بين.. المعايير والمحاذير

"حسن الحضري" ينتصر لمعايير الشعر القديم

عبير نعيم أحمد


ما زال المشهد الأدبي ولاسيما الشعري حافلًا بالسجالات بين أنصار الاتجاه المحافظ الذي يراعي قواعد العمود الشعري وبين التيارات الحداثية، ومن المؤلفات النقدية الصادرة حديثًا في هذا الموضوع كتاب (الشعر العربي المعاصر بين المعايير والمحاذير) للشاعر والأديب المصري حسن عبد الفتاح الحضري، وهو معروف باتجاهه المحافظ في الشعر، ومعروف أيضًا في أبحاثه العلمية ودراساته ومقالاته بأسلوبه العميق وألفاظه الجزلة وعباراته الرصينة، وقد اتخذ الحضري هذا الاتجاه المحافظ منذ بداياته، فقد نُشِرت له عدة قصائد في الصحف المصرية في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، وكان وقتها طالبًا بكلية الآداب، وكانت أشعاره منذ ذلك الوقت تدل على أنه نشأ قويًّا منذ بداياته، وفي ذلك الوقت المبكر كتب عنه عدد من أساتذته؛ مثل: الدكتور عبد المجيد الإسداوي، والدكتور أحمد السعدني رحمه الله، الذي عقد موازنة بين أشعار حسن الحضري وبين أشعار الجاهليِّين، مبينًا أن شعر الحضري يُعد امتدادًا حقيقيًّا لشعرهم رغم صغر سنِّه في ذلك الوقت، وقد استمر الشاعر حسن الحضري بعد ذلك متمسكًا بأسلوبه المحافظ، ليس فقط من خلال أشعاره؛ بل ومن خلال مؤلفاته النقدية وأبحاثه ومقالاته.
 

ويُعد كتاب (الشعر العربي المعاصر بين المعايير والمحاذير) الصادر هذا العام (2024)، هو الإصدار (الخامس عشر) للشاعر والأديب حسن الحضري من جملة مؤلفاته المطبوعة؛ حيث صدر له قبل هذا الكتاب تسعة دواوين، وكتاب في علم العروض بعنوان (الصحيح في علم العروض)، وعدة مؤلفات أدبية ونقدية.

وقد تتشابه فكرة هذا الكتاب الجديد للحضري مع كتابه (القرآن الكريم يحدد ماهية الأدب) الصادر سنة 2015 من حيث الأهداف والنتائج، مع الاختلاف الكلي للمادة التي تناولها في هذا الكتاب الجديد حول الشعر العربي المعاصر، الذي يتناول فيه تحولات القصيدة العربية المعاصرة، التي يرى الحضري أنها «اتجهت على أيدي بعضهم إلى مسارات بعيدة، واتخذت أشكالًا جديدةً خرجت بها عن مفهوم الشِّعر ومسمَّاه»؛ ويؤكد الحضري من خلال هذا الكتاب فكرته التي يتمسك بها منذ بداياته الشعرية والأدبية؛ حيث يرى «أن الشِّعر له تعريف محدَّد وُضِع مِن أجله ولا ينبغي إغفاله، ويجب ألَّا يُدرَج تحته ما لا تنطبق عليه مقوِّماته وقواعده التي يشتمل عليها تعريفه»، وهي الجملة التي كتبها الحضري على ظهر غلاف كتابه، ولم يكتفِ بذكرها في مادة الكتاب؛ حرصًا منه على تأكيدها وإبرازها.

أما عن محتوى الكتاب فقد قسمه الحضري إلى ثلاثة فصول، بجانب المقدمة والتمهيد والخاتمة والنتائج، مع التوثيق الدقيق للنُّقول والاستشهادات، وتجلت براعة الحضري -كعادته- في النقد الموضوعي والتحليل المنهجي، مسترسلًا إلى الانتصار لرأيه ومذهبه المحافظ بأسلوب علمي، يدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه وبديهته الحاضرة. وقد تناول في الفصل الأول "الشعر العربي ومراحل تطوره حتى نهاية العصر العباسي"، ودار هذا الفصل حول: مفهوم الشعر ومكانته عند العرب، وأثر البيئة في الشعر، ومراحل تطور الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي، وتطرَّق في ثنايا ذلك إلى مسألة "أول من أنشد الشعر"، وقدَّم عرضًا موجزًا حول تطور القصيدة العربية في العصر الجاهلي، ثم تناول الشعر العربي في صدر الإسلام حتى أوائل العصر العباسي، ثم انتقل إلى تطور الشعر العربي في العصر العباسي، وتناول الأشكال الشعرية التي تم استحداثها في العصر العباسي كالمواليا والمسمطات والموشحات وغيرها، وكذلك تكلم عن الأوزان القليلة الخارجة عن العروض؛ التي استحدثها سلم الخاسر ومسلم بن الوليد وأبو العتاهية، مؤكدًا أنها لا تصح، واستند في ذلك إلى قول ابن دريد في هذه المسألة.

أما الفصل الثاني فعنوانه "الشعر العربي من عصر الركود حتى النهضة الحديثة"، ويتناول فيه الحضري: الشعر العربي من الركود إلى الإحياء، ثم ينتقل إلى المدارس الشعرية الحديثة وتحوُّلات القصيدة العربية، ومن المسائل التي تطرق إليها في هذا الفصل: ظهور المدارس الشعرية الحديثة وأثرها في الشعر العربي، وظهور اتجاه التفعيلة وأثره في الشعر العربي، وأشكال القصيدة بعد ظهور شعر التفعيلة، منتقلًا إلى مسألة ظهور قصيدة النثر؛ وتكلم عن أخطاء من يخلطون بين الشعر والنثر، وذكر نماذج من كتاباتهم وآراء النقاد حولها، ثم تناولها جميعًا بالنقد والتحليل، وفي هذا الفصل أيضًا ذكر رؤية الحداثيين للشعر، متناولًا آراءهم حول التطور الشعري وتحديد بدايات ذلك التطور من وجهة نظرهم التي مهدت لهم وشجعتهم على ما وصلوا إليه من تيارات واتجاهات، وفي هذا الجانب ذكر الحضري كلام أدونيس عن بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام، وقام الحضري بتحليل كلام أدونيس وردَّ عليه ردًّا علميًّا مقنعًا، فإن أدونيس يرى أن أبا نواس وبشار بن برد وأبا تمام قد ثاروا على الشعر وجدَّدوا فيه، فردَّ عليه حسن الحضري قائلًا: «والجواب على كلام أدونيس أن تجديد بشار وأبي نواس وأبي تمام وغيرهم؛ هو تجديد في المضمون والصياغة وطريقة التناول، وليس تجديدًا في عمود الشعر بتحويله إلى سطورٍ تفعيليَّة أو بالخلط بينه وبين النثر، كما أن ارتفاع أبي تمام بِلُغته؛ كان من قبِيل مجاراة القديم واستلهام التراث، وليس معناه أن الشاعر يختلق أوهامًا وأشكالًا جديدة لا تتوافق مع الثوابت العلمية للشعر، ثم يزعم أنَّ التَّفرُّد والخصوصية يُبِيحان له ذلك كما ظن أدونيس». [انظر: الشعر العربي المعاصر بين المعايير والمحاذير، حسن عبد الفتاح الحضري، ص: 70].

أما الفصل الثالث فعنوانه "القصيدة الحداثية في ميزان النقد"، وتناول الحضري في هذا الفصل: رؤية الحداثيين للشعر، والاغتراب الفكري في القصيدة الحداثية، والتجديد الشعري في منظور القرآن الكريم والمنهج العلمي، ثم ينتقل إلى قضية الانحراف عن عمود الشعر، ومن المسائل التي تناولها مما يتعلق بهذه القضية: العروض في شعر التفعيلة، وموقف القصيدة الحداثية من اللغة العربية ومن العمود الشعري الأصيل، وتناول نماذج من الشعر الحداثي مبينًا كثرة أخطائهم العروضية واللغوية، وقد تناول الحضري هذه المسائل بحيادية وموضوعية دون تحامل، واستشهد بأقوال بعض الحداثيين أنفسهم مثل نازك الملائكة وأدونيس وغيرهما ممن أقروا بأن الشعر الحداثي سهَّل الطريق لكل من ليس لديه موهبة؛ كما تناول الحضري مسألة التجديد في الشعر من منظور القرآن الكريم، فاستشهد بقول الله تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس: 69]، ثم قال الحضري: «ونستنتج من هذه الآية الكريمة أن الشعر بمعناه الحقيقي هو ما كان متعارَفًا عليه بين العرب آنذاك» [ص: 77]؛ وكذلك من منظور المنهج العلمي، حيث تتبَّع آراء الحداثيين وقام بالرد عليها وإبطال حجتهم بأسلوب علمي محايد، امتاز بالمناقشة والتعليل الذي يستند فيه إلى قواعد العلم، بطريقة مبسَّطة ومُحكمة في آنٍ واحد، مما أضفى على كتابه القيمة العلمية المعهودة في مؤلفاته وأبحاثه التي تُعد مرجعًا مهمًّا للباحثين.

والشاعر والأديب حسن الحضري حين يتناول هذه المسائل الشعرية والأدبية الشَّيِّقة التي تناولها في كتابه المذكور؛ فإنما يتناولها بشكل لا يُشق له غبار؛ فقد كتب عددًا كبيرًا من الأبحاث العلمية التي تتعلق بهذه المسائل أو تتناول مسائل قريبة؛ فممَّا نُشر له من الأبحاث العلمية والدراسات النقدية في المجلَّات العلمية والثقافية، في مجال اللغة العربية والشعر والأدب والنقد: (السيناريو المسرحي في شعر الأعشى، ابن خذام بين الواقع والدلالة، ميزان النقد عند النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، دلالة الصيغة والسياق في استنباط المعنى القرآني، وقفات مع تحقيق ديوان الشَّنفرَى) وغيرها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها