العناصر الأرضية النادرة.. مفتاح التكنولوجيا

إبراهيم احيحي


السيريوم، نيوديميوم، لانثانوم وغيرها هذه الأسماء التي تبدو صعبة النطق والتي ربما لم يسبق لك أن سمعت بها من ذي قبل، هي لعناصر توجد في الطبيعة تتوقف عليها حياتنا اليومية، فلولاها لم تكن لتعرف ما هو جهاز الهاتف الذكي أو الحاسوب، ولم تكن لتستمتع بالتلفزيون الملون، من دونها لم تكن السيارات الكهربائية لتلقى هذا النجاح الباهر، إن قائمة استخدامات هذه العناصر طويلة جدّاً، ويكاد لا يوجد جهاز إلكتروني حالياً إلا وتدخل هذه العناصر في صنعه، فهي بحق مفتاح التكنولوجيا الحديثة، وإذا كان صراع الدول العظمى سابقاً يدور حول الذهب والفضة والبترول؛ فإننا اليوم نعيش عصر الصراع على العناصر الأرضية النادرة؛ لأن من يمتلكها يمتلك زمام التكنولوجيا، في هذه المقالة سوف تتعرف على هذه العناصر التي وإن كنت تجهلها، فإنك تستخدمها كل يوم.


حقائق عن العناصر الأرضية النادرة:

يوجد في الطبيعة 17 عنصراً ينتمي إلى ما يعرف بالعناصر الأرضية النادرة، من المعلوم أن الإنسان قد استخدم عناصر كالحديد والذهب والفضة منذ القدم، إلا أن هذه العناصر التي هي موضوع حديثنا لم تكتشف حتى القرن الثامن عشر، ولم يجرِ استخدامها حتى أوائل القرن العشرين.

قد يخدعك اسمها فتعتقد أن هذه العناصر تتواجد بكميات قليلة ولكن الحقيقة ليست كذلك، فالعناصر النادرة ليست نادرة على الإطلاق، بل هي أكثر وفرة من الذهب، ومن الوارد أن تكون في التربة التي حولك لكنها تتواجد بتركيز ضعيف جدّاً، بحيث إن الأمر سيتطلب استغلال مساحة شاسعة من الأرض، وجلب معدات باهظة الثمن من أجل استخراج كمية ضئيلة للغاية من هذه العناصر، وهذا ليس مجد اقتصادياً، وتشبه العناصر الأرضية النادرة في ذلك الذهب الذي يتواجد بكميات هائلة في مياه البحار والمحيطات، لكن بتركيز ضعيف جدّاً، بحيث يتطلب الأمر معالجة كميات كبيرة من المياه من أجل الحصول على النّزرِ القليل من الذهب، لذلك أعرض الناس عن هذه الفكرة.

لكن، في بعض الأماكن المحدودة في العالم تتواجد العناصر الأرضية بتلك الوفرة التي تجعل استغلالها مربحاً ويستحق العناء، تقع هذه الأماكن في الصين، والولايات المتحدة، وأستراليا، والبرازيل والهند.

الآن عرفت لماذا سميت هذه العناصر بالنادرة، يجب أن نذكر شيئاً آخر هو أن هذه العناصر حتى إن وجدت فهي صعبة الاستخراج؛ لأنها غالباً ما تكون مختلطة مع معادن أخرى، أيضاً ولكونها تتشابه فيما بينها، فإن فصل بعضها عن بعض هو عملية بالغة التعقيد وتحتاج لمعدات عالية التطور، وهذا ما يفسر كون هذه العناصر ثمينة.

تاريخ استخدام العناصر الأرضية النادرة:

لقد بدأ الإنسان يتعرف على العناصر الأرضية النادرة منذ القرن الثامن عشر لكن دون أن يكون لها استخدام معين، وظل الوضع كذلك حتى بداية القرن العشرين، حيث تم استخدام بعضها في صنع الولاعات والمصابيح، عدا هذان الاستخدامان لم تكن العناصر النادرة تمثل شيئاً ذا قيمة، ففي الصين مثلًا عندما كان يتم استخراج الحديد من منجم منغوليا الداخلية كان العمال يلقون بهذه العناصر التي يجدونها جانباً، باعتبارها من الشوائب، لم يكن أحد ليتصور أنه سوف يأتي يوم تصبح فيه هذه العناصر أغلى من الذهب. إنما ما الذي تسبب في رفع أسهم هذه العناصر حتى جعلها قيمة إلى هذا الحد؟

في ستينيات القرن العشرين طرح التلفزيون الملون في الأسواق، وأخذ الناس يتهافتون على اقتنائه ولم تحل سنوات السبعينيات حتى كان معظم السكان في الدول المتقدمة يتوفرون على جهاز تلفزيون ملون، إن هذا الجهاز الذي كان آخر صيحات التكنولوجيا آنذاك لم يكن ليصنع لولا استخدام عنصرين من العناصر الأرضية النادرة، وهما الإتريوم Yttrium ويوروبيوم Europium لقدرتهما على بعث الضوء.

وبارتفاع الطلب على التلفاز الملون ارتفع الطلب على العناصر الأرضية النادرة، كانت الولايات المتحدة هي المزود الأول للعالم بهذه المواد وبنسبة %85، ومعظم الإنتاج كان يأتي من منجم مونتن باس Mountain Passs في كاليفورنيا.

لقد اكتشفت العناصر الأرضية النادرة في كاليفورنيا بالصدفة سنة 1949، وظلت هي المصدر الرئيس لهذه العناصر إلى أن حدثت سنة 1997 كارثة بيئية عجلت بإقفال منجم مونتن باس، فلقد كانت الشركة المسؤولة عن استخراج العناصر النادرة منه تلقي بمياه الصرف الصحي عبر أنبوب كبير في قلب صحراء كاليفورنيا، وكانت تزعم الشركة أنها مجرد مياه مالحة فقط، لكن حدث فجأة انفجار لهذا الأنبوب؛ ليتبين للجميع حقيقة المياه التي كان ينقلها، فقد كانت ملوثة بمواد كيميائية بالغة الخطورة على البيئة، فثار أنصار البيئة لهذه الحادثة وسرعان ما تحولت إلى قضية رأي عام، ليعلن عن إغلاق منجم مونتن باس رسمياً سنة 2001.

هكذا توقف منجم كاليفورنيا عن إنتاج العناصر النادرة، بيد أن الطلب على هذه العناصر لم يزدد إلا حدة، خاصة مع حصول ثورة تكنولوجية نتج عنها ظهور أجهزة إلكترونية جديدة كالهواتف الذكية، الحاسوب، التلفاز الرقمي، الكاميرات الرقمية، والكثير من الأجهزة التي تستخدم في المجال الطبي، فمن سيسد الطلب على العناصر النادرة إذنْ؟

لقد كانت الصين تقوم أيضاً باستخراج العناصر الأرضية النادرة، وتساهم في تزويد العالم بنسبة متواضعة، وكانت تصدر تلك العناصر خاماً لأمريكا وأوروبا حيث تتم معالجتها، وبعد إقفال منجم مونتن باس ومع تطور الصين التكنولوجي وعدم وجود قيود بيئية كثيرة كالتي في الدول الغربية أضحت الصين المزود الأول للعالم بهذه المواد وبنسبة %97، وكل الدول التي كانت تنتجها سابقاً خرجت من المضمار خائبة؛ لأنها لم تستطع منافسة الصين التي تبيع تلك العناصر بأثمنة مناسبة.

اليوم يعتمد العالم على الصين اعتماداً شبه كلي للحصول على العناصر النادرة، ومادامت حياتنا قد أصبحت مرتبطة بأجهزة التكنولوجيا الحديثة ارتباطاً تاماً، ولأن هذه الأخيرة لم تكن لتتاح لولا وجود العناصر النادرة؛ فإن الصين بحق أصبحت تمتلك مفاتيح التكنولوجيا، وهذا ما دفع بالرئيس الصيني دينغ شيوننغ للقول:
"للشرق الأوسط بتروله، وللصين العناصر الأرضية النادرة".

خصائص العناصر الأرضية النادرة واستخداماتها:

إن العناصر الأرضية النادرة تمتلك خصائص فريدة من نوعها هي التي جعلتها ركناً أساسياً في الصناعة الإلكترونية، فبعضها له قدرة هائلة على توصيل الكهرباء، وبعضها الآخر يمتاز بمغناطيسيته التي لا مثيل لقوتها، وبعض هذه العناصر يمتاز بالقدرة على إنتاج الضوء وغير ذلك.

إن المجال الذي يستهلك أكبر قدر من العناصر النادرة هو البصريات، فمن هذه العناصر يتم صناعة عدسات للنظارات ذات كفاءة عالية تستخدم لتصحيح النظر، وتتميز بكونها أخف وأرق من العدسات العادية.

أيضاً مكنت العناصر النادرة من صنع عدسات للكاميرا الرقمية والهواتف الذكية تمنح للمستخدم صوراً عالية الدقة.

ثم تأتي بعد ذلك المحركات الكهربائية، ولكي تعمل بكفاءة فلا مناص من استخدام العناصر النادرة؛ لأن الكثير من هذه الأخيرة تنتج مغناطيساً قوياً أقوى بكثير من المغناطيس الذي نعرفه، والمصنوع غالباً من الحديد أو الفولاذ.

ففي السابق وللحصول على محركات ذات طاقة كبيرة كان الصانعون مضطرون لاستخدام كمية كبيرة من المغناطيس، ولكن ذلك يجعل المحركات تبدو كبيرة الحجم، أتت العناصر الأرضية النادرة بالحل؛ إذ يكفي القليل منها للحصول على محركات ذات طاقة كبيرة، وفي نفس الوقت صغيرة الحجم.

بفضل العناصر الأرضية النادرة ازدهرت صناعة السيارات الكهربائية، فالمحرك الكهربائي الصغير والفعال أفسح المجال لإضافة أجهزة أخرى داخل السيارة، أيضاً إن خاصية المغناطيسية استخدمت كذلك في صنع التوربينات العملاقة التي تولد الطاقة الكهربائية انطلاقاً من قوة الرياح.

هنا يظهر لنا كيف أن العناصر النادرة تساهم في الحصول على بيئة نظيفة والحد من الاحتباس الحراري، فالسيارات الكهربائية لا تلوث الهواء، والتوربينات تمكننا من الحصول على الطاقة الكهربائية، دون الاعتماد على الوقود الأحفوري الذي تسبب في تلوث الهواء، ورفع درجة حرارة الأرض.

إن عدد الأجهزة التي تدخل العناصر النادرة في صناعتها كثيرة جدّاً ولا يسعنا إلا أن نذكر أهمها، فهناك مثلًا جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الذي يستخدم للحصول على صورة مفصلة وعالية الدقة للأعضاء والأنسجة داخل الجسم، ثم هل تعلم أن العناصر النادرة موجودة أيضاً في هاتفك الذكي، ورغم كونها لا تشكل أكثر من %0.1 من وزنه إلا أنها ضرورية جداً، فلولاها لكان الهاتف المحمول بحجم الحاسوب.

رحلة البحث عن العناصر الأرضية النادرة:

اليوم تحتكر الصين إنتاج العناصر النادرة فهي تنقب وتستخرج وتعالج تلك العناصر مستفيدة من كثرة اليد العاملة الرخيصة، وعدم وجود قيود بيئية كثيرة، لذلك فقرابة %97 من الإنتاج العالمي من العناصر النادرة يأتي من الصين، فما الذي يعنيه ذلك؟

يعني بأن الصين اليوم تمتلك مفتاح التكنولوجيا، وأن الدول المتقدمة كاليابان وأمريكا الشمالية وأوروبا الغربية لا يمكنها تحقيق تقدم تكنولوجي دون الاعتماد على الصين، وأن هذه الأخيرة قد تستخدم هذه العناصر كورقة رابحة لكسب الكثير من القضايا السياسية، وقد حدث بالفعل سنة 2010 أن قللت الصين من صادراتها من العناصر النادرة بسبب أزمة وقعت بينها وبين اليابان حول جزر تمتلكها اليابان وتطالب بها الصين، وعلاوة على الأزمات السياسية؛ فإن الصين تحاول بين الفينة والأخرى التقليل من صادراتها لأنها تريد أن تلبي مطالب سوقها الداخلي أولًا، فالكثير من الأجهزة الإلكترونية تنتج وتستهلك في الصين نفسها، فالبلاد على سبيل المثال تضم أكبر عدد لمستعملي الهاتف الذكي في العالم.

إن الرغبة الجامحة في التخلص من التبعية للصين هي التي دفعت الكثير من الدول للقيام بأبحاث وتنقيبات في أماكن مختلفة من العالم، على أمل العثور على مستودعات من العناصر النادرة، ولقد قادهم البحث إلى أعماق المحيط الهادي، حيث تم العثور على صخور تسمى بالعقد المنغنيزية يعتقد على أنها تحتوي على العناصر النادرة، إن البحث في المحيط الهادي، حيث تكثر هذه العقد يجري على قدم وساق من طرف الولايات المتحدة وألمانيا والسويد، والكل ينتظر قدوم ذلك اليوم الذي يجدون فيه ما يكفي من العناصر النادرة التي تجعلهم يستغنون عن الصين.

الجانب المظلم للعناصر النادرة:

من المؤكد أن العناصر النادرة قد مكنت الإنسان من صنع أجهزة تقلل من التلوث كالسيارات الكهربائية وتوربينات الرياح وغيرها، ولكنها في الآن ذاته تسببت في إلحاق أضرار بالغة بصحة الإنسان وبيئته، كيف ذلك؟

إن استخراج العناصر النادرة وفصلها عن بعضها البعض عملية طويلة ومعقدة، وتستخدم فيها مواد كيميائية خطيرة يمكن أن يؤدي التعامل الغير سليم معها إلى إلحاق أضرار بالبيئة والبشر على نطاق واسع.

في منغوليا الداخلية بالصين المكان الذي تستخرج منه معظم العناصر النادرة، يشكو الناس القاطنون في المدن القريبة من أمراض خطيرة مرتبطة بالتلوث، وفي ماليزيا سنة 2011 كان منجم ميراه الذي تستخرج منه العناصر النادرة وراء حدوث تشوهات خلقية، والإصابة بسرطان الدم في المستوطنات البشرية القريبة من الموقع، مع أن الوثائق الصحية تثبت عدم وجود هذه الأمراض بمستويات مرتفعة قبل البدء باستغلال هذا المنجم. ولا ننسى أن التلوث كان وراء إغلاق منجم مونتن باس في كاليفورنيا، وهو السبب نفسه الذي يحول دون البحث عن هذه العناصر في أوروبا لأن القيود البيئية تمنع ذلك.

ما زالت الصين إلى اليوم تتربع على عرش منتجي العناصر الأرضية النادرة، وما زالت دول العالم المتقدم في بحث مستمر عن مصادر جديدة لها، إننا اليوم مرتبطون أشد الارتباط بهذه العناصر لأن حياتنا العصرية متوقفة عليها، ولا يمكنك أن تستغني عنها إلا إذا اعتزلت المدنية الحديثة، واتخذت من غابة نائية مسكناً لك دون أن يكون بين يديك أي جهاز من الأجهزة المتطورة، وحتى وأنت على تلك الحال، وإذا ما حل الليل واشتدت ظلمته وأردت أن تستوقد ناراً أخرجت من جيبك ولاعة، فتكون مرة أخرى قد استخدمت منتجاً يعتمد على العناصر النادرة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها