ضربات الفرشاة تمزج بين رواية نجيب وحكايا شهرزاد...

"ألف ليلة وليلة" في مُعَادِلٍ بَصَرِيّ معاصرٍ

شريف الشافعي



في طموحها إلى التفوق والتّجاوز، تستند الفنون البصرية إلى التمرد على سكونية اللحظة وثبات الحالة، بتفجير مشاهد دينامية للناس والأحداث والأشياء مشحونة بالحركة وتفاصيل الحياة، تنسجم فيها معطيات الحاضر الراهن، وعناصر التراث ومفرداته وأيقوناته الزاخمة، ما يجعل اللوحات والمنحوتات المجسّمة حمولة واعية لانهائية الدلالات والمعاني والإيحاءات، وإبحارًا لا ينقطع عبر الزمن، ورسالة إلى المستقبل تروي حكايات الأجداد والآباء للأبناء والأحفاد، جيلًا بعد جيل.
 

أكثر من رهان شائك خاضته بجسارة التشكيلية المصرية المخضرمة إكرام عمر (80 عامًا)، في أعمال مجموعتها الفنية الأخيرة "ألف ليلة وليلة"، فمن جهة تماسّت بصريًّا وفكريًّا وفلسفيًّا مع أجواء رواية "ليالي ألف ليلة"، الشهيرة لأديب نوبل نجيب محفوظ، ومن جهة ثانية استدعت القماشة الأوسع لعالم الأساطير وطقوس الخيال والسحر والحلم العجائبية، من الكتاب التراثي العمدة في هذا المجال "ألف ليلة وليلة"، ومن جهةٍ ثالثة فإنها خاضت مغامرة مع الذات، بالعودة إلى الرسم والنسيج كفنانة محترفة لا تزال قادرة على العطاء، بعد غياب ثمانية عشر عامًا عن المعارض والحركة الفنية.

تحركت الفنانة إكرام عمر بحرية للتعبير عن تجربتها الخاصة في تصوير رؤيتها حول أبرز ما جادت به صفحات العملين الكبيرين، وتعاطت بحساسية مع مواضع الاتفاق والاختلاف بينهما، وقد بنى محفوظ روايته على نموذج "ألف ليلة وليلة"، مستخدمًا القالب الفانتازي واللغة الشاعرية وأسلوب البناء التراثي، فبدأت الأحداث بقرار الملك "شهريار" الإبقاء على زوجته "شهرزاد" والتراجع عن فكرة قتلها، ومع كل ليلة يجري عرض جوانب من شخصيات المملكة عبر مجموعة من القصص المنفصلة المتصلة، التي ترويها شهرزاد، وتتسم بالتشويق والإثارة، وتعج بالأحداث والكائنات الغريبة.

احتضنت التشكيلية إكرام عمر الجنية والطاووس والأشجار المسحورة، والكائنات الخُرافية مثل العفريت و"شواهي أم دواهي"، وتنقلت بخفة بين القصص المحفوظية، والحكايات التراثية الأصلية، لتنسج خيوط أفكارها وتصوراتها بصيغ عصرية لا تكتفي بإعادة إنتاج القديم؛ وإنما تبعثه في سياق حيوي جديد، بأسلوب مبسّط، عميق، أخّاذ.

ويعد كتاب "ألف ليلة وليلة"، أو "أسمار الليالي للعرب مما يتضمن الفكاهة ويورث الطرب"، الذي تعود حكاياته إلى الحضارات الفارسية والهندية والعربية والمصرية وبلاد الرافدين، مصدرًا خصبًا للتشكيليين، المصريين والعرب والعالميين، الذين أسرتهم القصة المحورية (علاقة شهرزاد وشهريار)، إلى جانب القصص الفرعية المتوالدة في حكايات شهرزاد الليلية، ومنها قصص نالت ذيوعًا واسعًا، مثل "علاء الدين والمصباح السحري"، و"علي بابا والأربعون لصًّا"، و"رحلات السندباد البحري السبع"، وغيرها.

وقد انتقلت أجواء هذه الملاحم إلى أعمال فنية لافتة لكبار التشكيليين عبر الأمكنة والعصور، منهم: بيكاسو، ديلاكروا، أوجست رينوار، هنري ماتيس، دي كامب، فان دونجن، والعراقي حسن عيد علوان، والمصري عدلي رزق الله، الذي أنتج مشروعًا كبيرًا لرسم حكايات ألف ليلة وليلة بأسلوب طفولي تلقائي، وغيرهم.

وازنت التشكيلية إكرام عمر، التي درست الفن في أكاديمية الفنون الجميلة بروما، في أعمال تجربتها الجديدة التي ناهزت الثمانين، بعدد سنوات عمرها، بين الرسم والنسيج، وأتاح لها هذا المزج الفرصة استبدال آلة الألوان النمطية (الزيتية، المائية، الجواش، الباستيل، الخ)، بأخرى مكوّنة من الخيوط والأنسجة الملونة، الأمر الذي منحها حرية أوسع في التجسيم والتشخيص، وأكسب الأعمال صبغة درامية تساعد على الحكي من خلال صور تبدو ثلاثية الأبعاد.

تجلت مهارة الفنانة في قدرتها الفائقة على تحريك شخوصها وكائناتها التي تحكي عنها، فهي لا تكتفي برسم طائر الرخ الخرافي مثلًا؛ وإنما تطير معه في فضاءاته، وتتقصى انفعالاته، وكذلك تغوص في الأعماق الداخلية للسندباد، فتنقل غضبه الشديد حال تحطم مركبه، وتتحدث بلسان الخيلاء وهي تحكي عن الطاووس في جنته بألوان زاهية متفجرة، وتقترح طيورًا وكائنات من وحي التماعاتها الذاتية، مثل ذلك المخلوق الأخضر، ذي الأجنحة، المصوغ من أوراق الأشجار، في لوحتها "شجرة مسحورة أنجبت أميرة".

وعلى حد الوصف المحفوظي في "ليالي ألف ليلة"، للمدينة الغرائبية التي "ليست من صنع بشر، كأنها الفردوس جمالًا وبهاءً وأناقة ونظافة ورائحة ومناخًا، تترامى بها في جميع الجهات العمائر والحدائق، والشوارع والميادين المكلّلة بشتى الأزهار، وتنتشر فوق أديمها الزعفراني البرك والجداول، سكّانها نساء، لا رجل بينهن، ونساؤها شباب، وشبابها جمال ملائكي"، فقد أقامت التشكيلية إكرام عمر عالمها الفني على هيئة مسرح يتسع لهذه التفاصيل، وغيرها، وجعلته واقعًا موازيًا لإقامة حياة بديلة، أو فهو في أحد وجوهه "جنة الله على الأرض"، فالحياة إن لم تكن بهذه المواصفات، بمنظور الفنانة؛ فإنها لا قيمة لها.

في هذا الكون الناعم، شرعت إكرام عمر في منح كل شخص وكائن دورًا لا ينتقص من بطولته، وهو دور يخالف المتوقع في معظم الأحوال، تمشيًا مع فكرة تجربتها القائمة على السحرية، فالأشجار بيضاء ترتدي عباءات المتصوفين، وعروس البحر تراقص الأسماك وتحتضن الأزهار في آن، والعفريت الأحمر يتبادل العشق مع شجرة فتخضرّ عيونه وتمتلئ بالطيبة، وإنسان الغابة البدائي يفيض حنانًا ودفئًا، ويعيد إلى البشرية الكثير من ملامحها الغائبة في عصر الآلية والتسليع والتجمّد الراهن.
 

نجحت التشكيلية المصرية، صاحبة الخبرات الطويلة في ممارسة الفن وتدريسه، في ابتعاث الموروث الحكائي بأسلوب تصويري معاصر، واتخذت من الماضوي القديم مادة بكرًا لانتقاد ما هو قائم، أملًا في حاضر ومستقبل أكثر نبلًا وإشراقًا، فهي ببساطة لم تحكِ ما كان، بقدر ما تحدثت عما تتمنى أن يكون، وتلك هي القيمة العليا لما أنجزته.



لمزيد من الصور
Ekram Omar Arts | Facebook © 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها