في تجربة الكتابة محاولة لإيجاد فضاء أكثر رحابة واتساعاً، يشعر فيه صاحب القلم أنه قادر على الحركة دون قيود مؤثرة تحد من رغبته في الانطلاق بأفكاره وقناعاته دون تعقب أو منع، وتجد الذات المبدعة ضالتها في وعاء الرمز تلجأ إليه لتسكنه ما تشاء من دلالات؛ ومن ثم فإن آلة الرمز في عوالم الفن تمثل عتبة تعبيرية تقف عليها الذات محطمة بها جبالاً شاهقة واقعية الحضور، ويصير لزاماً على من يتلقى عملها البحث في طبقات المعنى واحتمالاته التي تسكن هذه الأيقونة، ألا وهي الرمز1.

وإيميل حبيبي إحدى الشخصيات المنتسبة إلى حقل أدبنا العربي في العصر الحديث، ولمحاولة إضاءة الكامن في إبداعه عتبات يصح الوقوف عليها:
● فلسطيني الجنسية، المولد في حيفا، 1921م، وقد أتم دراسته الثانوية في عكا.
● من عرب 48، الذين يحملون هويات إسرائيلية.
● واشتغل عامل بناء زمنًا، ثم انتقل للعمل مذيعًا بإذاعة القدس، واستقال منها ليعمل موظفًا في معسكرات جيش الانتداب، ثم محررًا في جريدة (الاتحاد)، وأصدر مجلة (المهماز) في حيفا عام 1946، وناضل نضالاً متصلاً ضد الانتداب البريطاني، ثم ضد ممارسات الدولة الإسرائيلية بعد قيامها. واختاره المواطنون العرب ضمن من يمثلونهم في (الكنيست)، وبقي عضوًا به حتى عام 1972 حين قدم استقالته ليتفرغ للكتابة، وفي عام 1990، أهدته منظمة التحرير الفلسطينية (وسام القدس)، وهو أرفع وسام فلسطيني، وفي عام 1992م منحته إسرائيل (جائزة الإبداع)، فارتفعت الأصوات تطالبه برفضها، لكنه قبل الجائزة، ثم أعلن تبرعه بقيمتها المادية لجمعية (المقاصد الإسلامية) التي تتولى علاج جرحى الانتفاضة. وفي العام الأخير من حياته، انشغل بإصدار مجلة أدبية أسماها "مشارف".
● ورحل إميل في مايو/أيار عام 1996م، وأوصى أن تُكتب على قبره هذه الكلمات "باقٍ في حيفا"2.
● نشر حبيبي عمله الأول (سداسية الأيام الستة)، عام 1968، وبعده تتابعت الأعمال: (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل)، 1974م (لكع بن لكع)، رواية مسرحية، 1980م، ثم (أخطية)، 1985، وأخيرًا (خرافية سرايا بنت الغول)، 1991م
● جعلت تلك الأعمال القليلة صاحبها أحد أهم المبدعين العرب. ولإحسان قراءة إميل حبيبي وفهمه، يجب أن نضع في حُسباننا دائمًا أنه يكتب من داخل الزنزانة الإسرائيلية، وهو من ثَمّ يفتقد القدر الكافي من الحرية ليقول -مباشرة- ما يريد، وكان عليه أن يلجأ إلى الرمز والكناية والإيماءة والإشارة من بعيد.

في روايته (المتشائل) لم يسلك إميل أيّا من السبل المطروقة في الرواية العربية أو العالمية، بل أسَّس إبداعًا جديدًا يقوم على استلهام التراث الفلسطيني والعربي، وحُسن استخدام اللغة، والجرأة في التعامل معها، والاستعانة بالأمثال والحكايات، ثم اللجوء إلى السخرية أو الفكاهة السوداء لو صحّ التعبير. وجوهر الرواية هو وصول بطلها (سعيد) إلى حتمية صيغة الفداء والمقاومة المسلحة. هو في (الكتاب الأول) باحث عن (التكيف)، ملتمس للأمن والأمان، مستعدّ لتقديم كل التنازلات التي تطلبها منه الدولة العنصرية الباطشة، ثم يقف -في نهاية (الكتاب الثاني)- ممزقًا في ازدواجيته اللعينة تلك، وقد حمل ابنه السلاح ضد الدولة ولاذ بكهف بعيد. وفي (الكتاب الثالث) ينتهي الأمر بسعيد إلى الجلوس على قمة العمود، يرفض النزول عنه. صحيح أنه تغير، وأيقن أن تنازلاته كلها لم تُجْدِه شيئًا، لكنه عاجز عن النزول إلى الناس والمشاركة في نضالهم. ولا يجد أمامه سوى الاستنجاد بالكائن الفضائي، الذي يستجيب له، فيحمله إلى حيث أَلْقت: الجنون أو الموت. وتكون كلمة (يُعاد الثانية) خير ما يقال في وداع (أبي النحس): لقد استراح وأراح! إن العمل كله يؤكد سقوط صيغة (المتكيف)، أو (مزدوج الولاء) داخل إسرائيل، وصعود صيغة (الفدائي) الذي يحمل السلاح في وجه الدولة الغاصبة.. لا سبيل سواه.
● وقد ذكرت ضمن أفضل مائة رواية عربية. وترجمت إلى العبرية وأصبحت من أشهر المؤلفات العربية لدى الجمهور اليهودي في إسرائيل. وتتضمن ثلاثة كتب:
◅ الكتاب الأول: يعاد
◅ الكتاب الثاني: باقية
◅ الكتاب الثالث: يعاد الثانية
وقد نشرت أغلب أعماله دائرة الاعلام والثقافة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية
● أنشأ إميل حبيبي مجلة مشارف الثقافية، توقّفت لفترة قصيرة بعد وفاة مؤسّسها ثمّ عادت للصّدور في حيفا.
● وفاته كانت في العام 1996م.
والحديث عن عمله "المتشائل"3 يأخذ القارئ في مسارات عديدة، صيغة العنوان التي لا تبتعد عن سمة تأليفية تراثية، نرى للمصنف عنواناً مختصراً يشتهر به في فضاء القراءة، يسكن تحته صيغة لغوية تتسم بالطول وقدر من التفصيل، ولنضرب المثل على ذلك برحلة ابن بطوطة المسماة "تحفة النظار في غرائب الأمصار".
والحديث عن المتشائل يأخذ إلى واقع درامي ليس ببعيد عن سياق مرجعي تتحرك فيه الشخصية ذات الطابع الرمزي الكثيف بوعيين، وعي المتسائل الباحث عن حقيقة غائبة، وغاية منتظرة، ووعي من يرى أمامه طرقاً موصودة تحيطه هالات من اليأس والعجز والإحباط، إننا أمام صيغة منحوتة وفي نحتها انعكاس لحال، إنها صيغة المتشائل المصنوعة من خامتين لغويتين: متسائل، ومتشائم.
ولا شك في أن هذا الامتزاج يأخذنا إلى مقدمات واقعية ونتيجة فنية يصل إليها الراوي مع شخصية البطل سعيد؛ إن ساكن الداخل الفلسطيني الذي يعيش داخل ما يسمى بالخط الأخضر، والمصنف على أنه من عرب 48 يعيش شعوراً بالغ الحساسية والتعقيد، بين مرجعيته العربية وهويته الأم، وهذه المرجعية الزائفة التي تسعى بقوة متعددة الأوجه أن تفرض نفسها عليه قلباً وعقلاً وعقداً اجتماعياً.
إن هذا العنوان المنحوت يحيل إلى حركة درامية عبر محطات فنية عديدة داخل الرواية تمر بها الشخصية سعيد، الذي ينطوي اختيار الاسم العلم المعبر عنها على قصدية.. تصل بها في النهاية إلى قناعة مفادها: أن العربي داخل الخط الأخضر مرجعيته الأصيلة الحقة هي تلك التي تجمعه بسياقه العربي والإسلامي، ومن ثم فإن الرداء الذي يجب عليه التدثر به هو رداء المقاومة لتحرير الأرض، وتنظيف ثوب الهوية من هذه البقع الناجمة عن احتلال زائل لا محالة. إن وعي الرواية المصنوع يحسم أمره مع حالة الازدواج/ الأزمة هذه بهذه النتيجة الحتمية، سعيد فدائي وليس مزدوج الجنسية أو الولاء.
وحتى نصل إلى هذه النتيجة الدرامية يمر الفن عند حبيبي على محطات جمالية ثلاث، تشكل كل واحدة منها تجربة تصقل البطل وتضيف إلى رصيد الرؤية عنده كماً معرفياً ووجدانياً مضافاً، لا تبتعد عنه حتمية الصراع الذي يتخذ مسارين، نفسي داخلي، وخارجي. إن ذات البطل هاهنا تعيش حالة من التفكك والتمزق بين وعيين كلاهما يسعى إلى فرض سطوة مدهشة على هذا المفعول ذي الصبغة الإنسانية/سعيد.
إننا بصدد أبجدية سردية تقدم في النهاية صورة خيالية لها اتصال بمرجعية الواقع، صورة لحالة جمعية معيشة تعبر عن هذه الشريحة من أسرتنا العربية الكبيرة الساكنة خلف الخط الأخضر الذي يحول بينها وبين وشائج قربى تصلها بالحاضنة العربية الأم.
إننا في هذا العالم الفني لحبيبي أمام ما يمكن تسميته مجازاً مرسلاً درامياً علاقته الجزئية، لقد أطلقنا الجزء/شخصية سعيد عبر عالم الفن، وأردنا الكل سياق المرجع الخارجي الذي يشهد بدرجة كبيرة هذه الحالة القلقة المتوترة4.
إن عدسة الفن إذًا؛ عبر راوي حبيبي تحاول تسليط ضوء على ما نستطيع أن نطلق عليه حالة تنازع واشتغال درامية؛ فذات حبيبي تعيش مسارها الحياتي في جُلِّه تحت تأثير فاعلين، يحاول كل واحد فيهما ترك بصمته عليه، فاعل سلبي يأخذ إلى مغتصب الأرض وسالبها، وفاعل إيجابي يعود بها إلى فطرتها ومرجعيتها الأصيلة التي منها خرجت؛ ومن ثم فإن إلحاح العودة يبدو في وعيها قوياً، ويظهر ذلك واضحاً في تكراره السردي مرتين عبر صيغة المبني للمجهول في الكتابين: الأول والثالث من الرواية: يُعاد، ويعاد الثانية.
مراجع: 1. انظر: د.أحمد يحيى علي، الأدب وصناعة الوعي: ص18، الطبعة الأولى، 2017م، دار كنوز المعرفة، عمان.┇2. موقع القصة السورية على الإنترنت.┇3. رواية المتشائل بصيغة بي دي إف.┇4. انظر: د.أحمد يحيى علي وآخرون، أعلام القصة العربية، الجزء الثالث والرابع، الطبعة الأولى، 2014م، مكتبة الآداب، القاهرة.