
يعتبر عرض "اصطياد" الذي كتبه وأخرجه مهند كريم، وأنتجته جمعية دبا الحصن للثقافة والتراث والمسرح حالة فنية متمايزة على المستوى البصري والتشكيلي، بالإضافة لكونه عرضاً يحمل كلمة تحذيرية للمجتمع، ودعوة لنبذ أثر الاتهامات الكاذبة التي يتم إلصاقها ببعض الأشخاص. وعرض "اصطياد" مثلَ جمعية دبا الحصن في عدّة مهرجانات دولية، ونال بعض الجوائز وشهادات التقدير، وهو من العروض التي تمزج في رؤيتها الفنية والفكرية بين الدراما التقليدية والمسرح التسجيلي، فهو يعالج قضية مهمة وشائكة توجد داخل كل المجتمعات، وهي قضية إطلاق الشائعات دون وجود اتهام حقيقي، كما يفسر من وجهة نظره الخاصة كيف تتكون الإشاعة، مَن هم أبطالها، كيف تتم بلورتها، الأسباب الخفية وراءها؟ وأيضاً يحلّل ويفسّر أسباب إصرار المجتمع على إدانة من أطلقت عليه الإشاعة واستمراره في الإدانة حتّى بالرغم من تبرئة القانون له.
مثلث الصراع الدرامي:
يتأسس العرض المسرحي "اصطياد" حول علاقة ثلاثية تشبه إلى حد كبير فكرة المثلث الدرامي الشهير (الزوج، الزوجة، العشيق) وما يحدثه اجتماع هؤلاء الثلاثة داخل بنية العالم الدرامي من صراعات داخلية وخارجية تؤدي لانفجار الصراع في نهاية الأمر، لكن المثلث الدرامي هنا داخل العرض أبطاله (الفتاة، المدرس "زكريا"، والد الفتاة "يحيى")، حيث يتم اتهام "زكريا" الذي يعمل مدرساً بأنه تحرش بالفتاة "تلميذته" وابنة صديقه "يحيى"، وهو ما يوقعه في أزمة نفسية كبيرة، خاصة وأن "يحيى" والد الفتاة يصدّق ادعاء ابنته، ويقف إلى جوارها ضد صديقه "زكريا"، ويزداد الأمر سوءاً عندما يبدأ الجميع داخل مجتمع المدرسة التي يعمل بها "زكريا" في تصديق الاتهامات وكيل الشتائم له، ومن ثم ينتقل الاتهام من دائرته الضيقة داخل المدرسة للمجتمع الخارجي؛ مما يتسبّب في إهانة "زكريا" والتطاول عليه بالضرب ونبذه، ومع كل دقيقة تمر تزداد دوائر الاتهام وهو ما يضعه في مواقف محرجة، ويجعله يقف وحيداً في مواجهة فردية مع الجميع من حوله، لا أحد يصدقه ولا ينحاز لصفه، صديقات الفتاة وزميلاتها يؤكدن اتهام الفتاة لـ"زكريا" بالتحرّش وذلك عند التحقيق معهن، ويقلن إنه تحرش بهن أيضاً عدّة مرات داخل سرداب مغلق بمنزله.
ورغم تأكيد الاتهام على "زكريا" من الفتاة وصديقاتها إلا أن القاضي الذي ينظر القضية يخلي سبيل "يحيى"، ويبرئه من تلك التهمة لسبب بسيط، وهو أن وصف الفتيات لمنزل يحيى غير دقيق؛ بل كاذب إذ لا يوجد داخل ببيته سرداب من الأصل، وبالرغم من براءته واعتراف الفتاة بعد ذلك لأبيها بأنها كذبت عليه وعلى الجميع، وأطلقت هذا الاتهام ضد "زكريا" لأنه رفض حبّها له؛ يظل المجتمع رغم حكم البراءة على موقفه المتزمت، وخوفه المرضي من "زكريا" كمتحرش، ويتجنبونه وكأنهم لا يصدقون أنه بريء، ويتركونه وحيداً يصارع آلامه وما شكلته له تلك التهمة الكاذبة من عقد نفسية كبيرة.
وهنا تكمن المقولة الدرامية الرئيسة التي أسس المخرج مهند كريم عرضه المسرحي عليها، والتي تقرر أن التهم المخلّة بالشرف تظل تلاحق صاحبها بالرغم من تبرئة القانون له، لذا يحاول المخرج / معد النص الدرامي تدعيم تلك المقولة بإحصائيات ومقولات عن التحرّش حول العالم، وعمّا تفعله الاتهامات الكاذبة لمن تلصق به حتى لو كان بريئاً منها، وتظهر تلك المقولات والإحصائيات على شاشة في أعلى الفضاء المسرحي، وكأنها تزيد من تعزيز مقولة العرض، لكن زيادة وجود تلك الإحصائيات كادت أن تحيل العرض من عرض درامي يحمل كلمة
معينة إلى عرض وثائقي تحذيري، لذا كان من الممكن اختصارها إن أراد صنّاع العرض الابتعاد عن المباشرة أو وضعها بشكل مكثف في نهايته.
مسرحة لفيلم سينمائي:
الفكرة الرئيسة لنص المسرحية مستلهمة من الفيلم الدانماركي "الصيد"The Hunt ، والذي صدر عام 2012 من بطولة مادس ميكلسون، وسيناريو توبياس ليندهولم بالشراكة في كتابة السيناريو مع مخرجه توماس فنتربرغ؛ حيث نتعرّف على بطل الفيلم "لوكاس" الذي يعمل مربياً للأطفال في إحدى القرى الصغيرة ويرتبط بعلاقات طيبة ومحترمة مع الجميع، ويظل كذلك إلى أن تأتي تلك اللحظة التي تتهمه فيها طفلة صغيرة بأنه تحرش بها، فيفقد "لوكاس" بسبب هذا الاتهام صديقه والد الفتاة الصغيرة، ويفقد "لوكاس" زوجته أيضاً، وتتأثر علاقته بابنه، وتتسبب تلك التهمة في بلورة نظرة المجتمع المعادية له ولابنه كذلك بسبب اعتقادهم جميعاً بأن "لوكاس" متحرّش، ويمثل خطراً على المجتمع، وبعد براءته واعتراف الطفلة بأنها اتهمته ظلماً تظل نظرة المجتمع كما هي قائمة على عداوتها وتجنبها له، فقط قل التوتر المجتمعي بعض الشيء لكن ظلال الاتهام المخل بالشرف ما زالت لها السيطرة على أدمغة الجميع.
ومن هنا يعتبر عرض "اصطياد" محاولة لتعريب الفيلم الدانماركي، ووضعه داخل سياق عربي ينتقد الشائعات والتهم الباطلة التي يتم إلصاقها ببعض الناس ممّن لم يقترفونها. وقد حاول المخرج مهند كريم تقديم صورة بصرية جمعت ما بين المناظر المسرحية المركبة مع وجود دائم لشاشة عرض سينمائي أعلى المنظر المسرحي، فعلى مستوى المنظر تم تصميم مكانين متجاورين أحدهما يخص المدرس "زكريا"، والثاني يخص منزل الفتاة مع والدها "يحيى" ووالدتها، وبالرغم من التجاور المكاني إلا أن كل مساحة من المساحتين تتناقض تماماً مع الأخرى ففي حين تظهر معاناة "زكريا" التي تكاد تفتك به وتدمره نفسياً، تعبر المساحة الأخرى عن الكراهية التي تعتمل في صدور العائلة. وما بين الرغبة في تدمير الذات والانعزال عن الجميع من جانب المساحة التي يحتلها "زكريا"، ومحاولات بث الكراهية والغضب التي تصدّرها مساحة الفتاة تدور رحى الدراما داخل العرض، ويظهر المجتمع من خارج المنطقتين وكأنه أشباح تهيمن بظلالها على المساحتين.
لكن المتأمل لتصميم مساحة "زكريا" سيجدها أوسع قليلًا من مساحة منزل العائلة، هذا بالرغم من حالة الألم والمعاناة اللذين يشتعلان داخلها، وهو ما يوحي ويعبر أن هناك فرجاً قادماً، وهو ما يحدث بالفعل عندما تظهر براءة "زكريا"؛ ولأن المجتمع الذي أدان لا يعترف بعد ذلك اعترافاً كاملا بالبراءة، نجد مكعبا في منزل "زكريا" يتم استخدامه كمكتب تارة أو كشاشة خيال ظل تارة أخرى، نجد "زكريا" في نهاية الأمر يدخل إليه حاشراً جسده بالقوة داخله، وكأنه يقول لنا إن المجتمع لا يريد أن يتركه في حاله حتّى بعد ظهور براءته بل يصر هذا المجتمع على إدانته ووضعه داخل إطار زجاجي من العزلة.
تحولات الجسد من الطاووسية للانكسار:
إذَن؛ نحن أمام عرض يحمل حساسية فكرية خاصة وصور بصرية جمالية ترصد تحولات شخصية إنسانية، تتميز برهافة الحس والاعتدال النفسي والأخلاقي، حيث نراه يقف منفرداً أمام مجتمع صلب لا يعرف لغة المشاعر، مجتمع يصمم على نبذه واتهامه، تظهر تلك التحوّلات في صيغتها الجسدية من خلال أداء البطل الرئيس "زكريا" والذي أداه الفنان شريف عمر، يظهر في البداية قوياً، منتصب القامة، مزهواً بنفسه، ثم يبدأ في مقاومة الإشاعة مضطراً للدفاع عن نفسه، وبالتالي يظهر أداؤه من خلال جسد يتهاوى، تزداد حدة مقاومته لكنها تصل للانكسار، ويظل الجسد على انكساره رغم فعل البراءة، بسبب عدم الاعتراف الكامل من المحيطين به بهذه البراءة، النظرة الاجتماعية له ما زالت تراه متحرشاً جنسيا، لذا يخور الجسد ليصل لتجميد نفسه عبر دخوله إلى المكعب الزجاجي.
تحولات الجسد هنا من حالة الزهو الكامل لحالة التجمد داخل مكعب هي تحولات نفسية أيضاً مر بها "زكريا"، وهي في نفس الوقت تعظيم من أثر الاتهامات الكاذبة، وكشف لهشاشة المجتمع الذي يميل للإيحاء، وتصديق الاتهام أكثر من ميله لتكذيبه أو التصالح معه بعد نفيه.
حركة الممثلين داخل العرض تميزت بحالة من التوتر لدى الجميع، فالكل يقف عند حد الإذعان، وخاصة "زكريا" كما أضفت حالة الخفوت في الإضاءة مع اعتماد مجموعة من الألوان الساخنة، وخاصة اللون الأحمر إلى تحويل العرض للحظة إضاءة خاصة يملأها القلق والغموض، تكاثف الدخان أيضاً ما بين الموقف الدرامي والآخر كل فترة يعبر عن ضبابية هذا المجتمع وعدم وضوح الحقائق به للجميع. كل ذلك يعني أننا أمام عرض يتأسس على موقف درامي واحد وفاصل معتمداً على توقيف اللحظة الزمنية/ لحظة الاتهام وتشريح أبعادها نفسياً واجتماعياً، وبالتالي وضع رؤى بصرية وسمعية معبرة عن معاناة بطلنا الدرامي داخل مجتمع يتميز بالجمود.
والعرض من تمثيل شريف عمر، نبيل المازمي، عبدالله الخديم، أحمد أبو عرّاده، آلاء أحمد، والصوت كان سما البصري، أما الموسيقى والتي زادت من حدة التأثير الدرامي فكانت لـ محمد علي سلامة، وتصوير المواد البصرية كان لـ أحمد المهري.