لقد استطاع الإنسان في العصر الحديث أن يُطالع ما يجول العالم كله عبر الأِنترنِت كصفحة واحدة شفافة يرى من خلالها العالم ويتفاعل معه، فلم تعد هناك أبواب مغلقة للمعرفة، بل صارت المعرفة في كل مكان وصار بإمكان الإنسان أن يعبر كيف يشاء، وأن يكتب ما يشاء وأن يقول ما يشاء دون قيود، بل صار بإمكانه أيضاً أن ينقل ما يشاء وأن يأخذ ما يشاء من معارف، والتي يبدو أنها في الواقع تقوم على نوع من المعرفة الرقمية، التي ترى في ذلك شيئاً عادياً دائماً في الواقع لا فرق يذكر بين السرقة الأدبية، والسرقة من أجل أن يتفاعل المتلقي مع المنشور، مهما كان ذلك على حساب الدقة العلمية، أو على حساب حقوق الملكية الفكرية والأدبية.
والحق أن هذهِ السرقاتِ تطَال البحوث العلمية كما تطال الإبداعات الأدبية والفنية، بحيث غالباً ما لا تتم الإشارة في عملية النشر الرقمي إلى صاحب الفكرة الرئيس أو المقولة أو النص، ما يخلق نوعاً من العشوائية في التفكير ويجعلنا في الواقع أمام حالات يرثى لها من السطو على الملكية العلمية والأدبية أيضاً، التي تجعلنا في حال من الغش والتدليس والسرقة التي تتنافى طبعاً مع أخلاقيات العلم بشكل عام، والتي لا نجدها البتة اليوم في حالاتنا في هذا العصر الموسوم بالشفافية التي يمكن أن يكون على العكس من ذلك، قائماً على الدقة المعرفية وعلى الدقة في اكتساب المعرفة ما يجعلنا نتساءل من خلال هذه الورقة حول طبيعة هذه السرقات وعن أشكال السطو وكيف يمكن التصدي لها من أجل حماية الملكية الأدبية وحماية الإبداع الأدبي أيضاً.
1] السرقات الفكرية والأدبية: المفهوم
لا تتمثل السرقة دائماً في السطو على أغراض الآخرين المادية، وإنما قد تكون، بطبيعة الحال، عن طريق السطو على الخصوصيات المعنوية التي قد تكون أكثر أهمية، حتى ولو تعلق الأمر بسرقة فكرة بسيطة أو قولة شاردة والاستيلاء عليها دون الإشارة إلى مصدرها الحقيقي، من قبيل أخذ فكرة معينة من أحدهم دون إذنه، أو استثمار تصميم فني أو تقني معين دون الإشارة إلى صاحبه؛ إذ إنّ تغييب المصدر أو إخفائه فيه سرقة سواء أقام به الشخص بوعي منه أو بغير وعي.
وتعرف الحقوق المعنوية على أنها "هي السلطة لشخص على شيء غير مادي، سواء أكان نتاجاً ذهنياً، كحق المؤلف في المصنفات العلمية والأدبية، أم براءة في المخترعات الصناعية، أم ثمرة لنشاط تجاري يقوم به التاجر لجلب العملاء كما في الاسم التجاري والعلامة التجارية"(1).
على مستوى المفهوم فإن السرقة الفكرية أعم من السرقة الأدبية؛ بل إن السرقة الفكرية تضم السرقات العلمية البحتة والسرقة الأدبية أو الفنية أو غيرها، ذلك أن: "السرقة الفكرية هي المفهوم الأوسع، والعلاقة بينهما هي علاقة الجزء بالكل، فالمنتجات الأدبية هي جزء أصيل من المنتجات الفكرية، فكل سارق أدبي هو سارق فكري، والعكس غير صحيح"(2).
وتنقسم السرقة الفكرية إلى أقسام، وأهمهما قسمان: السرقة العلمية والسرقة الأدبية.
السرقة العلمية: وهي تتمثل في السطو العلمي على جميع ما يتعلق بالمنتجات العلمية الملموسة والمكتوبة، ومحاكاة ذلك بصورة أو بأخرى.
السرقة الأدبية: وهي تتمثل في نسخ المنتجات الأدبية التي تخص الآخرين، مثل الأبحاث الأدبية، والروايات، واللوحات، والرسوم، والمقالات، والأشعار، والألحان، والقصائد(3).
ترد السرقة الأدبية في الثقافة العربية بمفاهيم متعددة من قبيل الانتحال الأدبي و"الإغارة"(4)، كما وظفها ابن سلام الجمحي، و"الأخذ"، وقد وظفه الجاحظ(5)، وتعرف في الأدبيات الغربية باسم "the plagiarism" والذي يعني حسب الرابطة الأمريكية لعام 1989على أنها "استيلاء شخص على أفكار ونتائج وأساليب وكلمات مكتوبة، من قبل مؤلفين آخرين دون ذكرهم في المصادر"(6).
إن السيولة التي عرفتها المعلومات والمعرفة في ظل عصر ما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة والذي "يتميز بدمج التقنيات التي تطمس الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية"(7)، والذي صاحبه ثورة منقطعة النظير المعلومات التي تتميز بالتوافر وبسهولة الولوج إليها عبر مختلف الوسائط الرقمية والوسائل التكنلوجية التي تعمل على نقل المعلومة بشكل سريع، ما يغيب في كثير من الأحيان التوثيق المعلوماتي والعلمي.
وفي هذا الصدد نقف على طبيعة هذه السرقات، وكيف أنها تساهم في تمييع عالم المعلومة من جهة، كما أنها تقضي على الإبداع والفنية، وتعمل على سلب المبدعين والمفكرين والأدباء والعلماء أفكارهم، ومن ثمة صعوبة تأمين الملكية الفكرية، وهو ما يحوجنا إلى اقتراح مجموعة من الآليات التي من شأنها أن تضبط النقل المعلوماتي والمعرفي عبر الرقمية، كما تضمن احترام الملكية الفكرية.
2] أنواع السرقات وأشكالها
2-1 ◅ اختلاس الأفكار
تتم سرقة الأفكار عبر البوابات الرقمية المختلفة من خلال إيراد الفكرة أو اختلاسها، ونسبتها إلى ناقلها دون الإشارة إلى صاحبها، حتى نظن أن ناقل الفكرة هو منتجها في غياب التوثيق السليم والأمانة العلمية في نقل المعلومة، والفكرة هنا قد تكون فكرة فلسفية أو فكرة ذات ارتباط بمجالات أخرى علمية أو تقنية أو اقتصادية أو اجتماعية.
وبسبب هذه الفوضى في نقل الأخبار دون توثيقها، اختلط في صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي العالِم بالجاهل، وصار من لا يجيد حتى القراءة والكتابة يبدو في نظر الناس مفكراً من خلال بعض الصفحات التي تنقل أفكار الآخرين وتنسبها لناقلها، وهو ما يعتبر من السرقات التي تتطلب التقصي والبحث في أصالة الأفكار، خاصة أن البعض يحول تلك الأفكار المنقولة إلى فيديوهات مصورة ويروج لها لجلب الأرباح.
2-2 ◅ اختلاس النصوص
يتجاوز الأمر أحياناً اختلاس فكرة أو كلمة أو جملة إلى اختلاس نصوص ومقالات، بحيث يلجأ البعض إلى سرقتها ونسبتها، بل إن بعض المواقع الاجتماعية تسرق نصوصا لكُتَّاب مشاهير وتنسبها لغير صاحبها، وغالباً ما يتم في هذا الصدد سرقة المقالات والنصوص من مجلات شهيرة، أو من جرائد دون الإشارة إلى مصادرها، وفي الغالب، وبحثاً عن الجاهز، فإننا نجد بعض المواقع الإلكترونية تلجأ إلى سرقة نصوص من مواقع إلكترونية أخرى أو من مجلات عالمية، أو العمل على ترجمة المقالات ونقلها دون توثيق سليم لما يتم أخذه، وهي من السرقات التي تستوجب المتابعة القانونية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالسرقات التي تهم البحث العلمي والتي ينجم عنها ترقياً علمياً أو وظيفياً، أو يستتبعه الحصول على شهادات علمية كبرى كالماجستير أو الدكتوراه أو الأستاذية.
والحق أن هذا النوع من السرقة لا يهم وطناً دون آخر، غير أنه مستفحل في الدول النامية التي يقل فيها الضبط العلمي والحكامة على الثقافة والعلوم والآداب، فضلا عن البرامج الرقمية المتطورة التي تكشف عن السرقة باللغة العربية، وإن كانت دول متقدمة أعلنت انتشار هذا النوع من السرقات، كما هو الحال لفرنسا التي أعلنت فيها صحيفة "لوفيغارو" (Le Figaro) استشراء السرقات العلمية في الأوساط الجامعية، أو كما هو الحال للمملكة المتحدة التي دقت فيها صحيفة "الأندبندت" (The Independent) ناقوس الخطر حول انتشار وباء الانتحال، مشيرة إلى تورط رقم قياسي من الطلبة يناهز خمسين ألف طالب(8).
3] السرقات الأدبيات: التاريخ والتطور
3-1 ◅ السرقات الأدبية في النقد العربي القديم
لعل ابن سلام الجمحي يعتبر من أبرز النقاد الذين اشتغلوا على السرقات، وذلك في كتابه "طبقات فحول الشعراء" ولم يشر، بذكائه، فقط إلى أنواع السرقات الأدبية التي قد يسرق فيها الأديب بيتاً شعرياً أو جزءاً من قصيدة؛ إنما اشتغل أيضاً على ما أسماه باختين بالتفاعل مع القصيدة على مستوى المعنى ومحاكاتها في الموضوع، فقد فطن ابن سلام إلى فكرة "الاقتباس" و"التضمين"، فهو يروي عن خلف أنه سمع أهل البادية من بني سعد يروون بيت النابغة للزبرقان بن بدر:
تعدو الذِّئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستنفر الحامي
فسأل ابن سلام يونس عن البيت فقال: "هو للنابغة أظن الزبرقان استزاده في شعره كالمثل حين جاء موضعه، ولا مجتلباً له. وقد تفعل ذلك العرب لا يريدون به السرقة "(9).
وعلى النهج نفسه الذي صار عليه ابن سلام؛ فقد اشتغل ابن قتيبة على هذا الموضوع في كتابه الشعر والشعراء الذي يعتبر من الكتب المؤسسة لثقافة السرقة الأدبية في النقد الأدبي، والتي يمكن القول إن العربي سبق في هذا الموضوع غيره في الاشتغال على موضوع تأمين الملكية الفكرية، فقد ردد ابن قتيبة ما قاله ابن سلام فيما يتعلق بفكرة المعنى الذي تدوول حتى استفاض وصار كالمشترك. ولكنه وسع من معنى هذا المفهوم، كما فطن ابن قتيبة إلى السرقة الخافية، ورأى أن زيادة الأخذ على المعنى المأخوذ يتيح له فضل الزيادة، كما هو الحال لأخذ أبي نواس من الأعشى(10).
3-2 ◅ ميخائيل باختين والسرقات الأدبية
تطرق ميخائيل باختين باعتباره من أبرز النقاد الذين اشتغلوا على ما أسماه المبدأ الحواري أو الديالوجية (le dialogisme)، فتحدَّث عن أشكال التفاعل التي يقيمها النص اللاحق على النص السابق، كما أشار إلى تعدد الأجناس الأدبية أو تفاعل الأجناس لغاية أدبية ولهدف جمالي، وقد اعتبر الرواية الجنس الأكثر قابلية لهذا التفاعل في قوله: "إن الرواية تسمح بأن نُدخل إلى كيانها جميع أنواع الأجناس التعبيرية، سواء كانت أدبية "قصص، أشعار، قصائد، مقاطع كوميدية" أو خارج- أدبية "دراسات عن السلوكات، نصوص بلاغية وعلمية، ودينية، إلخ"(11).
3-3 ◅ جيرار جينيت والتفاعل النصي
تطرق جيرار جينيت بدوره إلى مسألة التفاعل بين النصوص، وإلى أشكال التناص (intertextualité) التي تقيمها النصوص فيما بينها، باعتبارها شكلاً من أشكال التفاعل المعرفي والثقافي التي عرفتها كل العصور والتي ترد في كل الثقافات، وذلك ما يدعونا إلى ضرورة التمييز بين التفاعل المقصود لذاته والتفاعل من أجل السرقة.
يتحدث جيرار جينيت مستفيداً ممن سبقوه في الاشتغال على موضوع التناص، وخاصة منهم جوليا كريستيفا، ومن مظاهر التناص التي أشار إليها:
أ- الشاهد (la citation):
وذلك عندما يتم نقل النص حرفياً، ويصرح فيه بالحضور، وهو شكل تقليدي يقوم على وضع المزدوجتين، والإحالة على المرجع فيه غير إلزامية.
ب- السرقة الأدبية: (Le Plagiat):
في هذه الحال، لا يتم التصريح باستعارة نص أو أخذه على الرغم من اقتباسه حرفياً، ولا يتم وضعه بين مزدوجتين.
ج- الإلماع:
وفي هذه الحال، لا يؤخذ النص بحرفيته، ولا يصرح بعملية الاستعارة التي يفترض أن تكون قد حدثت بين نص وآخر؛ فشكلت حضوراً قد يكون صريحاً أو مضمراً، والأمر هنا يشبه(12). إلى حد ما الحوارية عند باختين.
4] السرقات في العصر الرقمي
لقد فتح العصر الرقمي الباب على مصراعيه للسرقة ولعل هذا من بين الأمور السلبية في العصر الرقمي، خاصة على مستوى الكتابة والإبداع الأدبي التي تجعلنا أحياناً لا نميز بين الأشياء التي صار فيها البعض عبقرياً، فقط من خلال تلك السرقات التي نرى أنها من بين الأمور التي علينا محاربتها كمثقفين.
4-1 ◅ سرقة الأفكار
لا شك أن الجميع في العصر الرقمي صار مفكراً وفيلسوفاً؛ ذلك أنك إذا فتحت صفحات الجميع الفيسبوكية فستجد كأنك أمام جحافل من المفكرين والمثقفين والعلماء والفقهاء أيضاً، بحيث تتهاطل صفحات الفيسبوكيين بالأفكار، وبما يمكن أن نسميه بالشذرات النيتشوية التي تجعل المتلقي للوهلة الأولى يظن أنه أمام مفكر أو فيلسوف أو مثقف عظيم، لكن بمجرد التمحيص العلمي لما يتم ترويجه ونشره من أفكار؛ سنجد أن ما يروج من أفكار هي نصوص وشذرات مسروقة بحذافيرها من مصادر علمية لأشخاص آخرين، دون الإشارة إلى أصحابها وهو ما يميع الأفكار ويميع أيضاً الأشخاص، بحيث لا نستطيع التمييز بين العباقرة وعامة الناس.
4-2 ◅ السرقات الإبداعية
يلجأ البعض إلى النصوص الإبداعية فيقوم بسرقتها من خلال العمل على اختلاسها دون الإشارة إلى صاحب النص، ويمكن في هذا الصدد الحديث عن إيراد الأبيات الشعرية والقصص القصيرة، فضلا عن الإبداعات في مجالات التشكيل والموسيقى وغيرها، بل إن البعض صار يختلس حتى الأصوات القرائية للقرآن الكريم، من خلال الإبقاء على الأصوات، وتمويه الناس بأنه صاحب الصوت عبر تقليده في فنون الإلقاء، وهو ما يجعل الكثيرين يتوهمون أنه صاحب الصوت ويتفاعلون معه، في زمن صارت فيه الرقمية مورداً للمال يبنى على التفاعل والمشاركة وزيارة الصفحة.
4-3 ◅ ترجمة النصوص
في زمن صارت فيه الترجمة متاحة أمام الجميع نجد أن البعص من خلال محرك البحث غوغل يلجأ إلى النصوص الأخرى الأجنبية من ثقافات أخرى هندية وصينية وغيرها، ويقوم بسرقتها دون أيضاً الإشارة إلى أصحابها ما يجعلنا أمام فوضى بكل المقاييس.
4-4 ◅ السرقة العلمية ومشكل البحث العلمي
يلجأ بعض الباحثين إلى سرقة النصوص والمقالات، أو سرقة أجزاء منها، عبر الأنترنيت، وذلك باستخدام محرك البحث غوغل الذي يحيل على البحوث العلمية من مختلف دول العالم، وفي غياب ثقافة توثيقية رقمية غالباً ما لا يتم الانتباه إلى هذا الشكل من أشكال السرقات التي يقوم بها البعض، فضلاً عن سرقة البحوث العلمية من المكتبات والجامعات، والتي قد تجعلنا إذا نحن قمنا بمسح شامل للبحوث داخل دولة واحدة؛ فإننا قد نجد أن بحثاً لطالب من الطلبة في مدينة ما قد أعيد الاشتغال عليه أو تم نقله بحذافيره من طرف طالب آخر في مدينة بعيدة عنها، وكثيراً ما وقف الأساتذة والباحثون على هذه العمليات، فقليلة هي الجامعات التي تحارب هذا النوع من السرقات بشكل صارم، أو تحاكم الطالب السارق؛ وهي من الأمور التي تحول دون تطوير البحث العلمي خاصة في البلدان، حين نجد مثلا أن أحدهم قد ناقش أطروحته الجامعية ونال درجات عليا في حين أنه في الواقع اختلسها أو سرقها لباحثين آخرين.
5] كيف نحصن الملكية الفكرية؟
يبدو أنه لا مناص في هذا العصر الرقمي من العمل على التأسيس لحكامة رقمية للحيلولة دون السرقات العلمية والأدبية، وذلك قصد تحصين العلم والثقافة والأدب والفكر في العصر الرقمي. ومن بين الإجراءات التي يمكن أن تسهم في بناء هذه الحكامة:
5-1 ◅ تفعيل المحاكم الإلكترونية
لقد تم تعميم المحاكم الإلكترونية والقضاء الإلكتروني في جل دول العالم، غير أن عملها ظل للأسف مرتبطاً ببعض المجالات مثل الاقتصاد والتجارة وحقوق الإنسان المدنية، بحيث إن عمل هذا القضاء ظل منصباً على محاربة الإجرام الإلكتروني في ما يرتبط بالابتزاز، والاختلاسات المالية، والجرائم المادية.
وعلى الرغم من أن الجريمة الإلكترونية أو المعلوماتية أو السيبرانية تعرف على أنها: "هي كل سلوك غير قانوني يتم باستخدام الأجهزة الإلكترونية، ينتج عنها حصول المجرم على فوائد مادية أو معنوية مع تحميل الضحية خسارة مقابلها، وغالباً ما يكون هدف هذه الجرائم هو القرصنة من أجل سرقة أو إتلاف المعلومات"(13)؛ أي أنها تجمع بين ما هو مادي وما هو معنوي،؛ غير أنه في مجال الثقافة والعلوم أو ما شابه ظل عمل القضاء الإلكتروني محتشماً، خاصة عندما يتعلق الأمر بالسرقات العلمية والأدبية، والتي تتطلب حكامة رقمية صارمة لتأمين الملكية الفكرية وللعمل على التصدي لكل أشكال السرقة الفكرية والأدبية، بحيث إن الثقافة لا تقل أهمية عن المال، وتأمين حقوق التفكير وتأمين المليكة الفكرية هو استمرار لتأمين حقوق الإنسان، بشكل عام.
5-2 ◅ تفعيل المجالس الجامعية
يحتاج البحث العلمي إلى أخلاقيات موحدة بين الباحثين، تعزز الشفافية العلمية والثقافية، وتعمل على فرض احترام الابتكار والإبداع، والبحث في المؤسسات الجامعية والمعاهد العلمية، ومن ثمة لا بد للمجالس الجامعية أن تعمل على التصدي لمن يقومون بالسرقات العلمية أو الأدبية، حيث يبدو أن هناك تراجعا اليوم في مجال احترام أخلاقيات البحث العلمي، بالنسبة للطلبة الباحثين في زمن صارت فيه المعلومات تنشر عبر الفضاءات الرقمية المتعددة، وغالباً ما لا يتم توثيق البحوث والأعمال العلمية رقمياً، ما جعل أمر السرقة هيناً، وهو ما يفرض تفعيل المجالس الجامعية للبث في قضايا السرقات العلمية.
من جهة أخرى يبقى من الضروري العمل على توثيق البحوث الجامعية عبر البوابات الرقمية، فرقمنة البحث العلمي فيه تأمين للملكية الفكرية والأدبية وتطوير للبحث العلمي، وتوفير لمصادر المعلومات بالنسبة للباحثين، كما أنه يمنع من سرقة الأفكار ومن تمييع البحث العلمي.
5-3 ◅ دور المدرسة في بناء أخلاقيات التعامل الرقمي
ينبغي أن تقوم المدرسة بدورها في التوعية بخطورة السرقات العلمية والأدبية، وأن يعمل التعليم على بناء إنسان قادر على الاندماج السليم في العصر الرقمي، من خلال تعلم الرقمية كفلسفة حياة ينبغي التعايش معها والتعرف على أخلاقياتها من خلال حوكمة التعامل الرقمي الذي على المجتمع الدولي أن ينخرط فيه كذلك.
والحق أننا في الدول النامية، وإلى اليوم، لا نولي تدريس الإعلاميات الدور الذي تستحقه ولا يعرف الإنسان في الدول النامية ومنها الدول العربية، للأسف، عن الرقمية إلا وظائفها السلبية والوظائف المرتبطة بالتسلية وتزجية الوقت، ولم تتحول بعد إلى موارد اقتصادية وإلى فلسفة حياة يمكن استثمارها في تحقيق التنمية، ومن أجل الارتقاء الحضاري، وهو ما يحتم تفعيل دور المدرسة في تخليق التعامل الرقمي؛ ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال جعل الإعلاميات مادة أساسية تدرس في جميع الأسلاك التعليمية.
من جهة أخرى، لا بد من التوعية عبر المدرسة في مجال أخلاقيات البحث العلمي. ويمكن أن نضرب المثال في هذا الصدد بمدرستين هما المدرسة الأمريكية والمدرسة اليابانية في مجال الأخلاق بشكل عام.
◅ تجربة المدرسة الأمريكية
تقوم المدرسة الأمريكية على تجربة أساسية في مجال الأخلاقيات المهنية، بشكل عام، بحيث إن الطالب أو المتخرج من الجامعة لا بد له قبل الانتقال إلى مجال العمل؛ أي بعد استكمال دراسته في مجال تخصصه، لا بد له من أن يمر بتكوين في أخلاقيات التخصص الذي اختاره، فإذا كان مدرساً تم تكوينه في أخلاقيات التدريس أو ما يسمى "ميثاق أخلاقيات مهنة التدريس"(14)، وإذا كان محامياً تم تكوينه في أخلاقيات المحاماة والتقاضي، وإذا كان طبيباً تم تكوينه في أخلاقيات الطب، وما إلى ذلك، وهذه الثقافة الأخلاقية نحن بحاحة ماسة إليها اليوم في المدرسة، وخاصة في العصر الرقمي وفي العصر التكنولوجي الذي يفتح الباب على مصراعيه لأشكال الغش والتدليس والسرقة ومنها السرقة العلمية والفكرية والأدبية.
◅ التجربة اليابانية
حين نأتي إلى المدرسة اليابانية، نجد أن مجال الأخلاق يتخذ النصيب الأكبر في التربية، ففي التعليم الابتدائي لا بد من تعليم الطفل مادة الأخلاق التي تجعله منذ البداية يتشرب مبادئ الأمانة والصدق، ويتجنب أشكال الغش والسرقة، وهو ما لا يمكن أن يحفزه في كبره على السرقة أو التدليس أو الغش، فمنذ "عام 2018 اتخذت اليابان قراراً بإدماج التربية على الأخلاق في المنهج الدراسي بصورة إلزامية، بعد أن كانت التربية على الأخلاق تربية اختيارية، وبهذا القرار أصبحت مادة "دووتوكو"، أو الطريق إلى الأخلاق مادة إجبارية من الصف الأول الابتدائي إلى السادس الابتدائي، ولها درجات نجاح ورسوب، وتأثير على المعدل العام للطالب، وعلى مستقبله الوظيفي في مرحلة لاحقة"(15).
خاتمة:
لا شك أن السرقة العلمية لا تختلف عن باقي أشكال الجرائم، فالسرقات لا شك أنها تهدم المجتمع وتخلخل أساس الثقافة والعلم، بل إنها تجعل من المجتمع الذي تتفشى فيه مجتمعاً سائباً علمياً وثقافياً، وعلى المسؤولين في المجال الثقافي والعلمي أن يتابعوا المخالفين بشكل من الصرامة، لكن قبل هذا لا بد من العمل على تحصين هذه العمليات عبر مداخل التعليم والإعلام وغيرهما، قبل اللجوء إلى الوسائل الأخرى الرادعة، ولعل ذلك من شأنه أن يسهم في تحصين الملكية الفكرية والإبداعية في العصر الرقمي.
هوامش:
1- عبد الرحمان بن عبد الله السند: الأحكام الفقهية للتعاملات الإلكترونية: الحاسب الآلي وشبكة المعلومات (الأنترنيت)، دار الوراق، بيروت، الطبعة الأولى، 2004، ص: 50.
2- انظر: موقع "مبتعث" للدراسات والاستشارات الاكاديمية، في: https://mobt3ath.com/dets.php، تاريخ الاطلاع: 13 نونبر 2022.
3- المرجع نفسه.
4- محمد بن سلام الجمحي: طبقات الشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2001، ص: 147.
5- الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مطبعة لجنة التأليف والترجمـة والنـشر، القـاهرة، ط 1، 1948، ص: 17.
6- https://www.manaraa.com/post/3141/السرقة-الأدبية-(Plagiarism)، بتاريخ: 10 نونبر 2022.
7- "The Fourth Industrial Revolution: what it means and how to respond"، World Economic Forum، في "ويكيبيديا (https://ar.wikipedia.org/wiki/الثورة_الصناعية_الرابعة)، تاريخ الاطلاع: 12 نونبر 2022.
8- جمال علي الدهشان: محاربة السرقات العلمية مدخلا لتحقيق جودة البحث التربوي العر بي في عصر المعلوماتي، مجلة اتحاد الجامعات العربية للتربية وعلم النفس، المجلد السادس عشر، العدد الرابع، 2018، ص: 95.
9- محمد بن سلام الجمحي، طبقات الشعراء، مرجع سابق، ص: 43.
10- ابن قتيبة (عبد الله): الشعر والشعراء، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط. 1982، ص. 13.
11- ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2009، ص: 160- 161.
12- Voir: Gérard Genette : Palimpsestes , Editions du seuil , paris 1982, P. 8.
13- https://ar.wikipedia.org، تاريخ الاطلاع: 16 نونبر 2022.
14- نادية بنت طلق العتيبي: إعداد المعلمين عالميا (الأخلاقيات والمعتقدات)، المجلة الدولية للعلوم التربوية والنفسية (IGEPS)، ص: 340، في: https://askdryahya.wordpress.com، تاريخ الاطلاع: 16 نونبر 2022.
15- محمد أحمد: "عن التجربة اليابانية في تدريس الأخلاق"، في: https://tarbeyacenter.com، تاريخ الاطلاع: 16 نونبر 2022.