العلم مقابل الروح.. روحانيات العصر الرقمي

ترجمة: رسلان عامر

كتابة: نيك سينيكا جانكل Nick Seneca Jankel1


لفترة طويلة، كنت عالقاً في عقدة الحداثة الكلاسيكية المزدوجة، وقد استمتعت بعلاقة حب عميقة مع العلم، وكانت فيها تجارِب الضبط العشوائي، والحلول القائمة على الأدلة، والبراهين والتفنيد، والمنطق، والعقل... كلها رائعة! لكني كنت أعتقد أن كل هذا يتعارض مع حدس أعمق لشيء ذي معنى متأصل ومترابط حول الكون الذي نعيش فيه، وقد كنت أشعر بالذنب فكرياً عندما كنت أفكر في كلمة "روحي"، وأحسست بالرهبة من هذه الكلمة المخيفة، وكنت أتعرض للسخرية -أو للنظر بارتياب جدي- عندما كنت أشارك مشاعري الحقيقية حول الترابط والوحدة والحب مع الآخرين.


وقد استغرق الأمر مني سنوات للخروج من الحجرة الروحية، خاصة وأنني كنت أعيش في ثقافة إلحادية صارمة، حيث تتبنى الصحبة المهذبة خطاً عقلانياً صارماً ومتشككاً وساخراً جداً؛ وقد كان عليّ أولا أن أعترف بدعوتي الروحية أمام نفسيَ العلمية الملحدة، وبعد ذلك جاء أصدقائي وعائلتي، وأنا متأكد من أنّ العديد منهم ما زالوا يعتقدون أنني مجنون؛ ولكني الآن قد أصبحت علناً معلماً كاملاً للروحانية... في نفس الوقت الذي ما زلت فيه أيضاً ملتزماً تماماً بعملي كخبير في الابتكار القائم على العلم وكعميل في ميدان التغيير في قلب التحول الحكومي وغير الربحي والشركاتي؛ ولا أرى أي انفصال بين المجالين الروحي والعلمي.

لم يكن بإمكاني الإعلان عن الأمر إلا بعد أن تأكدت أنني بذلت قصارى جهدي، كمفكر نقدي، لترسيخ نهجي، القائم على التواصل والذي يقوده القلب، نحو التغيير الشخصي والتنظيمي الملموس في الأدبيات العلمية المتاحة حول نظرية التطور، وعلم الأعصاب العاطفي، والبيولوجيا العصبية العلائقية، وسلوك الحيوان والعلوم المعرفية وسوى ذلك؛ والآن؛ بعد أن قمت بدمج كل هذا معاً وحل المعضلة المزدوجة لنفسي، أدركت أنه فقط من خلال حل كل شخص لهذه المشكلة داخله، يمكننا كمجتمع عالمي أن يكون لدينا أمل ما في الحد من التوتر اليومي والقلق والاكتئاب والفقر ومشكلة المناخ، وتغيير كهذا يؤثر علينا جميعاً.

بعض ما يمكنني قوله عن خلفيتي العلمية هو أني درست العلوم الصعبة (hard sciences) في هيكلها الكبير بجامعة كامبريدج؛ وهذه المؤسسة المهيبة تتمتع بالمجد المنعكس عن دورها الحاسم في ولادة المشروع العلمي ونموه؛ وهنا يمكنكم أن تشعروا تقريباً بالمختبرات وقاعات المحاضرات التي تنضح بالعقلانية والعقل، فهذا، بعد كل شيء، هو موطن نيوتن، وبيكون، وماكسويل، وداروين، وكريك، وواتسون، وتورينج، وهوكينج، الذين تعتبر أسماؤهم مرادفة لتحرر العالم التدريجي من الأساطير الدينية، وتحَوله نحو الصناعة والتكنولوجيا، وقد كنت سعيداً بالانضمام إلى هذا الحزب، بعد أن أصبحت ملحداً ومناهضاً للدين تماماً (ولكن مع بقايا ميول صوفية (mystical)) بحلول عيد ميلادي السادس عشر.

لكن على عكس العديد من زملائي، كنت أيضاً محظوظًا بما يكفي لدراسة تاريخ وفلسفة العلوم أيضاً؛ وهذا شيء أعتقد أنه يجب أن يكون إلزامياً لجميع العلماء (وكذلك لأولئك الذين يستخدمون العلم لتحقيق أهدافهم، مهما كانت هذه الأهداف)، وقد اعتدت أن أستيقظ كل يوم، فأسرع إلى المكتبة لأنخرط في الندوات، حيث كنت أتعلم عن كل الطرق التي حاول بها الناس معرفة شيء ملموس عن العالم من حولنا؛ وما حاولوا فعله بهذه المعرفة، خيراً أو شراً.

ولعل أهم شيء تعلمته، استناداً إلى عدد لا يحصى من الدراسات حول كيفية ممارسة العلم، هو أن العلم "تتم صناعته" بقدر ما "يتم اكتشافه"، وبعبارة أخرى، فإن الأفكار والمعتقدات الموجودة في داخلنا عندما ندرس الطبيعة، تؤثر على ما نراه في مجاهرنا وأنابيبنا الاختبارية.

فالمجازات (metaphors) التي نستخدمها لفهم الحياة تؤثر على كيفية تفسيرنا للبيانات العلمية في النظريات العظيمة التي نُحاول من خلالها تفسير العالم.

والعكس صحيح أيضاً، فقد أصبحت النظريات العلمية الرائجة جزءاً من سردنا الثقافي، وجزءاً من حياتنا اليومية أيضاً، ويمكننا أن نرى هذا بوضوح في استخدام نظرية التطور لتبرير التسلسل الهرمي الاجتماعي، والعبودية، وفي نهاية المطاف، العنف العرقي في الرايخ الثالث؛ لكن داروين لم يقل أي شيء عن "البقاء للأصلح"، لقد كان الداروينيون الاجتماعيون هم الذين استخدموا فكره لتبرير الشكل الذي يريدون أن يبدو عليه النظام الاجتماعي، وفي الحقيقة قال داروين في كتابه الثالث والأقل شهرة:
"في التاريخ الطويل للبشرية (والحيوانات أيضاً)، ساد أولئك الذين تعلموا التعاون والارتجال بأقصى قدر من الفعالية".

الآن، يعتقد معظم الناس على هذا الكوكب أن الله أو العلم يجب أن يملي الحقيقة، وبالتالي حياتنا؛ وأغلبية من يشغلون مناصب السلطة داخل النظام العالمي هم أعضاء في المعسكر الأخير؛ ونظراً لأنهم نشؤوا في مجتمع علماني ويُطلب منهم باستمرار الاعتماد على علم بارد وغير شخصي لإدارة العالم؛ فإن العديد من قادتنا يطورون سياسة حكومية واستراتيجية أعمال يحكمها العقل وليس القلب.

إنه لمن السهل أن نرى من أين يأتي هذا الدافع للسيطرة، فهو من "الأنا" التي تستمد حافزها من كونها قوية وصحيحة وصالحة، ويمكنكم أن تروا إرادة السلطة هذه في شعور الانتصار لدى مليارديرات الإنترنت، والمدافعين عن الذكاء الاصطناعي، والملحدين (الجدد).

يعد العلم صانعيه ومكتشفيه بالقدرة على التنبؤ بالطبيعة والتحكم بها، بما في ذلك بالتالي طبعاً نحن البشر أيضاً؛ وقد أوضح الفرنسي بيير سيمون لابلاس، الذي كان له تأثير كبير في نمو العلم في القرن الثامن عشر، الأهداف الحقيقية لجزء كبير من المشروع العلمي، عندما قال:
"يمكننا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لماضيه وسبباً لمستقبله، والعقل الذي يعرف في أي لحظة كل القوى التي تحرك الطبيعة والمواقف المتبادلة للكائنات التي تتكون منها، إذا كان واسعاً بما يكفي لإخضاع البيانات للتحليل، فيمكنه أن يكثف في صيغة واحدة حركة أعظم الأجسام الكونية وأخف الأجسام الذرية؛ وبالنسبة لمثل هذا العقل، لا يمكن لأي شيء أن يكون غير مؤكد، والمستقبل تماماً مثل الماضي سيكون حاضراً أمام عينيه".

إنها أمور تشغل الفكر حقاً! وقد اقترح إسحاق نيوتن "الذي كان متصوفاً بقدر ما كان متشككاً"، بخصوصها أنه يمكن دراسة العالم الطبيعي مثل الآلة؛ والسادة الفلاسفة "الذين كان عدد قليل جداً منهم من العمال أو النساء" لم يعودوا خاضعين لسيطرة أهواء الإله الغاضب "والكهنة الذين يفسرون أوامره"، وهم الآن في موقع السيطرة، ولذا فقد اقتحموا الطبيعة، وقاموا بقياس كل تركيب سفلي وكل نبض في الأفق؛ وكوَرثة للوعد بالسيادة على جميع المجالات، قام العلماء الآن بإحصاء ووزن وتسجيل ومعايرة كل ما يمكنهم الحصول عليه تقريباً.

الآن من الضروري أن ندرك أن العلم لا يمكن أن يكون علماً ما لم تكن الذات المفكرة، أي "الأنا"، تدرس وتراقب وتقيس شيئاً ما، مثل صخرة (في الجيولوجيا)، أو خلية دماغية (في علم الأعصاب)، أو ذرة (في الفيزياء)، التي تكون بدورها موجودة بشكل منفصل عن هذه الذات.

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه بعد التحرر من القلق بشأن أشياء غير قابلة للقياس مثل السلام والحب، تم تسخير العلم من قبل رجال قساة القلوب (وبعض النساء المماثلات) لتشغيل آلة الطبيعة، والآن يتم استخراج الموارد الطبيعية على نطاق واسع؛ وإنتاج الملايين من السلع الاستهلاكية في المصانع؛ وحل معاناتنا العاطفية بالحبوب؛ والتقنيات - المبنية على الموضوعية- على المستوى الصناعي قد تم إطلاق العنان لها على العالم.

وقد كان أوشفيتز وهيروشيما وضربات الطائرات بدون طيار كلها نتائج منطقية لعلم منفصل عن الروح، وعن الحب.

إن هذا يؤثر علينا جميعاً؛ وقد أدت الدراسة الموضوعية للعالم كآلة إلى هوس عالمي بالإنتاجية والكفاءة والتحسين؛ وقد امتص هذا التركيز المستمر على مقاييس لغة الآلة الكثير من المعنى والبهجة من الكثير من حياتنا العملية.

أحد كبار المؤرخين ونقاد المشروع العلمي، وهو فرنسي آخر، وهو ميشيل فوكو، بذل الكثير لتحذيرنا من تأثير الطاعة العمياء للعلم على الإنسانية؛ وإليكم شيئًا كتبه، وقد سلطت الضوء عليه في الأسابيع الأولى التي قضيتها في دراسة فلسفة العلوم، منذ 20 عاماً:
"ما هي موضوعات التحدث والخطاب -أو موضوعات الخبرة والمعرفة- التي تريدون إذاً "اختزالها" عندما تقولون: "أنا الذي أدير هذا الخطاب أدير خطاباً علمياً، وأنا عالم"؟

أعتقد أنه تم إساءة استخدام قوة العلم، وقد تجاوز العلم حدوده ليعلن أن الأشياء الوحيدة التي يمكننا أن نعرف صحتها هي تلك التي يمكن رؤيتها وقياسها؛ وأما الطفل النشيط الجميل الذي نسميه الروحانية - أي الإحساس العميق بالترابط المشترك والاعتماد المشترك والتواجد المشترك-  فقد تم التخلص منه مع مياه استحمام التفكير السحري والاعتقاد الديني والأساطير التي لا ضرورة لها.

وعندما "مات" الإله، تم استئصال الكثير من الحدس والرحمة والشعور بالارتباط الذي يجعلنا بشراً من الحياة الحديثة معه؛ وقد أدت هذه الروابط المفقودة بين العقل العقلاني والقلب المحب إلى اندفاع مجتمعاتنا بشكل حثيث نحو عدم المساواة الاجتماعية، واندفاع كوكبنا نحو أزمة بيئية.

ولحسن الحظ، فإن العديد من أذكى وأعظم العقول في المشروع العلمي، مثل ماكس بلانك وفيرنر هايزنبرغ وكارل ساجان، على سبيل المثال لا الحصر، قد ذكروا أن العلم هو ببساطة طريقة واحدة (من بين طرق عديدة) لمعرفة العالم، بل إن ساجان ذهب إلى حد القول: "إن العلم لا يتوافق فقط مع الروحانية؛ بل إنه مصدر عميق للروحانية"، وفي مقال نشر في واحدة من المجلات العلمية الأكثر احتراماً، مجلة نيتشر (Nature)، كتب أستاذ الفيزياء في جامعة جونز هوبكنز، "إن الكون غير مادي، إنه عقلي وروحي؛ فعيشوا وتمتعوا".

لا يتمتع العلم بالامتياز المطلق على طرق المعرفة الأخرى، لذا فمن العار أن يستمر العديد من الملحدين المتحمسين -والعديد منهم ليسوا علماء- بالادعاء بأنهم يعرفون الحقيقة الواحدة والوحيدة (أي حقيقتهم الخاصة بالطبع)؛ وهذا الأمر أكثر إثارة للحزن بالنظر إلى أن العديد منهم يبدون غير قادرين على فهم أننا، يمكن أن نكون "روحيين وليس متدينين" بشكل حاسم، ونحن لسنا بحاجة إلى الدين للاستمتاع بالروحانية التي تغير الحياة وتحوّل المجتمع، والتي دافع عنها قادة عظماء مثل ليف تولستوي، ونيلسون مانديلا، ومارتن لوثر كينغ، والمهاتما غاندي، وهذا يعني فقط أن تكون إنساناً... بقلب مفتوح يشعر بالارتباط بالآخرين، ويستشعر فرحتهم وألمهم.

ومع ذلك، للقيام بذلك، نحتاج إلى التخلي عن التفكير في أن العلم لديه كل الإجابات عن كيفية عيش حياة ذات معنى من المساهمة والإبداع؛ ولا ينبغي أن يكون هذا صعباً للغاية بالنسبة لمعظمنا، حيث إنني لم أقابل بعد أي أشخاص يشعرون حقّاً، في أعماق قلوبهم، بأنهم تروس منفصلة في عالم يشبه الآلة، وأعتقد أنه حتى أولئك الذين لديهم التزام كبير بالعلم -مثل والدي، الذي يتم إنقاذ حياته كل يوم عن طريق جرعات الأنسولين التي أصبحت ممكنة بفضل العلم- قد حدقوا بالبحر على شاطئ مهجور في تايلاند؛ أو وصلوا إلى قمة درب جبلي في جبال روكي؛ أو ارتبطوا لوهلة بالعيون المتلألئة لطفل حديث الولادة؛ ويعرفون يقيناً أنهم جزء أصيل من الكون الذي يرونه حولهم.

قد تكون هذه الحساسية عميقة وبديهية وربما غير قابلة للإدراك... ولكنها موجودة، ونحن نتوق إلى معرفة طبيعتنا الحقيقية كوحدة واحدة مع كل الكون؛ وبمجرد أن نتوقف عن الحاجة إلى الروحانية لتكون أي شيء على الإطلاق له علاقة بالإله الشخصي - "الذي نصلي له ويمكن أن يغضب منا"- فلن يعود العقل يقف في طريق الحدس، ويمكن حل المأزق المزدوج. إن الترابط بين الكواركات واللبتونات، في المجازية البشرية، يمكن إدراكه على أنه حب، أما "الإله" الخالق المتكلم والمفكر والمصور بصورة تشبه البشر فسيقودنا دائماً نحو الدوغمائية والغطرسة، وقبل كل شيء، التعصب، وهذه ما لا يجذب أي منها لا المفكر الحر ولا الطفل في العقل؛ ومع ذلك، إذا رأينا أنفسنا ببساطة ككائنات مترابطة، ومتصلة بالكامل بالكون المادي (وتشكل جزءاً جوهرياً منه)، فسيتم تجاوز التعارض.

يفتح أينشتاين روحانية عَلمانية مستوحاة من العلم قائلاً:
"الإنسان هو جزء من الكل الذي نسميه بالكون، وهو جزء محدود في الزمان والمكان؛ إنه يختبر نفسه وأفكاره ومشاعره كشيء منفصل عن الباقي، وهذا نوع من الوهم البصري لوعيه. هذا الوهم هو نوع من السجن بالنسبة لنا، حيث يقيدنا في رغباتنا الشخصية وفي محبتنا لعدد قليل من الأشخاص الأقرب إلينا، فيما يجب أن تكون مهمتنا هي تحرير أنفسنا من هذا السجن من خلال توسيع دائرة تعاطفنا لتشمل جميع الكائنات الحية والطبيعة بأكملها بجمالها".

الروحانية العلمانية لا تتوقف عند غبطتنا في مركز اليوغا أو دروس التأمل؛ ووَرثة الأفكار التقدمية للعقلاء مثل جان جاك روسو، وفولتير، وماركس، وباين، لديهم ذلك الشكل من الروحانية الذي يعي بشدة التدهور البيئي والظلم الاجتماعي؛ ومع ذلك، فبدلاً من اللجوء إلى النشاط الغاضب، نحن ملتزمون بتذويب الخوف والحاجة، اللذين يشكلان السمات المميزة للحداثة، من خلال الوحدة؛ وعندما نجمع بين التنوير الروحي (مدركين أننا جميعاً واحد بطريقة ما) مع التفكير النقدي والتمكين العلمي في قلب التنوير، فإن أمراضنا الشخصية والاجتماعية يمكن أن تتلاشى، لنصبح جميعاً نشطاء روحيين، ورواد أعمال اجتماعيين يقودهم القلب، وقادة حركات واعية من أجل التغيير.

الحب هو الرسالة، الحب هو نقطة البداية والنهاية، الحب هو التجربة الإنسانية الواعية للترابط المادي.

أعتقد أن علامة محب الحكمة (المعنى الحرفي لكلمة "فيلسوف") هي في أن نبقى دائماً منفتحين على طرق أخرى لمعرفة العالم؛ وغير محبوسين في نقاطنا العمياء وافتراضاتنا؛ وفي الواقع، وظيفة الفلسفة هي تحريرنا من تحيزاتنا المعرفية، وقيودنا العقلية، وسحر "إحساسنا" باللغة؛ وبالمثل، فإن دور معلم الحكمة هو أن يأخذ المفارقات التي تؤذي الناس، وتسبب لهم المعاناة، ويحلها في تعاليمه، للسماح للناس بالحرية لكي يزدهروا حقاً.

ونظراً للأدلة المتزايدة على أن نظرتنا الآلية الحالية للعالم لها حدود- كما تدل أدلة من أماكن متنوعة مثل فيزياء الكم، وتأثير الدواء الوهمي، وتحديات حساب الوعي، وبيولوجيا الكم، والأبحاث الجديدة حول العقاقير المخلة بالنفسية، والفجوات في النظرية التطورية، والدراسات حول الإدراك المسبق، وتجارب الخروج من الجسد- فأعتقد أن العلم سوف ينخرط قريباً في "نقلة نوعية" أساسية (على حد تعبير توماس كون)؛ وستجبرنا الشذوذات في النظرة المادية الميكانيكية إلى العالم على إعادة تقييم المجازات (metaphors) التأسيسية التي قام عليها العلم، وسيتم استبدال ساعة نيوتن بشيء... حي أكثر.

داخل هذا النموذج الجديد، سنظل نتطلع إلى البحث العلمي ليمنحنا أفضل إحساس بحقيقة الأشياء التي يمكننا رؤيتها وقياسها؛ لكن في الوقت عينه يمكن أن يكون حدسنا وانتباهنا الواعي وتأملنا في كثير من الأحيان أفضل دليل لأمور الضمير والمعنى والقلب... الأشياء التي لا يمكننا قياسها فعلياً، بصرف النظر عن مدى روعة أو حجم مجاهرنا؛ وهنا الاختيار بين محبة العلم أو الروحانية يصبح لاغياً وباطلا، ويمكننا أن نرفض الانخراط في تقسيمات عديمة الفائدة تحد من قدرة الروح البشرية على الازدهار، ويمكننا، بدلاً من ذلك، توسيع وعينا لكي ندرك أن العلم والروح كلاهما مذهلين. إن رفع وعينا الجماعي يعني التركيز على الحد من الفقر، وأسعار المواد الغذائية، وعدم المساواة، وتكاليف علاج فيروس نقص المناعة البشرية، بقدر ما يعني التركيز على تجربتنا الخاصة في التحرر.

لقد استغرق الأمر مني قرابة عقدين من الزمن حتى أشعر بالارتياح؛ لأن ما أقوم بتدريسه هو "حقيقي حقًا"، وقبل أن أتمكن من الوقوف على خشبة المسرح، سواء في أمور العقل والجسد والروح، أوفي مؤتمر الشركات المتعددة الجنسيات، أوفي الرقم 10 في داونينج ستريت2 (وقد قمت بهذه الأشياء الثلاثة في الشهر الماضي)، ومشاركة رؤيتي العالمية حول كيفية مساعدة البشر والمجتمعات لإحداث اختراقات كبيرة وتحقيق الازدهار، فقد كنت بحاجة إلى "مقارنة" أحدث العلوم مع تقاليد الحكمة الأساسية؛ ومن ثم تجميع وتبسيط كل ذلك في مجموعة من الأدوات والعمليات القابلة للتعليم، والتي يمكن للمؤسسات والأفراد المتشككين استخدامها لتحقيق نجاحات؛ ولحسن الحظ، أو بالأحرى الصدفة، يبدو أن كل ورقة علمية جديدة قرأتها في العقد الماضي أو نحو ذلك (وقد قرأت الكثير) تتناسب مع هذه الروحانية العَلمانية بالتأكيد، وقد كانت نتيجة عملي في التحليل والتوحيد والتدوين - من أجل التغلب على إلحادي الساخر- هي اكتشافي (وإنشائي) لأطروحة "التقدم في الديناميكا الحيوية" (Breakthrough Biodynamics)؛ وكتابي الذي يقدمها للعالم: "شغلوا أنفسكم: أطلقوا العنان لإبداعكم وازدهروا بالعلم الجديد وروح الارتقاء".

أعتقد أنه يمكننا جميعاً، ويجب علينا، أن نأخذ على عاتقنا حل المأزق المزدوج الذي يكمن في قلب مشاكل الحداثة المتقدمة؛ وفي أعماق قلوبنا جميعاً؛ ويمكننا أن نكون محبين لكل من العلم والروحانية دون خجل أو ذنب أو بدعة فكرية؛ كما ويمكننا بعد ذلك تسخير العقل والحكمة لإرشادنا إلى العمل ونحن نواجه الاضطرابات الحتمية لمستقبل كوكب واحد يزيد عدد سكانه عن 7 مليارات شخص. إن النظرة الآلية والإلحادية للعالم، التي تفرض ازدواجية حاسمة بين الذات والموضوع على كون مترابط بطبيعته، لا يمكنها إلا أن تخلق المزيد من المعاناة لنا نحن الكائنات المترابطة بشكل أساسي، من كوارك إلى كوارك، ومن قلب إلى قلب.

عندها، وعندها فقط، سيكون لدينا القدرة على تحويل التغيير الذي نريد أن نراه في العالم بأنفسنا إلى حقيقة كائنة... وكذلك المرونة والتعاطف اللازمين لضمان نشر التغيير في العالم من حولنا.

فهل ستنضمون إلي في الخروج من الحجرة الروحية؟

لقد حان وقتنا، فقوموا بتشغيل أنفسكم الآن.

 


هوامش:
1. Nick Seneca Jankel:  هو طبيب تلقى تعليمه في كامبريدج، وقام بتطوير نظرية التغيير بناءً على أحدث العلوم العقلية والسلوكية، ويعتبر أحد رواد الفكر المؤثرين والمعترف بهم دوليًا حول كيفية قيام القيادة والابتكار، والاستدامة بتحويل مستقبل الأعمال والمجتمع في عالم معقد ورقمي ومضطرب بشكل متزايد؛ ومقالته هذه منشورة في ديسمبر 2015 في مجلة "سوترا جورنال" (Sutra Journal) الإلكترونية- المترجم.
2.10   داونينج ستريت (No.10 Downing Street)، مقر رؤساء الوزراء البريطانيين منذ عام 1735، يتنافس مع البيت الأبيض باعتباره المبنى السياسي الأكثر أهمية في العالم في العصر الحديث؛ وخلف بابه الأسود تم اتخاذ أهم القرارات التي أثرت على بريطانيا طوال الـ 275 سنة الماضية- المترجم.
لقراءة المقال الأصلي ◂  

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها