النّقد الأدبيّ: مدعُوٌّ أم مُتَطفِّل؟

د. وليد قصّاب


هل النقد نشاط ضروريّ جادّ؟ وهل الناقد -والمقصود هاهنا الناقد المتخصّص- يؤدي وظيفة حيوية مهمّة، تجعله يستحق المكانة التي يتبوّؤها؟ هل يحتاج تلقي النّص الأدبيّ إلى طرف ثالث يتدخّل بين المؤلف والمستقبل، فيحسِّن له أو يقبِّح، ويجمِّل له أو يسفِّه؟


ألا يكفي أن يكون المتلقي نفسه هو النّاقدَ الحكمَ الذي يقبل أو يرفض بلا وسيط يفرض وصايته؟ أهو محتاج إلى هيمنة الناقد واستبداده، وادعائه أنه وحده من يمتلك المعرفة والقدرة على الحكم؟ ألا يسلب ذلك النّاقدُ المتلقيَ العاديَّ إرادته، ويجعله أسير ذوقه، ويبثّ فيه إيحاءات مسبقة عن العمل وصاحبه، فيفسد عليه متعة تلقيه؟

أم أنّ الناقد المتخصّص هو إنسان خبير، شأنه في ذلك شأن أيّ خبير في أي حرفة أو صنعة أو مهنة، ومن ثمّ فلا يمكن الاستغناء عن دوره، مثلما لا يمكن الاستغناء عن دور الخبراء المتخصّصين جميعاً: كالمهندس، أو الطبيب، أو الفلكيّ، أو الصّائغ، أو.. أو.. ما شئت من ضروب الصناعات والمهارات التي لا حصر لها، والذين يُرجع إليهم في كلّ أمر يتعلّق بهذه المهارات؟

لقد حضرت هذه القضية بقوة في النّقد الأدبيّ العربيّ القديم قبل أن تحضر في النّقد الحديث. عُرفت فيه –منذ وقت مبكر- كلتا وجهتيْ النظر اللّتين أشرنا إليهما: الوجهة التي ترى في الناقد وسيطًا أو غير ضروريّ يقوم بدوره القارئ نفسه، ووجهة النظر التي تراه الخبير البصير الذي لا بدّ أن يُدعى إلى مأدبة الأدب، ولا غنى عنه في أيّ تعاطٍ موضوعيّ علميّ مع نصوصه.

مثّل وجهة النظر الأولى التي ترى في النّاقد وسيطًا غير مرغوب فيه، وهي تريد أن تستبعده، أو تهمِّش دوره، قولُ قائل للنّاقد خلف الأحمر: "إذا سمعت أنا بالشّعر أستحسنه فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك"1.

ومثّل وجهة النظر الأخرى التي بيّنت أهميّة النّاقد، وتحدّثت عن خبرته، وأن قوله هو قول الخبير العالم، ردُّ خلف على الرّجل؛ إذ قال له: "إذا أخذتَ درهماً فاستحسنته، فقال لك الصّراف: إنّه رديء، فهل ينفعك استحسانك إياه"2؟

وأوضح ابن سلام في طبقاته أنّ الشّعر صناعة لا يتقنها إلا أهل الخبرة؛ إنه "كسائر أصناف العلم والصّناعات، منها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللّسان؛ من ذلك اللؤلؤ والياقوت، لا تعرفه بصفة ولا وزن، دون المعاينة ممّن يبصره. ومن ذلك الجهبذة بالدّينار والدّرهم، لا تُعرف جودتُهما بلون، ولا مسّ، ولا طراز، ولا رسم، ولا صفة، ويعرفه النّقد عند المعاينة.."3.

ومن مثل هذا ما دار بين ابن مناذر والخليل بن أحمد الفراهيديّ؛ إذ يعترض في هذه المرّة شاعر على مكانة النّاقد، وقوله المسموع، وأثره في سيرورة بضاعة الشّعراء ونَفْقها وانتشارها، أو كسادها وخمولها.

يقول الخليل معبِّراً عن سلطان النّاقد: "إنّما أنتم –معاشرَ الشّعراء- تَبَعٌ لي، وأنا سكّان السفينة؛ إنْ قرّظتكم، ورضيت قولكم؛ نفقتم، وإلا كسدتم".

ويردّ عليه الشّاعر ابن مناذر رافضاً هذا السلطان بقوله: "واللّه لأقولنّ في الخليفة قصيدة أمتدحه بها، ولا أحتاج إليك فيها عنده ولا إلى غيرك.."4.

إنّ ابن مناذر الشّاعر يعترض على سلطان الخليل وغيره من النّقّاد، ويريد أن يستبدل به سلطان المخاطب نفسه، وهو هنا الخليفة الممدوح، فإذا رضي بما قاله هذا المخاطب، وحظيت القصيدة عنده؛ فإنّ هذا حسْبه، ولا قيمة لرأي النّاقد عندئذ. ومن الواضح أنّ هذا احتكام إلى منطق القوة لا إلى منطق العلم.

وعمّق الجاحظ هذه القضيّة؛ فلم يدعُ القارئ العاديّ وحده إلى النزول عند رأي أهل الخبرة، بل دعا جميع من يتعاطى صنعة الكتابة من الأدباء وحَمَلة القلم أن يعرضوا ما يكتبون على أهل الخبرة من النّقاد والعلماء، وحذّر أيّ واحد منهم أن يعتمد على رأيه في تقدير قيمة ما ينشئ، وأن يذيعه في النّاس قبل أن يعرضه على النّقّاد وأهل المعرفة، فقال مخاطبًا الكاتب: "إن أردت أن تتكلّف هذه الصناعة، وتُنسب إلى هذا الأدب، فقرضت قصيدة، أو حبّرت خطبة، أو ألفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، أو يدعوك عجبك بثمرة عقلك، أن تنتحله وتدّعيه. ولكن اعرضه على العلماء.. فإن رأيت الأسماع تصغي له، والعيونَ تحدِج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه؛ فانتحلْه.."5.

وهكذا يبدو النّاقد –في التّراث النّقدي العربيّ- ذلك الخبير الذي لا غنى عنه مثل أيّ خبير آخر.

في النّقد الحديث: نجد أصداء لهذه القضيّة حول أهميّة النّقد ودور النّاقد؛ أهو ضيف مستحبّ أم هو متطفِّل عذول؟

يدعو فراي النّاقد أن يبتعد عن الأحكام التقييميّة، وألا يتحكّم في ذوق القارئ، ويدع الحكم له. يقول: "على النّاقد أن يضع أحكام القيمة جانبًا؛ لأنها مجرّد ثرثرات ذاتيّة؛ فنحن حين نحلِّل الأدب نتكلّم عن الأدب، أمّا حين نقيِّمه فنحن نتكلّم عن أنفسنا.."6.

وإذا كان النقد العربيّ قد شبّه النّاقد بالصيرفيّ، أو الصّائغ، أو السّائس، أو النخّاس، أو غير ذلك من ضروب المهارات التي عرفتها العرب؛ فإنّ النقد الحديث لا يخرج عن ذلك في بيان منزلة الناقد، وهو يسمِّي الناقد "القارئ الخبير"، أو "القارئ المثاليّ"، أو "القارئ الماهر"، ولذلك فإن قراءة الناقد -كما تقول آن موريل- "تتميّز عن قراءة عامّة القرّاء من جهة أنها "خبيرة".. فالناقد يقرأ وهو مسلّح بمعرفة نصية وتاريخية وسيرية تضمن للنّصّ وجوداً خارجاً عن ذهنه.. إنّ الناقد يقرأ وفي ذهنه قراءات أخرى: قراءة أعمال المؤلف نفسه، أو أعمال أخرى من العصر نفسه، أو من الشّكل نفسه.. فالقراءة النّقديّة إذن قراءة مسلّحة؛ لأنّها مبنيّة على معرفة سابقة، وعلى جماليّة أو نظريّة في الأدب.."7.

ولا يستطيع هذه القراءة "المسلّحة" كلّ أحد، بل هي مهارة لا يجيدها إلا القليلون، الصّفوة المزوّدة بطبع مرهف، وذوق مدّرب، وثقافة عالية، وخبرة طويلة؛ ولذلك كان مثل هؤلاء النّقاد أندر من النّدرة.

يقول أبو عمرو بن العلاء في بيان هذه النّدرة: "العلماء بالشّعر أعزّ من الكبريت الأحمر"8. وعبّر عنها الأصمعيُّ بقوله: "فرسان الشّعر أقلّ من فرسان الحرب"9.

وهكذا يبدو النقد نشاطاً فكرياً جادّاً، ذا فاعلية مهمة لكل حركة أدبية؛ فهو يحمي هذه الحركة من الزّيف والدّجل، وهو -بتعبير النقد العربيّ- يميّز الزائف من الصّحيح، والطّارف من التّليد، والمبتدع من المستهلك المبذول. وهو يحمي القارئ العاديّ من أن يقع تحت وهم قراءة غير ناضجة، أو أنّ: "إحدى مهامّ النقد أن يسهم في تربية القارئ حتى يتجنب ما في القراءة الساذجة من مساخر، وأيضاً من مخاطر.."10.

وعندئذ فإنه لا صحة لما قاله مونتسكيو من أنّ النّقّاد يشبهون جنرالات فاشلين، عجزوا عن الاستيلاء على بلد فلوّثوا مياهه..11.

إنّ النقد -بجميع أشكاله وصوره- نشاط فكريّ جادّ، ولا تستقيم الحياة ولا الأشياء من دونه؛ إذ هو معيار تسديد وتقويم، وهو مراجعة علمية لأيّ مسار معرفيّ.

وليس صحيحاً أنّ النّاقد مبدع فاشل؛ فالإبداع والنّقد مجالان متباينان، وقد يحسن الواحد أحدهما ولا يحسن الآخر. وهذا ما عبّر عنه الخليل بن أحمد عندما سأله سائل: "لم لا تقول الشّعر مع علمك به"؟ فكان جوابه: "لأنّي كالمِسنّ؛ أشحذ ولا أقطع.."12.

بل إنّ خبرة النّاقد بالشّعر، وتمييزه الجيّد من الرديء فيه؛ قد تردعانه عن قول الشّعر؛ إذ هو أعرف الناس بقيمة ما يقوله، فإذا ما وجده دون المستوى المطلوب طواه، واستنكف عن نشره؛ احتراماً لنفسه وللمتلقي. وهذا ما عبّر عنه الأصمعيّ عندما سأله سائل: "ما يمنعك من قول الشّعر"؟ فأجاب هذه الإجابة الموجزة المعبِّرة: " ظري لجيِّده.."13.

ومثل ذلك قولُ من قال للمفضّل الضبيّ: "لم لا تقول الشّعر وأنت أعلم الناس به"؟ فأجابه: "علمي به يمنعني من قوله، وأنشد:
أبى الشّعرُ إلا أنْ يفيءَ رديئه ... عليّ ويأبى منه ما كان محْكَمَا
فيا ليتني إذ لم أُجِدْ حَوْك وشْيِه ... ولم أكُ من فرسانِه كنتُ مُفْحَما
14.

 


الهوامش: 1. طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 1/72. السابق.3. السلبق:1/5.4. الأغاني: ج8/184.5. البيان والتّبيين: 1/203.6. نظريّة الأدب، لتيري إيغلتون، ص: 161.7. النّقد الأدبيّ المعاصر: 23.8. إعجاز القرآن للباقلاني: 203.9. السّابق.10. مناهج النقد الأدبيّ، علم المعرفة، ص: 11.11. السّابق.12. العقد الفريد: 2/268.13. السّابق: 5/308.14. الموشّح للمرزباني، ص: 564.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها