النّقادُ -غالبًا- ليسوا من أصحاب الجماهير

حـوار مع الناقد إبـراهيم أحمد متولي

حاوره: د. محمد حسانين إمام



لقد كشفت نتائج الدورة السابعة والعشرين لجائزة الشارقة للإبداع العربي للعام 2023/ 2024م -فرع النقد- المعنون بـ(التقنيات السردية في رواية ما بعد الحداثة) فكان ضمن الفائزين به، الباحث المصري/ إبراهيم أحمد متولي أردش بـ(المركز الأول) عن بحثه: (تقنياتُ سردِ ما بعدَ الحداثةِ في الروايةِ العربيةِ الجديدة "التمثيلاتُ السرديةُ في الألفيةِ الثالثة")، وتعد هذه الجائزة أكبر داعم نفسي للشباب الباحثين في الوطن العربي كله؛ فقد كنت واحدًا ضمن الفائزين بها؛ فهي حقاً إثراء وثقة وتحفيز للسير قدمًا نحو الأمام، ومن ثم، أجريت حوارًا مع الباحث/ أردش احتفاء به وإفادة للمتلقي من تجربته؛ ليحدثنا عن بداية رحلته النقدية وتكوينه العلمي والأكاديمي وغيرها، وذلك من خلال الآتي:

 

 هناك بدايات فارقة في حياة كل إنسان، تلك التي يقتنص فيها المرء لحظة نباهته وتميزه وقدراته، فمتى كان اكتشافك لذاتك النقدية؟

هذا السؤال سيجعلني أبحر في الذاكرة لرحلة تمتد إلى تسع سنوات خلت؛ فقد كنت -وقتها- طالبًا في الفرقة الثانية بكلية (دار العلوم ـ جامعة المنيا) أدرس اللغة العربية وآدابها والعلوم الإسلامية، وكنت وقتها شغوفًا بالشعر العربي، أحاول كتابة الشعر وأتعثر فيه، فتعرفت شاعرًا، وفي يوم نشر قصيدة عبر حسابه الفيسبوكي، فاستثمرت مخزوني الدراسي لعام ونصف في الإفادة منه في تحليل النص الأدبي والوصول إلى بعض معانيه من لغة وبلاغة وأدب... فصببت كل هذا في تحليل قصيدة هذا الشاعر، فدهش، قائلًا لي: (كأنك كنت معي، وأنا أكتب القصيدة)! ثم التقيت شاعرًا آخر، فطلب رؤيتي النقدية في قصيدته، وهكذا أخذت مدة -فترة الجامعة- أعلق على بعض نصوص الأصدقاء من الشعراء على صفحاتهم، إلا أن بعض هذه التعليقات كان انطباعًا خالصًا، وبعضها استثمارًا لمعارفي الدراسية والاطلاعيَّة في الكتب، ومن وقتها تأكد علي أن أسلك هذا الطريق؛ طريق النقد الأدبي.

 لم تكن تجربتك النقدية وليدة لحظة فوزك بالشارقة، فكيف تكونت حصيلتك النقدية، وما الكتب التي بدأت بها رحلتك؟

لقد مررت في تجربتي النقدية بنقلات عدة في مرحلتي الجامعية؛ حيث كانت النقلة الأولى حينما بدأت أتعمق في قراءة الكتب النقدية، وأحرص على شراء أي كتاب مَعنِيٌّ بتحليل النصوص الأدبية، طالما أن سعره في متناول يدي، فطالعت كتب النقد الأدبي بنهم، مع محاولة تقديم قراءات ورؤى لبعض النصوص، حتى جاء أول اختبار حقيقي لي؛ ففي (الفرقة الثالثة) كان لدينا مادة اسمها (أعمال السنة) مقسومة إلى قسمين: قسم بحثي، يعده الطالب، وكان موضوع البحث في حقل النقد الأدبي، فكان عليَّ أن أثبت لنفسي أولًا أنني قادر على أن أسلك ذلك الطريق، فحللت وقتها قصيدة من (34) سطرًا شعريًّا تقريبًا لصلاح عبد الصبور عنوانها (أبو تمام) في أكثرَ من مائة صفحة، استثمرت فيها كل معارفي النقدية التي تصلح لها، ورجعت إلى كثير من المصادر والمراجع وأمهات الكتب مازجًا النظري بالتطبيقي، وقد تلقى أساتذتي هذا البحث بحفاوة وتقدير كبير، ولم يكونوا يعرفونني من قبل، ومن بعدها تلقيت منهم دعماً معنوياً وعلمياً كبيراً، بعد ذلك الموقف فُتحت شهيتي للقراءة أكثر، فأتيت على أكثر كتب أساتذتي في النقد الأدب، وأخذت اقرأ لكبار النقاد مع استشارة أساتذتي، والتعلم منهم، فقمت بكتابة بحثين كبيرين: أحدهما عن (شعر مالك ابن الريب)، والآخر (حول شعر أبي نواس)، وفي العام نفسه تلقفني علمياً أستاذي الدكتور عبد الهادي علي عبد الهادي رحمه الله وأدخله فسيح جناته، ومن هنا حدثت النقلة الثانية فأخذت عنه المنهجية في القراءة، والضبط في تناول النصوص، وقد كان صارمًا في العلم، رغم نبله الإنساني الكبير، وكان يوصيني دائماً ببعض الكتب التي كان يراها ضرورية لي، -رحمه الله وجزاه عن طلابه خير الجزاء- ثم أتت النقلة الثالثة، وذلك حينما انتقلت إلى (برنامج الدراسات العليا) فاخترت تخصص (البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن) حتى حصلت على درجة الماجستير.

وتتمثل النقلة الرابعة حينما بدأت الكتابة للمجلات والصحف والذهاب إلى الفعاليات والندوات الأدبية والثقافية، فكان فوزي بجائزة الشارقة وليدة تلك المحطة الرابعة في حياتي النقدية، وهي بلا شك دفعتني معنويًّا وسط أقراني وأساتذتي ثقة وتميزًا ومواصلة السير.

 ما أهم النظريات النقدية التي مكنتك من كتابة بحثك الفائز، وما عنوانه؟

دائمًا ما أحب أن أترك الحرية للنص كي يعبر عن نفسه؛ فالنص هو الذي يختار منهجه الذي يناسبه؛ ولأنَّ نصوص الرواية الجديدة التي تستخدم (تقنيات سرد ما بعد الحداثة) لها طبيعة مختلفة، فلم ألتزم منجهًا واحدًا في تناول النص، بل سيجد القارئ منهج كتابي الفائز -خليطًا من المنهج الفني إلى جوار السيميائية، مع استثمار مفاهيم نظرية السرد، وكتابي الفائز، يحمل عنوان (تقنياتُ سردِ ما بعدَ الحداثةِ في الروايةِ العربيةِ الجديدة "التمثيلاتُ السرديةُ في الألفيةِ الثالثة").

 لا شك أن هناك أساتذة مخفيين في النص المقروء، فما أهم الكتب النقدية -من وجهة نظرك- التي أكسبتك الملكة النقدية؟

من الطبيعي أن أفيد من مخزوني المعرفي في النقد الأدبي على مدار السنوات السابقة، سواءً المخزون الناتج عن القراءة، أو التعلم من الأساتذة عن طريق المحاضرات الجامعية أو الندوات الثقافية والحلقات اليوتيوبية وغيرها، لكن هناك بعض الكتب كان لها أثر مباشرٌ عليّ، ومنها: (عن بناء القصيدة العربية الحديثة للدكتور علي عشري زايد)، وكتاب (الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية للدكتور عز الدين إسماعيل)، وكتاب (بناء الرواية للدكتورة سيزا قاسم)، و(بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي للدكتور حميد لحمداني)، وكتاب (في نظرية الرواية للدكتور عبد الملك مرتاض)، وكتاب (أنماط الرواية العربية الجديدة للدكتور شكري عزيزي الماضي)، وكتاب (النقد الثقافي دراسة في الأنساق الثقافية العربية للدكتور عبد الله الغذامي)، إضافة إلى كتب النقاد الكبار، أصحاب المشاريع النقدية الكبرى أمثال: الدكتور سعيد يقطين، والدكتور صلاح فضل، والدكتور عبد الرحيم الكردي، والدكتور جابر عصفور، والدكتور محمد عبد المطلب وغيرهم من الجيل العتيق عبقًا تنظيريًّا وتطبيقيًّا.

 يقال: (كاد كبار النقاد أن يندثروا)، فهل توقفت الأجيال اللاحقة عليهم عن العطاء والإبداع النقدي تنظيرًا وتطبيقًا، تُرى هل في الأجيال القادمة أملا في تطوير النظرية النقدية؟

في جيل الشباب نقاد يعقد عليهم الأمل، أحرص على متابعتهم والتعلم منهم على سبيل المثال لا الحصر: مصطفى رجوان، وسعيد الفلاق، وياسين معيزو من المملكة المغربية، وهم نقاد متحققون معروفون، وفي مصر من الجيل الجديد أيضاً هبة رجب شرف الدين، وشيماء شحاتة، وأسماء خليل من أصحاب النزعة الأكاديمية، وهناك نقاد مبشرون أيضاً لا ينتمون إلى النزعة الأكاديمية، لكنهم يعملون بجد وبمنهجية وبوعي كبير، مثل محمد أسامة ويوسف الشريف وأكرم محمد؛ فهذه الأسماء يعقد عليها أمل كبير.

أما عن تطوير النظرية النقدية -وأشكرك أنك لم تقل النظرية النقدية العربية؛ لأن النقد بطبيعته عالمي، لا تحده ثقافة أو لغة، بل كل يأخذ من بعضه ويتأثر- فالنظرية النقدية تحتاج إلى تكاتف الجهود من مختلف الأجيال حتى تصل إلى المستوى المطلوب منها.

 تناولت روايات عدة، فهل الروائي العربي استطاع أن ينجح في تشكيل سردياته وتوظيفها، أم أن هناك رواية بعينها ظهرت فيها التقنيات المطلوبة في عنوان الجائزة؟

لقد أدهشني الروائي العربي بقدرته الفائقة على التجريب، وعلى توظيف تقنيات سرد ما بعد الحداثة في تشكيل العمل الروائي، وقد ثبت لي أن الأديب العربي باستطاعته أن ينافس إبداعيًا كبار أدباء العالم، أما عن السؤال: فتوظيف التقنيات كان متفاوتاً بطبيعة الحال؛ فهذا لا يقلل من الجهد المبذول في أي رواية من الروايات التي تناولتها؛ فالأديب يستخدم التقنيات بقدر حاجة روايته إليها، لا لأجل أن يجد النقاد تلك التقنيات ليثبتوها في كتاباتهم.

 لا شك أن نبأ فوزك أحدث ضجة عارمة، فكيف تلقى جمهورك من أقرانك وأساتذتك على وسائل التواصل خبر فوزك، خاصة أقرانك؟

إن سعادة أقراني بحصولي على الجائزة واحتفائهم بي كان جائزة تضاف إلى الجائزة، ولم أكن أتخيل أن يتلقى خبر فوزي بهذا القدر الكبير من السعادة والحبور؛ فالحمد لله رب العالمين، أما تلقي الجمهور، فأظن أنني لم أصبح ناقداً جماهيريًا بعد، بل إنني ناقد شاب، ما زلت في بداية الطريق؛ والنقاد -غالبًا- ليسوا من أصحاب الجماهير الغفيرة.

 تطوير الذات النقدية مطلوب للتمكن والتمرس على الأنواع الأدبية عامة، فهل هناك تجارب نقدية لك في الأنواع الأدبية الأخرى؟

بالفعل؛ فالدراسة الفائزة في النقد الروائي، ولي مراجعات وقراءات نقدية حول الرواية، كما أن لي أيضًا قراءات ومراجعات في الشعر؛ فرسالتي للماجستير تناولت النص الشعري، وفي نيتي أن تكون أطروحتي للدكتوراة في (نقد النقد) بمشيئة الله هذا إلى جانب قراءاتي النقدية حول أدب الطفل، وكذلك القصة القصيرة؛ فلا أفضل أن أحصر نفسي في نوع أدبي واحد، أو منهج واحد أو نظرية واحدة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها