من الفلسفة الداخلية.. إلى المسائل المنطقية

يعقوب بن إسحاق الكندي نموذجاً

خالد العبادي

للفلسفة الإسلامية عمقٌ تاريخيٌّ ترك بصمة ذات أهمية في الفكر الفلسفي عامةً، لما للعقل الإسلامي من قوة خارقة على الإبداع في شتى المجالات والعلوم سواء الحقة أو النظرية، ودون الدخول في بسط الحديث عن الفلسفة الإسلامية، سأكتفي هنا بالتطرق للفيلسوف الكندي.


النسب والميلاد

هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، المنتسب إلى الأشعث بن قيس الكندي، الذي كان ملكاً على كندة عند ظهور الإسلام، ولد عام 803م في الكوفة، وتوفي عام 873م.

الكندي فيلسوف الإسلام أم العرب؟

تناول هذه المسألة الأستاذ محمد عويضة، حيث أكد علينا أن ننتبه هنا إلى أن عصر الكندي في التفلسف كان عصر شيوع الفلسفة والعلم بين النصارى والصابئة، وكانوا يعنون بهذين الفرعين قبل دخولهم الإسلام، حتى وإن اختلفوا في الدين والجنس؛ فإن اللغة العربية كانت أداة التعبير عن تفلسفهم، بعد أن كانت مكتوبة باليونانية أو السريانية أو الفارسية أو الهندية.

وكان من أشهر من كتبوا الفلسفة باللغة العربية بعد بسط لواء الإسلام وانتشار الدولة الإسلامية، حنين بن إسحاق وابنه، وثابت بن قرّة، وقسطا بن لوقا وغيرهم، ولم يلاحظ أن سمّي واحد بفيلسوف العرب، ولا فيلسوف الإسلام، بل كانوا مجرد نقلة أو مترجمين فحسب، وإذا أردنا أن نذكر رأياً حديثاً معاصراً فلن نجد خيراً من رأي الشيخ مصطفى عبد الرزاق إذ يقول في الكندي: "كان جديراً بهذه التسمية في وقته وسيظل بها جديراً؛ فإنه أول عربي مسلم مهّد للفلسفة سبيل الانتشار بين العرب وفي ظل الإسلام".

ويميل الأستاذ محمد عويضة إلى الأخذ بهذا الرأي لا لأنه الأقرب إلى الحل الوسط، ولكن لأنه جمع بين الحسنيين؛ إذ إن هذه التسمية مما ينبغي أن ينفرد بها الكندي بحكم أنه أول من تفلسف في البيئة الإسلامية وبلغة عربية، وكان عربيّ المولد والنشأة واللغة، كما كان مسلم الديانة.

مؤلفات الكندي

ذكر ابن النديم في الفهرست قائمة مطولة لمؤلفات الكندي، والتي حصرها في 241 مؤلفاً، على حين حصرها القفطي في عدد آخر هو 281 مؤلفاً. ونذكر منها:

◀ أولاً: الكتب الفلسفية

الفلسفة الأولى- الحث على تعلم الفلسفة، الفلسفة الداخلية والمسائل المنطقية والمعتاصة وما فوق الطبيعة.

◀ ثانياً: النجوميات

في أن رؤية الهلال لا تضبط الحقيقة؛ وإنما القول فيها بالتقريب- جواب مسائل طبيعية في كيفيات نجومية.

◀ ثالثاً: الكتب الهندسية

في أغراض إقليدس- في اختلاف المناظر- في شروق الكواكب وغروبها بالهندسة.

◀ رابعاً: الكتب الطبية

رسالته في الطب البقراطي.. رسالته في الغذاء والدواء المهلك.

◀ خامساً: كتب الجدليات

وهذا النوع من الكتب أقرب إلى علم الكلام؛ إذ إنَّ الكندي كان معاصراً لمتكلمي المعتزلة وغيرهم، وكان في فترة ازدهار علم الكلام، فكان عليه أن يشترك في هذا المجال، خاصةً فيما يتصل بالدفاع عن الدين ضد الخصوم. وأهم كتب هذه المجموعة الجدلية:
- رسالته في الرد على المنانية.. رسالته في الرد على الثنوية.. رسالته في تثيبت الرسل عليهم السلام.

◀ سادساً: الكتب النفسية

رسالته في أن النفس جوهر بسيط غير مؤثر في الأجسام.. رسالته في ماهية الإنسان والعضو الرئيس فيه.

 

موقف الكندي من مشكلة الفلسفة والدين

يقول محمد عويضة: إذا أردنا أن نخوض في هذه المسألة؛ فإن علينا أولاً أن نجعل هنا أهم العلوم الشائعة في عصر تفلسف الكندي، لما لهذا من فائدة تُلقي ضوءاً على بدء الصراع بين أصحاب الفلسفة والدين، وكيف استطاع الكندي بحكمة الفيلسوف وبصيرة المتدين أن يضع بذور التوفيق بين المجالين، فكان له الفضل في أنه أول مَن عقد بينهما برابطة زواج من أجل الحق والسعي إليه، بل حاول جاهداً أن يحصل عليه بواسطتهما معاً.

لقد جعل الكندي نقطة التقاء الفلسفة والدين حول محور واحد، ومن أجل غاية واحدة هي الحق، بل يرى أن الحق والبحث عنه وابتغاء الوصول إليه هو محور الارتكاز بينهما. إذ أكد الكندي قائلاً: لأن في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة، وجملة علم كل نافع والسبيل إليه، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعاً هو الذي أتت به الرّسل الصادقة عن الله جل ثناؤه؛ فإن الرسل الصادقة صلوات الله عليهم إنما أتوا بالإقرار بربوبية الله وحده، وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده، وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذاتها وإيثارها... لأن غرض الفيلسوف في عمله إصابة الحق وفي عمله العمل بالحق.

مشكلة الوجود عند الكندي

من المتفق عليه في تاريخ الفلسفة عامة أن المباحث الرئيسة والمشكلات الأساسية التي تنقسم إليها الفلسفة هي:
أ- الوجود أو الأنطولوجيا.
ب- المعرفة أو الإبستمولوجيا.
ج- القيم أو الإكسيولوجيا.

هذه المباحث الثلاثة تجتمع في نهاية الأمر لخدمة الإنسان، أو على الأقل تهتم بتفسير وضعه ومكانه في الكون، وموقفه من الأحداث وما يدور حوله من خلال نظام فكري مرتّب ومنهج محدد.. وعلى كل فإن الفكر الفلسفي الإسلامي لم تشذ عنه هذه القاعدة العريضة للفكر البشري؛ إذ اهتم أيضاً بالمشاكل والأبحاث الثلاثة.
ومن السمات لمذهب الكندي في الوجود أنه يربط بين وجود الله باعتباره الحق المطلق، وبين وجود الموجودات، وكأنها من المضافات المنطقية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى يربط بين الفكرة الموجودة في ذهننا عن الأشياء، وهي ما تسمى بحقيقة الأشياء، وبين الأشياء الموجودة خارجياً، وهما أيضاً من المضافات المنطقية؛ لأن الصور العقلية لشيء ما إذا ما ثبتت أنها حقيقة كان هذا الشيء متعيناً ضرورة وموجوداً حقاً، وإلا لكانت الفكرة باطلة وكاذبة، إذا كان الموجود الذي هو أصل الصورة العقلية غير موجود في الواقع.

الألوهية عند الكندي

يعرض الكندي في فلسفته الأولى لمعاني الواحد الرياضي والطبيعي، ثم ينقي منها المعاني التي تؤثّر في الألوهية، أو التي لا تتناسب معها ويستبعدها، ويفرّق بين ما يسمى الواحد الحقيقي والواحد المجاز، ويفهم من آرائه أن المقصود بالواحد المجازي هو الواحد الحسابي أو الطبيعي، الذي يرمز إلى الأشياء المفردة بصرف النظر عما إذا كان كبيراً أو صغيراً، أو ضخماً أو ضئيلاً كثيراً أو قليلاص جزئياً أم كلياً. المهم أن يكون موجوداً واحداً متكاملاً في ذاته وأجزائه، وعلى حد تعبير الكندي متشابه الأجزاء، كل هذه الأشياء إلى جانب الأعداد إذا ما استعمل في شأنها لفظ الواحد؛ فإنما يكون واحداً بالمجاز.

أما الواحد الحقيقي فإنه عند الكندي هو الله تعالى.. وإذا كان هو الواحد الحق؛ فلأنه هو وحده الموجود الحق وباقي الموجودات تعدّ موجودات بالمجاز؛ لأنها تحصل على وجودها وتعتمد في هذا الوجود على غيرها، فوجودها ليس منها، ومن ثَمّ كان وجوداً زائفاً غير حقيقي.

والكندي في تناول علاقة الله بالعالم لم يذهب مذهب أرسطو في العناية الإلهية من جانب الإله للعالم، حين جعل العلاقة علاقة عشق وحب وتطلع من جانب العالم للإله، ولكن الكندي أكد وجود العناية الإلهية بالعالم، وإمداد الله تعالى للعالم بدوام الحفظ واستمرار الوجود والإتقان والنظام والحكمة.

الأخلاق عند الكندي

الفضائل الإنسانية حسبما يرى الكندي "هي الخلق الإنساني المحمود". وهذه الفضائل تنقسم إلى قسمين أولين، أحدهما أساسه في النفس، أي الفرد، والآخر فيما يحيط بذي النفس من الآثار الكائنة عن النفس، أي المجتمع.

أما القسم الكائن في النفس فيشمل الفضائل الأفلاطونية الثلاث، وهي: الحكمة والنجدة (الشجاعة) والعفة. وأما القسم الذي ليس في النفس فهو: الآثار الكائنة عن هذه الفضائل عندما تكون في حالة الاعتدال؛ أي فضيلة العدل أو العدالة.

وأما الحكمة فهي فضيلة القوة النطقية، أي القوة العقلية، وهي علم وعمل.. إنها علم الأشياء الكلية بحقائقها، واستعمال ما يجب استعماله من الحقائق. وأما النجدة فهي فضيلة القوة الغلبية (الغضبية)، وهي الاستهانة بالموت في أخذ ما يجب أخذه ودفع ما يجب دفعه. وأما العفة فهي تناول الأشياء التي يجب تناولها لتربية البدن، وحفظه والإمساك عن غير ذلك. بهذا المعنى فالأخلاق عند الكندي هي إصلاح النفس بتحكم العقل في القوتين الحيوانيتين: الشهوة والغضب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها