغلغل الحاسبات الآلية في المجتمعات الصناعية الغربية. وبرغم أن غالبية القطاعات الاقتصادية الكبرى تأثرت الآن بهذه التغييرات (استخدام الآلات في الأعمال المكتبية، إنتاج الإنسان الآلي)، فإن موجة استخدام الآلات في مجال الإنتاج هذه تفرض تحولاً عميقاً في النظام التقني، يقول بروتون "ويمكن أن نلاحظ أن هذه الثورات الاجتماعية والتقنية تكون لها انعكاسات خارج محيط العمل، وهكذا تتغير ظروف الحياة اليومية بشكل ملحوظ في المنزل وفي الأنشطة الترفيهية والاستهلاك، ويتوقع معظم الخبراء أن تستمر حركات التغيير في أسلوب الحياة بأكمله". هذا التوقع أصبح اليوم أمراً واقعاً نعيشه على مدار الشهور والسنوات بفضل اختراعات العقل البشري.
وهنا يرى بروتون أن ثمة فوارق اجتماعية جديدة يمكن أن تظهر بين الذين سيستخدمون التقنيات الجديدة، والذين سيظلون بعيدين عنها، بين الأفراد والجماعات التي ستكتسب المهارات الجديدة، ومن سيبتعدون عنها. يقول: "يمكن أن يؤدي استخدام التقنيات الجديدة إلى ازدياد المظالم الاجتماعية الموجودة؛ لأن من يتمتعون بالفعل بامتياز الاطلاع على الثقافة سيجدون فرصهم في اكتساب معلومات جديدة تعاظمت بدرجة كبيرة، وفي نفس الوقت، تحجب هذه التقنيات قدرات يمكن أن تؤدي إلى اختراع أشكال جديدة من التفاعل والألفة والمشاركة الاجتماعية". وبالفعل فإن من يمتلك التقنية ويحسن استثمارها سيكون أكثر استفادة من غيره، سواء في التجارة أو السياسية أو في الدعوة بالنسبة للدين.
الاتصالات: اتجاهات وأحداث مؤثرة في المستقبل
لقد جرت العادة، في الأبحاث المستقبلية، على التمييز بين الاتجاهات الثقيلة، المرتبطة بتغيرات يؤدي تراكمها على مر الزمن إلى تحولات هامة، والأحداث المؤثرة في المستقبل وإن كان ليس لها من الناحية الاحصائية ثقل يذكر، لكنها قادرة في المدى البعيد على تحويل مسار الاتجاهات السائدة.
ويرى بروتون أننا لا نستطيع أن نتجاهل الأعمال التي قامت بها بعثة المستقبليات، التي أولت اهتماماً كبيراً لموضوع تكنولوجيا الإعلام ومجتمع الاتصال. يقول موضحاً ذلك: "لعب علم الضوء الالكتروني، الذي استخدم كوسيلة لنقل المعلومة، دوراً بارزاً، كما كان ينبغي تطوير الحدود الفاصلة في الاتصال بين الإنسان والآلة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، وجعلها تتركز على تسهيل استخدام الآلات". وبالنسبة لقطاع وسائل الإعلام، فقد عرض الانتشار العالمي للإشارات التليفزيونية، الذي تدعمه الأقمار الاصطناعية وشبكات الكابل ازدهاراً واسعاً، وإن كان هذا الازدهار تعطل نسبياً بفعل المقاومة السياسية والثقافية من جانب الحكومات من منطلق حرصها على حماية الهويات الوطنية، وأيضاً من جانب المستخدمين أنفسهم الذين عجزوا عن استيعاب مثل هذا التدفق الإعلامي. ما ذهب إليه بروتون هنا ليس صحيحاً في شق منه، وهو الثورة التكنولوجية قد أنتجت لنا ذلك المواطن الصحفي، فكل من يمتلك هاتفياً ذكياً أصبح ناقلاً للخبر، وفي نفس الوقت ناقلاً لثقافة ما فارضاً إياها على ثقافة أمة أخرى.

منزل المستقبل وفكرة مجتمع الاتصال
يرى بروتون أنه سيتم توصيل وسائل الإعلام المنزلية مثل الفيديو والبيك آب وجهاز التليفزيون فائق الجودة، والحاسب الدقيق المرتبط بجهاز لتسجيل الصوت والصورة على أسطوانات، ومزود بجهاز لمعالجة المعلومات عن بعد، وجهاز استقبال الاتصالات اللاسلكية باستخدام الحاسب الآلي، والتليفزيون المرئي فيما بينها في صورة تعاونية جديدة، يقول بروتون معلقاً: "يمكن أن تؤدي هذه الظواهر إلى انقلاب في إشكالية توزيع السلع والخدمات، في ظل نموذج للاتصال والاستهلاك يشهد انصهار الدعاية والتسويق والإعلام والبيع في تركيبة جديدة".
لذا يرى أنَّ أجهزة التسويق التفاعلي تكشف عن السلوكيات والرهانات الجديدة التي ستظهر في مشروع "المجتمع الاتصالي"، باعتباره المرحلة النهائية في تطور ما أسماه بعض النقاد المجتمع الاستهلاكي. ولن يكون السلوك الشرائي حسب بروتون مجرد تصرف اقتصادي يندرج في سياق تجاري لتوزيع البضائع، وإنما في الوقت ذاته تصرف اتصالي من طراز جديد؛ فهو في المقابل علمية نقل من جانب المستهلك نفسه لمعلومات تتعلق بعاداته الشخصية وأسلوب حياته، وبذلك تكون الدائرة قد اكتملت، حيث عودتنا الدعاية على الفكرة القائلة بأن الأشياء تتفاعل كما لو كانت رموزاً موجهة للمستهلكين.
هكذا إذن، فإنه من المؤكد أن هذه "الرؤى المستقبلية تضع في اعتبارها بعض المتوقع إحرازه في مجال تقنيات الاتصال، ولكنها تظل، كما نرى، متأثرة إلى حد كبير بإيديولوجية معينة للاتصال. ويتم كل شيء كما لو كانت التقنيات تولد بمجرد وجودها، استخدامات مباشرة ومتحمسة من جانب العملاء الذين لا ينتظرون غير ذلك، بل إنها تدافع عن قدرة تقنيات الاتصال المختلفة على التكامل فيما بينها". ويبقى السؤال المطروح إذن هو: هل سيترك الأفراد والجماعات أنفسهم لكبار العملاء الاقتصاديين المستفيدين من توزيع وإرساء التقنيات الجديدة في الإعلام والاتصال، لكي يفرضوا عليهم مسلكاً مبرمجاً؟ وهل ستجعل ثورة الاتصال من الانسان ضحية للتقنيات أم ستؤدي، كما تمنى مؤسسوها، إلى بناء مجتمع أفضل يخلو من كافة أشكال التفرقة؟
أخيراً وليس آخِراً، إن مستقبل الاتصال سواء ضخمنا الحديث عنه أم لا، فإن قادم الأيام كفيل بأن يقدم لنا الإجابة، بل ستدهشنا الاختراعات العديدة المختلفة، مما سيطرح أسئلة دينية وفلسفية، خصوصاً عندما ستخرج إلى الوجود اختراعات قد تمس العقيدة وتمس جوهر الفكر الإنساني، ولعل مع طرحه الاستنساخ خير دليل، لكن القادم سيطرح إشكاليات كبرى تتجاوز الغزو الثقافي والتواصل بين الحضارات.