
حين تضطرب الأرض تحت أزيز المدافع، ويموت آلاف الأطفال من الجوع، ويختلّ ميزان البيئة تحت أنفاس الاحتباس الحراري، وتجتاحنا التقنية الحيوية وثورة الذكاء الاصطناعي في سباق محموم، تكون الكتابة بالنسبة للمبدع وجهاً من وجوه المقاومة، الحارس الأخير للذاكرة، والمصباح الذي يكشف عن وجوه العالم وملامح الذات. وفي فسحة التخييل هذه، تنمو النفس كما تشاء، وتتحرر من قيود السلطة. أمّا لدى المقهورين والمهمّشين، الذين تُسلب منهم خرائط حاضرهم، وتُرسم لهم حدود مستقبلهم بأيدٍ غريبة، فيغدو اختراع فضاءٍ تخييلي فعلًا ثورياً.
ولإبراز مكانة الكتابة بوصفها أداة فاعلة في إنشاء الذاكرة، ولفتح فضاء تخييلي تنمو فيه الذات على سجيتها، أقدّم في هذا المقال قراءة تحليلية لرواية كازو إيشيغورو "لا تدعني أرحل أبدًا" (2005)، التي نقلها إلى العربية فايز الصايغ، وصدرَت عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر عام 2019. في هذا العمل يشغّل إيشيغورو تقنية ما وراء السرد عبر مذكرات البطلة المستنسَخة "كاثي". وفي عالم يُحكَم فيه على الكائنات المستنسَخة بمصير محتوم ينتهي بتبرعهم بأعضائهم حتى الفناء، تتصدّى كاثي بنفسها لرواية الحقيقة الفاجعة، فتبتكر تاريخاً آخر يناقض السردية العظمى التي تتبناها السلطة. إن استعادة الماضي والحاضر عبر توثيق الذاكرة تمكّنها من فهم العالم من حولها، وإعادة امتلاك ذاتها، والمشاركة الحية في نموها وتحقيقها، حتى ولو بعد وقوع الأحداث. ومن هذا المنفذ يكشف النظر في خطاب إنتاج الذاكرة، كما يتجلى في رواية إيشيغورو، أن الذات والتجربة في عالم يسيّره التقدم التكنولوجي لا تُحبسان في ثنائيات صلبة، بل تنبسطان في صورة كيانات سائلة متبدلة على الدوام، تخلق تواريخ شخصية مشحونة بقدرة على المقاومة في وجه السرديات المهيمنة.
وُلد كازو إيشيغورو في ناغازاكي باليابان عام 1954، وانتقل إلى بريطانيا وهو في الخامسة من عمره، فاستقر فيها حتى غدت موطنه الروحي. ويستطيع قارئ أعماله أن يلمح أثر هذه السيرة في إحساسه الدائم بالاغتراب، وفي النهايات المعلّقة التي لا تُحسم، وفي ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين الوصل والانفصال. وتتردّد في رواياته وجوه الهويات المقتلَعة، والرواة الذين لا يُوثَق بذاكرتهم، والماضي المعاد تركيبه، ونداءات الحنين التي تستحضر الغائب.
تُعَدُّ رواية "لا تدعني أرحل أبداً" سادسَ رواياته، وكان عنوانها الأول "شهادة طالب" في إشارة مبكرة إلى مذكرات بطلتها. وتدور أحداثها في تسعينيات القرن العشرين، في إنجلترا بديلة أصبح فيها استنساخ البشر أمراً روتينياً تحت ذريعة الأغراض الطبية. ومنذ الصفحات الأولى يتكشف للقارئ أن هذه الذريعة ليست سوى ستار يخفي مصيراً مهيأ سلفاً.
تُروى الحكاية على لسان "كاثي"، وهي مستنسَخة بالغة تستعيد طفولتها في مدرسة داخلية تُدعى "هيلشام"، أُنشئت خصيصاً لتنشئة المستنسخين تحت رعاية "الأوصياء". لم يكن تعليمهم كتعليم الأطفال المولودين طبيعياً؛ فقد أُنتجوا أصلًا لغرض الاستفادة من أعضائهم في علاج أمراض البشر. كانت المدرسة تحثهم على الحفاظ على صحتهم، وتشجعهم على تبادل الهدايا وصنع الأعمال الفنية، تختار منها "مدام" –التي تزورهم بانتظام– ما يُعرض في معرضها الغامض. عند بلوغهم السادسة عشرة، تنتقل كاثي وصديقاها "تومي" و"روث" إلى "الأكواخ"، حيث يواجهون العالم الخارجي لأول مرة. هناك تبدأ أسئلة كاثي عن جسدها، ويشرع المستنسخون في البحث عن "الأصل" الذي اشتُقوا منه، ليكتشفوا مرارة أن معظمهم نُسخ عن مهمشين أو منحرفين. وبينما يتورط الأصدقاء في مثلث حب يكدّر صفوهم، تصبح كاثي "معيلة" للمتبرعين، ويشرع تومي وروث في عمليات التبرع التي تفضي إلى نهاياتهم. تبلغ القصة ذروتها حين يلتقي تومي بكاثي بعد أعوام، فيتصارحان بحبهما، ويبحثان عن "تأجيل" لعمليات التبرع بحجة أنهما عاشقان بحق. يحمل تومي رسوماته للحيوانات دعماً لطلبهما؛ إذْ قيل لهما يوماً في "هيلشام": إن الفن يكشف عن الروح. لكن الصدمة تأتي حين يعلمان أن التأجيل لم يكن موجوداً أصلًا، وأن الفن لم يكن سوى وسيلة لاختبار ما إذا كان للمستنسخين أرواح. بعد هذا اللقاء، يخضع تومي لآخر تبرعاته ويموت، فيما تمضي كاثي –قبل أن يحين دورها– في رحلة إلى "نورفولك"، تتأمل ما مضى، وتستشعر فراغ الفقد الذي لا يملؤه شيء.
✧✧✧
إن أدوات القمع ونزع الإنسانية، الساعية إلى اختزال المستنسخ في وظيفته الطبية الباردة، تدفع المقهورين إلى ابتكار فضاءات أخرى يتشكّلون فيها ويثبتون وجودهم. فالتعبير عن الذات، في عالم ما بعد الإنسانية، هو فعل تحدٍّ داخل نظام يشكك في إنسانية الفرد، وفي سلامة جسده، وفي قدرته على الفعل، وفي حياته نفسها، ويعمل على محوها. ورغم ما يُظن من استسلام مستنسخي "لا تدعني أرحل أبداً"؛ فإن أجرأ ما يواجه هذا النظام المجرّد من الرحمة هو مذكّرات كاثي ذاتها. فالرواية التي خطّها إيشيغورو تأتي في صورة مذكّرات تكتبها البطلة، وتصل إلينا بصوتها هي، في حركة متأرجحة بين ماضٍ وحاضر، وذاكرة وواقع، لتبني سرداً مفتوح النهاية، على الرغم من أن المصير الأخير معروف في الظاهر، وهو ما يجعل هذه المذكرات عملًا غير مكتمل بطبيعته. والمذكّرات، بما هي سجل شخصي لحياة، تحمل طابع السيرة الذاتية، وتقوم على صلة وثيقة بين الحكاية وصاحبتها، وعلى عملية التحوّل التي تخوضها. وفي مذكرات كاثي تتجلى الذاكرة والتجسّد والفاعلية على نحو خاص.
يعيش المستنسخون، في عالم إيشيغورو، تحت نظام يجعل البشر النوع المميَّز، أصحاب القرار في مصائرهم، في حين يُساق المستنسخون إلى مستقبل محسوم كالحيوانات المُعدّة للذبح، لا يُتاح لهم أن يغيّروه. لذا فإنَّ السرديات الذاتية تُعدُّ برهاناً على الفاعلية الإنسانية؛ لأنَّ الفاعلية تنبع من قدرة المرء على أن يروي أحداث حياته وفق تأويله الحر، فيكشف عن ذاته الحقيقية. ومن هنا جرى تعريف السيرة الذاتية، بأنها "سرد للفاعلية".
ولا ريب أن الفاعلية الكامنة في السرد "السيرذاتي"، كما تتجلى هذه الرواية، أعمق من أن تُختزل في سلسلة من التصريحات التي تمليها حرية الاختيار وحدها. ففهم هذه الفاعلية كما يصوغها النص يقتضي النظر أولًا في السياق الذي كُتب فيه، وفي تعددية الأيديولوجيات التي يتضمنها، وهنا تلوح سياسات الخطاب. فالسرد السيرذاتي المتجاوز للحدود يوظّف الخطاب المتاح للمؤلف –وهو الخطاب نفسه الذي تحتكره السلطة – بما يحمله من نزعة قمعية تنزع عن المستنسخين إنسانيتهم وتختزلهم في غايات نافعة لغيرهم.
وهنا تكتسب مقولة ميشيل فوكو في كتاب تاريخ الجنسانية أهميتها: "الخطابات ليست، مرةً وإلى الأبد، خاضعة للسلطة أو قائمة ضدها… علينا أن نُقِرَّ بالطبيعة المعقّدة وغير المستقرة للعملية التي يمكن للخطاب من خلالها أن يكون في آنٍ واحد أداة ونتاجاً للسلطة، وأن يكون أيضاً عائقاً، ونقطة تعثّر للمقاومة، ومنطلقاً لاستراتيجية مضادة. فالخطاب ينقل السلطة وينتجها؛ ويعزّزها، لكنه كذلك يقوّضها ويفضحها، ويجعلها هشّة، ويتيح إمكانية إحباطها". فنزع الخطاب من سياقه وإعادة تشكيله يتيحان له أن يصير أداة ثورية تقوّض الهيمنة، وتفسح المجال أمام راديكالية الهُوية، وتوكيد الخبرة المتجسدة، وتعزيز التعددية.
وعلى هذا النهج؛ فإنَّ للغة قدرة على الفعل والتأثير في الأجساد والأحداث تأثيراً مباشراً، وأن هذه القدرة الأدائية، وإن كانت في الأصل أداة للنظام السياسي، يمكن أن يُعاد توظيفها لتصبح أداة تخريبية. إن مذكرات كاثي، في يد إيشيغورو، تستحضر هذه الإمكانية. إذْ إن سردها الماثل لتجربتها القاسية ينتزع لغة المذكرات من سياقها النازع للإنسانية، ليجعلها شاهداً على إنسانية المستنسخة، وفي الوقت نفسه أداة لزعزعة الهُوية وثباتها. وهكذا تغدو المذكرات، بوصفها ضرباً من ضروب المقاومة الإنسانية، وسيلة لتوكيد الذاتية والفاعلية في عالم ما بعد الإنسانية.
إن كشف كاثي بوصفها ذاتاً متجسدة يضيء البعد الجسدي للذاتية، ويكشف صلته الوثيقة بسردية الحياة التي نسجها لها إيشيغورو. فالجسد هو موضع المعرفة السيرذاتية، وهو اللوح الذي تُنقش عليه حياة المرء؛ لأن الذاكرة ذاتها متجسدة. في مذكرات كاثي، يتموضع الجسد في نسيج متحوّل من اللغة، والزمن غير الخطي، والذاكرة، والنوع الاجتماعي، والاستحواذ الثقافي، وعلاقات السلطة.
وفي العالم المادي –وإن كان متخيَّلًا– تُنتزع أجساد المستنسخين منذ البدء، وتُغرَّب عن ذواتها بسلطة الدولة، وتُعامَل كأدوات لخدمة غايات محددة، ويُلقَّن أصحابها الصمت. غير أن فعل الكتابة يفتح باباً للتغيير؛ فهو يمنح الجسد المقهور صوتاً، ويبتكر سبلًا جديدة للتجسّد، ويطلق سيرورة تحرر للتجربة وتحقيق الذات.
تقوم سردية حياة كاثي على الذاكرة؛ فباستدعائها للماضي وتشكيل ذاتها من خلاله، يضعها إيشيغورو في مواجهة مع السردية الكبرى التي يشيعها مجتمع الرواية المهيمن النازع للإنسانية. وبذلك تتحول المذكرات إلى تاريخ شخصي بديل، يسعى إلى ترميم الجوانب المعتمة والمسكوت عنها في التاريخ الذي تصوغه السلطة.
ولتعزيز هذا الدور، يمزج إيشيغورو في نص كاثي بين أصوات شتى: صوت الطفلة، وصوت المرأة الناضجة، وصوت الذات المتطلعة إلى ما لم تصره، وصوت الذات التي كانتها. كما يمنح مساحة لصوت تومي وروث وسماتهما المميزة، ثم لأصوات المستنسخين جميعاً. ويبلغ هذا المزيج ذروته حين تعمل كاثي "معيلة"، فتلتقي مستنسخين آخرين، بعضهم –رغم إنهاك الجسد بعد التبرعات– يستعيد ذكريات طفولته في مدارس أخرى، وبعضهم يحدوه الفضول لمعرفة "هيلشام". ومن خلال هذه الومضات المتناثرة لحيوات المستنسخين وتجاربهم، يغدو نص كاثي – رغم طابعه الشخصي – أقرب إلى مذكرات جمعية متخيلة، أو فسيفساء من التجربة المشتركة.
بعبارة أخرى، تغدو المذكرات فسحة تتجاور فيها أصوات ورؤى متعددة، تدفع حدود التجربة والتعبير، وتصل بين أنماطهما المختلفة في نَسَق غير خطي. وفي هذا التداخل يكمن جوهرها؛ إذ في عالم لا تدعني أرحل أبداً، حيث تُنتزع فاعلية المستنسخين وفردانيتهم وإنسانيتهم منذ اللحظة الأولى، وحيث يبدو أن المقاومة ضرب من الوهم، تبرز إمكانات مذكرات كاثي كأثر حاسم من خلال محو الحدود، لتصنع عملًا فنياً وسجلًا تاريخياً. فالخط الفاصل الذي يتلاشى بين النص والتجربة، وبين الفن والحياة، هو الموضع الذي يمكن أن تتشكّل فيه المقاومة. لقد اعتُبر إنتاج الفن طويلًا امتيازاً بشرياً خالصاً، ومعياراً يرسّخ فكرة الاستثنائية الإنسانية ويقلل من شأن الكائنات الأخرى والأنظمة البيئية. بيد أن رواية إيشيغورو، بعيون كاثي، تعود مراراً إلى سؤال الفن ومعنى الإبداع. وهي إذ تستعيد طفولتها، تصرّح: "إنها جزء من الأشياء التي جعلت من هيلشام مكانًا متميزًا. قالت: "ولكن عندما أتذكر المهرجانات أحياناً، أحسّ أنها غريبة قليلًا. الشعر على سبيل المثال، أتذكر عندما كان يُسمح لنا بعرض القصائد بدلًا من الرسومات أو اللوحات. والغريب أننا اعتقدنا أن ذلك يشعرنا جميعاً، وبأنّ له دلالة خاصة بالارتياح" (ص: 18).
وفي حوار آخر مع تومي، تكتشف أن رسومه الطفولية كانت مدعاة للسخرية والإقصاء من الألعاب ومجموعات الأقران، الأمر الذي أورثه عادة الانفعال الحاد أو ما يُسمى "نوبات الغضب" تعبيراً عن إحباطه، إذْ لم يجد سبيلاً آخر للتنفيس عن مشاعره. وتكشف هذه الأحاديث أن هيلشام كانت تغرس في طلابها نظاماً يجعل من جودة الفن معياراً خفياً للقبول أو الرفض داخل الجماعة. قد لا يكون هذا النظام مصاغًا بوضوح، غير أن التركيز على الجودة كان حاضراً في وعيهم، حتى غدا معياراً يحكمون به من يستحق الإعجاب ومن يُقصى. ويقابل إقصاء تومي مثال معاكس هو الطالبة "كريستي"، التي تتذكرها كاثي وروث بأنها كانت تتمتع بسمعة رائعة في الشعر. وهكذا، كما في العالم الواقعي حيث يُعَد الفن حدّاً فاصلًا بين الإنسان والحيوان، نجد في هذه الرواية أن الفن أصبح مقياساً يفصل بين طلاب موهوبين كُفء جديرين – أشبه بالبشر – وآخرين عاجزين لا يُلتفت إليهم– أشبه بالحيوانات.
إن فهم معنى الفن في عالم "لا تدعني أرحل أبدًا" يمهّد لإدراك القيمة الكامنة في مذكرات كاثي، إذْ إن هذه المذكرات نفسها عمل فني أنجزته شخصية مستنسخة. ويُظهر طابعها الوجداني القواسم الإنسانية المشتركة، مثيراً التعاطف مع المستنسخين. يتضح ذلك حين ندرك أن كاثي تخاطب القارئ عبر حلقات سردية تجعلها، هي وبقية المستنسخين، في حكم البشر فعلياً. كما أن اعتبار القارئ منذ البداية لتجارب كاثي العاطفية مألوفاً بعمق لتجربته الخاصة يعد عنصراً أساسياً في إثارة التعاطف لصالح المستنسخين.
ومن خلال هذا التواصل المباشر مع القارئ، وقدرتها على استدعاء مشاعر التعاطف نحوها ونحو أقرانها، تتجلى مذكرات كاثي كتمثيل لروح الفرد المستنسخ. وبالاستناد إلى المنظور الوجودي في "هيلشام" الذي يربط بين الإنسانية والفن والروح، تؤكد مذكرات كاثي – بطبيعتها الوجدانية – أن المستنسخين ذوو حس وذكاء، شأنهم شأن البشر "الطبيعيين"، وأن تجاربهم وانشغالاتهم الوجودية –وفي مقدمتها مسألة الفناء– لا تختلف في جوهرها عن تجارب الإنسان. وبعبارة موجزة؛ فإن هذه المذكرات، بوصفها العمل الفني الأسمى، تهدم الحاجز التقليدي بين الإنسان وغيره، وتكشف عن إنسانية المستنسخين التي لا سبيل إلى إنكارها. وتشتد قوة هذا الموقف المتمرّد حين ندرك أن سرد كاثي، بجعله المستنسخين بشراً كاملي الإنسانية، يقوّض الأساس الذي تُبنى عليه فكرة التبرع بالأعضاء، ويكشف فظاعتها الكاملة، مشيراً إلى حتمية التغيير.
من هذا المنطلق، تغدو المذكرات –بما تتجاوز به عمر مبدعها– فضاءً تخييلياً يسمح للذات ما بعد الإنسانية أن تنمو وتستمر في الوجود دون الجسد، كاشفة ذلك التداخل العجيب بين الحياة والفن. فسرد كاثي السيرذاتي يجسد تحوّل التجربة الحية إلى فن، وفي الوقت نفسه، بصفته عملًا فنياً، يتيح للحياة أن تزدهر خارج قيود القمع الإنساني المعياري. بعبارة أخرى، تتحول الحياة إلى فن، ويتحوّل الفن إلى حياة.
✧✧✧
والسؤال هنا: كيف لشيء غير حي أن يحتوي الحياة؟ إن المسار الإبداعي لكاثي يرتكز على حنين متصل إلى الماضي، إذْ يدفعها غياب آفاق المستقبل وضيق الحاضر إلى حنين "نوستالجي" يعيدها إلى ما انقضى. فالحنين تمرين ذهني يؤدي وظائف متعددة، مثل تعزيز الذات، ودعم الرؤية الثقافية للعالم، وتقوية الروابط العاطفية. والذاكرة والكتابة، بوصفهما عمليتين إبداعيتين متكاملتين، تمنحان كاثي القدرة على صياغة –بل وتجسيد– نسخة متخيلة جزئيًا من ذاتها. هذا التداخل بين الذات الساردة، والذات المعايشة، والذات المروية، يفلت من آليات التشكيل المهيمنة في مجتمعها؛ لأنه يتحدى الموت نفسه. إذ يمنح الذات المروية فرصة للبقاء وإعادة التشكيل مراراً عبر قرّاء المذكرات. ومع انسياب الحدود بين هذه الذوات الثلاث، تكتسب كاثي قدرة على التأثير في الصورة التي يكوّنها الآخرون عنها وصياغة فهمهم لها كذات فاعلة. وبدل أن ترضخ لصورة الكائن الغريب المثير للقلق، تكشف مذكراتها –بما تعرضه عمداً من أفكار المستنسخين ومشاعرهم وتجاربهم– عن إنسانيتهم الواضحة وعن قسوة المعاملة التي يلقونها.
ومن خلال المثال التخييلي الذي تقدمه رواية إيشيغورو، يتضح أن توثيق الذكريات والتجارب يسير جنباً إلى جنبٍ مع استدامة الهُوية، وله القدرة على التعبير عن معاناة جماعة مقهورة بأكملها. وبذلك يغدو التوثيق، على المستويين الفردي والجماعي، فعلًا ثورياً قادراً على تقويض السرديات الكبرى الراسخة وكشف تواريخ بديلة.