لماذا نقرأ الأدب؟

د. وليد قصّاب


ما المطلوب من الأدب؟ سؤال قديم حديث. ماذا ينشُد القارئ حين يقرأ نصاً أدبياً؟ أهو يقرؤه من أجل المتعة والتسلية، والترويح عن النفس، أم هو يقرؤه بحثًا عن تجربة تغنيه، وخبرة تثري معرفته، وثقافة تزيد رصيده الفكريّ والحياتيّ؟ أهو يبحث عن المعاني والأفكار والقضايا التي يقدّمها الأدب، أم هو معنِيّ بالأسلوب الذي تقدّم به هذه الأفكار، والطريقة التي تصاغ بها؟ أسئلة كثيرة من هذا القبيل لا يزال النّقد الأدبيّ منذ القديم إلى الآن يطرحها ويختلف حولها، ويقدِّم إجابات مختلفة بل متناقضة حولها.


وقد توزّعت هذه الأسئلة وما يمكن أن يتفرّغ عنها من قضايا في نظريتين كبيرتين، هما: نظرية المضمون، ونظرية الشّكل، أو نظريّة المضمون، والصورة الفنية، أو نظرية الالتزام والفنّ للفنّ. أو ما شاكل ذلك من مصطلحات كثيرة مختلفة في الصياغة، ولكنها ذات مدلول واحد.

فأما النظرية الأولى –نظرية المضمون– فقد ذهب أصحابها –كما يقول كروتشة– إلى "أن الفن كله مضمون، وحدّدوا هذا المضمون تارة بما يلذ، وتارة بما يتفق مع الأخلاق، وتارة بما يسمو بالإنسان إلى سماوات الفلسفة والدين، وتارة بما هو صادق من الناحية الواقعية، وتارة بما هو جميل من الناحية الطبيعية المادية"1.

وأما أصحاب نظرية الشكل فقالوا: "بل ليس للمضمون كبير قيمة، فما هو إلا كحمّالة تعلق عليها الصور الجميلة التي تبدعها العبقرية الفنية، وتودع فيها الوحدة والانسجام والتناظر، وما أشبه ذلك"2.

إن أصحاب النظرية الأولى يجعلون الجمال –الذي هو غاية كبرى من غايات الفنون جميعًا، ومنها الأدب- في المضمون، فاللفظ تابع للمعنى، وهو في خدمته.

يقول القوشي الفيلسوف: "الألفاظ من أمة الحسّ، والمعاني من أمة العقل، والحسّ تابع للعقل والطبيعة.."3.

وهؤلاء –بالتالي- يرون أن الأدب لا بد أن يحمل رسالة، لا بد أن يخدم المجتمع، أن يكون معبِّراً عن قضايا الناس وهمومهم ومشكلاتهم. يقول ماثيو أرنولد في بيان أهمية المضمون: "أما الشعر فالفكرة هي كلّ شيء بالنسبة له، والباقي هو عالم من الوهم، الوهم الرفيع.. والشعر يقرن عاطفته بالفكرة؛ إن الفكرة هي الواقع.."4.

وهؤلاء هم الذين عُرفوا بأصحاب "الأدب الهادف"، أو "أدب الالتزام"، أو الأدب من أجل القيم والأخلاق والتربية في مختلِف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية والفلسفية والعقدية. ولعل من أوضح ما عبّر عن هذا الاتجاه الأخلاقيّ الدينيّ للفن عامة -والأدب من الفن- قولَ جون رسكن: "يتوجب على الفنون كلّها أن تعلِّم الناس؛ فذلك هو هدفها الرئيس، فواجب الفن هو تعليم النُبْل.. الفنّ الحقّ ليس بلهو.. وفي المعنى الأسمى فإنه مفيد إلى درجة كبيرة في مساعدة الإنسان على إنجاز واجبه الحقيقيّ، وهو أن يكون الشاهد على عظمة اللّه، وأن يعمِّق تلك العظمة بطاعته المعقولة، وسعادته الناجمة عن ذلك.. إنّ الفنان هو خادم الله، رسالته أن ينطلق في الطرقات العامة، وبين الأسوار، ويجبر الناس على أن يدخلوا مدخله، فهو معلِّم بطبيعته، وإنسان أخلاقيّ بارز، واجبه أن يحسِّن أحوال الناس.. وإن الجمال يخاطب الجزء الأخلاقيّ.. إنّ العمل الفني يجب أن يعتبر ممتازاً بقدر تمجيده للفضائل الأكثر شيوعاً على وجه الدقة"5.

بل إنّ من أصحاب نظرية الالتزام، أو النظرية الاجتماعية الخلقية، من هو عاجز عن تذوق نصّ أدبيّ، أو الاستمتاع به إن كان يقدِّم رؤية مخالفة لمعتقداته وأفكاره التي يحملها.

تشير إليزابيث درو إلى نقاد وأدباء من هذا القبيل؛ تشير إلى هاملتون، وتقول: إن اعتقاد هاملتون الديني قد حطّم كل استمتاع له بالفردوس المفقود، وإن كفر بوب بالأنظمة الدينية قد أفسد قصيدته "مقال في الإنسان"6.

وفي مقابل تطرّف هؤلاء وأولئك من أصحاب "النظرية الخلقية" الملتزمة يواجهنا تطرف مماثل أو أشدّ عند أصحاب "النظرية الجمالية" أو "الفنّ للفنّ"، أو "النظرية الشكلية" –بمختلف تفرعاتها واتجاهاتها- أو غير ذلك من تسميات؛ إذ نجد عند هؤلاء من ينفر من أيّ توجّه يحاول أن يربط بين الأدب والحياة، أو بين الأدب وقضايا الناس السياسية، أو الاجتماعية، أو العقدية، أو غيرها.

رفض واحد مثل فلوبير أن تكون الرواية متضمِّنة أخلاقية واضحة، وأن تمجِّد قضية سياسية، أو اجتماعية، أو دينية؛ فالرواية – بوصفها نوعاً أدبياً- تخصّ الفنّ، كالرسم، والموسيقا، والشعر كما فهمه بودلير والرومانسيون؛ فواجب أن تكون صفة التميز -وفقاً لهذه النظرة- هي الهمَّ الأوّل للروائي.

ويرى أن غاية الفنّ الجمال قبل كل شيء، إن على الفن ألا يكون منبراً لأي عقيدة؛ خشية أن تنحطّ قيمته.. وإن الروائي هو فنان قبل كل شيء، غايته إنتاج عمل فني متكامل.. وإنّ على الروائي أن يتجرّد من الحياة التي يصفها، وأن يكون كالقاضي بعيداً عن المنافع التي يفصل فيها.."7.

وفي الاتجاه نفسه يرفض ناقد عربي كأدونيس ربط الشعر بالحياة، ويقول: "يتحدّث البعض عن علاقة للشعر بالحياة، مضمراً القول بأن الشعر يجب أن يحاكي الحياة، غير أنه – في هذه الحالة- يصبح نوعاً من أنواع القصّ، أو السرد. وفي هذا ما يؤدي أخيراً إلى قتل الشعر.."8.

وانتقص أدونيس من قدر ما سمّاه "الجمالية الإسلامية"؛ إذ إن الجمال بحسب هذه النظرة- "ينبثق من الدين، ويشكِّل معه وحدة كاملة؛ لا يعود هو قيمة بذاته، وإنما تتوقف قيمته على مدى ارتباطه بالدين. الشعر نفسه كلام كغيره من الكلام؛ أي أنه لا يحسن بذاته كشعر، وإنما يحسن إن نطق بالخير، ويقبح إن نطق بالشر. وهكذا يصبح القول إن علم الجمال في الإسلام هو علم جمال المضمون، فوظيفة الشعر في الإسلام ليست جمالية، أو إبداعية، وإنما هي اجتماعية أخلاقية، تقوم على إبراز الفضائل الإسلامية، واستلهامها وتمجيدها.."9.

ولست الآن في مقام الردّ على مغالطات أدونيس الذي لم يستطع أن يفرِّق بين الجمال الحسيّ، جمال خضراء الدّمن، والجمال المعنويّ، والذي لم يستطع أن يتخيل شعراً أو أدباً يجمع الجمالين معاً: أي بين الفنية والدين، أو الجمالية الشكية وجمالية القيم الخيِّرة، وانحاز إلى شعر لا يرتبط بغاية خلقية أو دينية.

وهذا واحد من نقاد المسلمين، وهو أبو هلال العسكريّ يفنِّد ادعاء أدونيس، وهو لا يرى -كما يدّعي- جماليّة الشعر في المضمون وحده، أو في حمل هذا الشعر قيمة تقبح الشعر، وتزيِّن الشّر، بل يرى الجمال في المضمون والشكل.

يقول أبو هلال في عبارة لا تقبل مزيداً من الإيضاح: "الكلام إذا كان لفظه غثّاً، ومعرضه رثّاً، كان مردوداً، ولو احتوى على أجلّ معنى وأنبله وأرفعه وأفضله، كقول الشاعر:
لمّا أطعناكمُ في سخطِ خالقِنـا .. لا شكَّ سـلّ علينـا سيفَ نقمتِه

وقول الآخر:
أرى رجالاً بأدنى الدينِ قد قنعوا .. ومـا أراهـم رَضُوْا في العيــش بالدُّونِ
فاستغنِ بالدين عن دنيا المــلو .. كِ كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدينِ

وعقب أبو هلال على هذا الشعر قائلاً: لا يدخل هذا في جملة المختار، ومعناه – كما ترى- نبيل فاضل جليل10.
 

أدب الفنّ والأخلاق

لقد أسرف كلا الفريقين في قصر الأدب على إحدى الوظيفتين: الجمالية، والخلقية الاجتماعية، جاهلاً أو متجاهلاً أن الأدب العظيم الخالد الذي ما تزال الأجيال تحتفظ به في ذاكرتها، وتردِّده، وتدرِّسه طلابها في المدارس والمعاهد والجامعات، هو ذاك الأدب الذي صُنع منهما معاً، ولم يُصنع من أحدهما وحده.

ولقد كان نقدنا العربيّ والإسلاميّ يؤكد باستمرار-في مقولات لا حصر لها- اللُّحمة بين الشكل والمضمون، بين الجمال والقيم، ويُوثِّق العلاقة بينهما، ولا يتخيَّل أدباً متميِّزاً يقوم على أحدهما فقط.

يقول الجاحظ عن الكلام: "إذا كان المعنى شريفاً، واللّفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع، بعيداً عن الاستكراه، منزّهاً عن الاختلال، مصُوناً عن التكلّف؛ صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة.."11.

إن ممّا لا يماري فيه أيُّ عارف بطبيعة الأدب أن هنالك أهمية كبرى للتقانات الفنية، والأساليب المتميِّزة المبتكرة التي تُقَدّم بها المعاني والأفكار في الأدب، بل إن الكلام –مهما كانت نفاسة ما يقوله- لا يدخل في حيِّز الأدب، ولا يحمل هذه الصّفة، إلا بشكل فني رفيع يقدّم فيه، وإن تميّزه الأسلوبي في تقديم ما يحمل من قيم أو قضايا هو المعيار الأول في تحقّق أدبيته، وفي تحقق فنيته وجماليته، كما أشار إلى ذلك أبو هلال العسكريّ في النصّ الذي سقته.

وإن أيّ شادٍ لشيء يسير من علم النقد ليعرف أن المعاني -مهما نبُلَت، أو اكتست ثوباً جليلاً من الأخلاق أو الدين- لا قيمة لها إذا ما قُدِّمت مجرّدة غُفْلاً من الصياغة الجميلة؛ وإنها عندئذٍ- بتعبير الجاحظ- "مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني.."12.

ولكنّ أيّ شادٍ للأدب أو النقد كذلك لا يذهب إلى القول إن المعاني والأفكار لا قيمة لها، أو أنها ليست بذات شأن عند الحكم على الأدب، أو تقويمه، بل الإقبال على قراءته. وإن السؤال المطروح دائماً هو: أدور الأدب منحصر فقط في إحداث المتعة الشكلية، وتوليد الإحساس بالجمال مهما كان نوعه؟ أيكون سبب الإعجاب به، والإقبال على قراءته، قائماً فحسب على مجرّد المهارات اللفظية، والتفنن في الكلمات والعبارات، أو لنقل في أسلوب تقديمه للمعنى مهما كان هذا المعنى، أم أنّ دوره يتجاوز هذا الإمتاع الشكليّ، أو هذه الإثارة الحسية، ليذهب فيقدّم لنا تجربة إنسانية، أو اجتماعية، أو خلقية، أو دينية، ثُثْري حياتنا، وتزيد معارفنا، وتعلِّمنا وتهذِّبنا، من خلال عرض شائق فنيّ ممتع؟

الأدب والحياة

إنّ الأدب مرتبط بالحياة؛ ومن ثَمّ فإنّ وظيفته لا يمكن أن تقتصر على الجانب الفنيّ وحده، ولا يمكن أن يُنظر إليه- كما يريد الشكلانيون وأصحاب الفن للفنّ- على أنه مجرّد إنجاز لغويّ باهر. إنّ فاعليته الحقيقية لا تتم إلا بتآزر القيم الفنية والقيم الاجتماعية الحياتية.

إنّ الأدب العظيم –مثلما يعبِّر عن الأنا الفردية- يعبِّر كذلك عن الأنا الاجتماعية؛ ولذلك فهو جزء من النسيج الاجتماعيّ، هو- بامتياز- فنّ الحياة، فن التعبير عن قضايا الإنسان وهمومه ومشكلاته ومعاناته، ولقد كان شعرنا العربيّ –باستمرار- ديوان الأمة، ومستودع خبرتها وثقافتها بسبب ذلك. كان عمر بن الخطاب –رضي اللّه عنه- يقول: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علمٌ أصحّ منه" أو "أعلم منه"13.

ولدور الشعر القبليّ الاجتماعيّ الخلقيّ كان -رضي اللّه عنه- يأمر بتعلمه وحفظه: "مُرْ من قِبَلَك بتعلّم الشعر؛ فإنه يدلّ على مكارم الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب.."14. ولأن فيه –كما يقول-: "محاسنَ تُبْتَغَى، ومساوئ تُتَّقَى، وحكمة للحكماء، ويدلّ على مكارم الأخلاق.."15.

ولذلك فإنه من غير الصواب قولُ محمد غنيمي هلال عن النقد الأدبي عند العرب: "لم تكن الغاية من عزل الشعر عن الدين إقرار مبدأ التحرر الفكريّ، أو التمرّد العقديّ، ليعبِّر الشاعر عن فلسفته الخاصة بالعقيدة- وقل من يفعل ذلك من شعراء العرب كأبي نواس- .. وإنما كان إيماناً منهم بأنه ليس من طبيعة الشعر الخوض في مثل هذه القضايا.."16.

ولا قولُ عزّ الدين إسماعيل -مردّداً قول غنيمي هلال-: "الملاحظة التي وقف عندها النقد العربي- وأصرّ في كل حالة على موقفه- هي أن الفنّ القوليّ لا يمكن أن يعيش في كنف الدين أو الأخلاق، وكأن الأهداف الدينية والأخلاقية لا تأتلف وطبيعته.."17.

إنّ مثل هذه الأقوال الخطيرة بعيدة عن المنهجية والعلم، وهي تعميم في الحكم من خلال قول أو قولين لبعض النقاد، ولكن النقد العربي أصر باستمرار- وعلى عكس ما ذكره غنيمي هلال وعز الدين إسماعيل رحمهما الله- على ربط الشعر بالدين والأخلاق والحياة، وهنالك مئات الأقوال18 التي تثبت ذلك، وهو لأدباء ونقدة للأدب الخالص، وليست فقط لواعظين أو فقهاء أو حكام مسؤولين، أو لرجال الأخلاق والدين الذين يعنيهم حفظ كيان الأمة، وحِياطَة الجماعة بسياج يصون عناصرها من التفتت والانحلال كما ذهب إلى ذلك أحمد أحمد بدوي19.

فصل الأدب عن الحياة

ولم تُعرف الدعوة إلى فصل الشعر خاصة والأدب عامّة عن الحياة إلا على مع قدوم بعض موجات الحداثة الغربية الهجينة التي تبناها بعض أدبائنا ونقادنا، فأصبحنا نسمع من يدعو إلى تحرير الأدب من الأخلاق، بل من الغائية عامة.

يقول ديفيد سيدورسكي: "في المناقشات التي دارت حول النظرية الأدبية والمُمَارَسَة في الحركة الحديثة يتحدّد الهدف من تحرير الفنّ من قيود التدليل على حقيقية أخلاقية، أو حمل رسالة أخلاقية، وتحريره من عبء هذا التدليل.. وهذه المواقف هي- إلى حدّ ما- ردود فعل تدلّ على مقاومة مختلف الضغوط التي تمارسها تقاليد أخلاقية معينة، أو إيديولوجيات سياسية.."20.

وراح بعضهم -وهو يدعو إلى فصل الأدب عن الدّين والأخلاق- يروِّج لفكرة أن تعاطي الأدب مع هذه القضايا يبعده عن الفنية، ويغتال الجمالية فيه.

يقول الدكتور جونسون: "إنّ الدين يقصّ أجنحة خيال الشاعر، وإنّ الشعر الذي يعبِّر عن إيمان وولاء لا يستطيع أن يسُرّنا دائماً.."21.

ويقول آخر: يمكن التأكيد إذن أن جوهر العلاقة بين الفنّ والدين إنما يقوم على التعارض في أحيان كثيرة؛ حيث إن الفن يجسّد النظام الإنساني الطبيعي للقيم والمعايير، في حين أن اللاهوتيين يؤكدون أن الدين ظاهرة إلهية "لا طبيعية"، ولا يمكن أن تهبط إلى مستوى المعايير البشرية.."22.

وقد وجد من بين نقادنا وأدبائنا العرب المعاصرين من تبنّى مثل هذه الأفكار وما هو أكثر تطرفاً منها؛ فهذا واحد مثل نزار قباني يقول: "إن الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفنّ، بل مهمة الأديان وعلم الأخلاق. وأنا أومن بجمال القبح ولذة الألم؛ وطهارة الإثم؛ فهي أشياء صحيحة في نظر الفنان. تصوير مخدع مومس وارد في منطق الفن ومعقول، وهو من أسخى مواضيع الفنّ وأغزرها ألواناً. أما المومس من حيث كونها إناء من الإثم، وخطأ من أخطاء المجتمع فهذا موضوع آخر تعالجه المذاهب الاجتماعية وعلم الأخلاق.."23.

ليس صحيحاً أن الالتزام يغتال الفنية في الأدب، فالالتزام يعني ربط الأدب بالحياة والإنسان اللذين هما المادة الحقيقية للأدب، وإذا وجد أدب ضعيف عند بعض الأدباء الملتزمين فما هذا إلا بسبب ضعف إمكاناتهم الفنية، وعدم اكتمال نضجها أدواتهم الإبداعية، وليس في الالتزام ذاته. بل إن الالتزام الحر -الذي يعني الالتحام الحميم بالإنسان والمجتمع والناس- قد يكون عوناً على التجويد من أجل إيصال رسالته معبّرة فاعلة إلى الآخرين، وهذا ما لاحظه إحسان عباس في دراسته للشاعر عبد الوهاب البياتي؛ إذ رأى أن اهتمام البياتي المفرط بالقضايا العامة سبب تطوره الفنيّ؛ حيث إنّ خروج الفنان من الدائرة الذاتية الضيقة إلى أرحب المشكلات العامة كان سبباً في تقدّمه الفنيّ، وكأن المضمون الإنسانيّ المختار يخلق الشكل الفني المختار24.

وهذا كلام نفيس؛ إنّ الأدب هو فنّ الحياة، فن المجتمع وهموم الناس، وإن اهتمامنا به يرجع إلى هذه الأهمية الإنسانية، وعندما تتعانق فيه الأدوات الفتية المتميِّزة مع المضامين الإنسانية الخيِّرة يكون كالعقد الجميل المصنوع من الذهب الإبريز الخالص.
 


1- المجمل في فلسفة الفن: كروتشة، ترجمة سامي الدروبي، ص: 59.┃2- السابق، ص: 60.┃3- سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون: ابن نباتة المصري، "ط بولاق"، ص: 22.┃4- مقالات في النقد: ترجمة على جمال الدين عزت، ص: 20.┃5- صناعة الأدب: ر.أ. سكوت جيمس، ترجمة خالد الهنداي، ص: 238- 242.┃6- الشعر كيف نفهمه ونتذوقه: إليزابيث درو، ترجمة إبراهيم الشوش، ص: 319.┃7- المذاهب الأدبية في فرنسا: فيليب فان تيجم، ترجمة فريد أنطونيوس: ص: 244-246.┃8- جريدة الحياة، عدد 3/5/2001م.┃9- الثابت والمتحول: أدونيس،1/154-155.┃10- الصناعتين: أبو هلال العسكري، ص: 73.┃11– البيان والتبيين: الجاحظ، 1/83.┃12– الحيوان: الجاحظ، 3/131.┃13– كنز العمال: علاء الدين الهندي، 3/853.┃14 –العمدة: ابن رشيق، 1/28.┃15– كنز العمال: 3/855.┃16– النقد الأدبي الحديث: محمد غنيمي هلال.┃17– الأسس الجمالي في النقد العري: عز الدين إسماعيل، ص: 180-181.┃18– انظر هذه الأقوال في كتاب "النقد العربي القديم/ نصوص في الاتجاه الإسلامي والخلقي"، وليد قصّاب.┃19– أسس النقد الأدبي عند العرب: أحمد أحمد بدوي، ص: 400.┃20– انظر مقال "المعاصرة وتحرير الأدب من الأخلاقية" ديفيد سيدورسكي، ترجمة أمين العيوطي، مجلة فصول، المجلد السادس، العدد الثالث، ص: 68.┃21– الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، ص: 340.┃22– الفن والدين: د. ف. ميخنوفسكي، ترجمة خلف الجراد، 10-15.┃23– طفولة نهد: نزار قباني.┃24– عبد الوهاب البياتي: إحسان عباس، ص: 75.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها