سلحفاة تبحث عن مخبأ!

أحمد طوسون


صب الشاي من البراد إلى الكوب ووضعه أمامه فوق الطاولة.. فتح غطاء علبة الحكايات، وجلس منصتاً في انتظار حكاية مشوقة.. فكر في طلب وجبة عشاء جاهزة، وبعض اليوسفي للتسلّي لزوم السهر مع الحكاية.

ليس للتسلّي فقط! هو جائع أيضاً! يكاد يموت من الجوع، ليال ثلاث لم يذق فيها لقمة، وحين تثور بطنه وتعنفه، يخرج لتهدئتها، يلف ويدور حول محلات الحاتي والشواء لتمتلئ بطنه برائحتها، ويعود حامداً شاكراً لربه ولحكومته، التي لا تتوانى لحظة عن خدمة شعبها وتوفير الحياة الكريمة له.. لكنه تراجع، ووئد الفكرة في مهدها. من أين سيدبر ثمنها، هو في الحقيقة لا يحب الحكايات واللهاث خلف الألاعيب الدرامية المحكمة لفك شفراتها، لكنه لجأ إليها مضطراً، نصحه أحدهم بأنها الوسيلة المثلى للهروب من الواقع!

قال مؤكداً:
- جرّب وستدعو لي.

ستجدها أكثر نجاعة من مطاردة روائح الأطعمة والشواء.

في تهدئة ثورات بطنك.

طال الصمت ولم تبدأ الحكاية!

تحسس جيبه بحثاً عن سيجارة شحتها من أحدهم كان يقف منتظراً دوره عند باب مرحاض عمومي، في لحظة ضعف إنساني وتحت وطأة ضغط مثانته استجاب له، أخذها منه ودسها في جيبه.

تحسسها بأصابعه محاولاً فردها بعد أن انثنت وتلوت في جيبه، وأشعل عود ثقاب ريثما تدب الحرارة في شخوص حكايته.

شعر برائحة رياح محملة بالغبار والسير الشعبية لأبطال خارقين أتوا من التاريخ لكنهم يشبهوننا، سعل سعلة خفيفة، واستمع لعواء ريح بعيدة، عندما اقتربت من فتحة الغطاء أطفأت شعلة عود الثقاب فأرخى الليل سدوله وعم الظلام.

فرك كفيه متأهباً، سمع دبيب خطوات.. كانت عفية، ظنها لخيول سباق، وفي المدرجات يجلس أمراء وبجانبهن أميرات وجميلات، يخطفن ببريق عيونهن عدسات الكاميرات.

لكن الخطوات العفية مع الوقت تعبت وباتت منتظمة ومجهدة، توقع حينها أن تخرج حشود وجحافل لجيوش من نمل.

ارتجت العلبة واهتزت وتمايلت قبل أن تعاود الثبات في مكانها مجدداً، والصمت الذي قطعته ريح عابرة وخطوات منتظمة مجهدة تحالف مع العتمة وتغلب على أعدائه وعاد مسيطراً.

صوب نظراته بحثاً عن ضوء شحيح، يساعده على الرؤية، انشقت الأرض من حوله وخرجت خنافس وزواحف وحيوانات منقرضة وخرافية تفر مذعورة.

من بعيد سمع أصوات خطوات متعبة تئن!

أحس بالفزع يسكن قلبه، فكر أن يغلق العلبة ويكتفي بالصمت.. ماذا ستفيد الحكايات المخيفة مع قرصة الجوع والظلام الذي يلفه؟!

بعد قليل من مقدمة الراوي الطويلة المملة سيتثاءب، ويشعر بالدفء يسري في جسده وحواسه، وتثقل رأسه وتتداعى أمامه على الأرض فيغلق جفنيه وينام، سيمني بطنه أن يسكت جوعها، ويأكل أرزاً بلبن مع الملائكة، كما تفعل الأمهات وهن يهدهدن أطفالهن الصغار.

مد يديه بحثاً عن الغطاء ليسد الطريق على الراوي قبل أن يبدأ حكايته، غير منتبهٍ أن الحكاية سبقته وفلت لجامها.

اليد التي امتدت بحثاً عن الغطاء دخل بنصرها في فجوة ناعمة لزجة انقبضت بمجرد ملامستها، الدفء الذي حوط بنصره حرك أفكاراً وصوراً ومشاهد ايروتيكية مختزنة في رأسه، قبل أن تعض سلحفاة متباطئة خرجت تبحث عن مخبأ على أصبعه بأسنانها.

كلاهما صرخ في لحظة واحدة واختلط صراخهما في الظلام فلم يميز أي صرختهما أكثر من الأخرى رعباً، ولم ينتبه لعربات نقل الجنود المسرعة التي كادت تدهسه، وربما الانفجار الكبير الذي دوى صوته في المكان كان من وقع مرورها فوق جسد السلحفاة!

حلقت في السماء طائرات صغيرة وكبيرة، أشعلت أضواءها من بعيد قبل أن تلقي قنابلها الفسفورية، فرأى فيما رأى قططاً باتت على شكل سناجب مشطورة تموء ذعراً، وكلاباً فقدت قدرتها على النباح، تلعق نزيفها في صمت بعد أن بقرت دهشتها، وشجرة وحيدة عارية مالت أغصانها وتكسرت، غطاها سواد القنابل، وسقطت فوق أغصانها المتكسرة حمامات بيضاء مسالمة تنزف دماً.

شعر أنه ينسحق تحت ثقل ما، ابتلع ريقه واعترف لنفسه إنه لا يحب الحكايات المرعبة، كان يأمل في حكاية كهدهدات الأمهات لصغارهن، تربت على وجع في قلبه لا يعرف مصدره وتهدهده.

تساءل: ترى أين ذهب الغطاء الملعون وأين اختفى؟

هل قرضته فئران الحقل الهاربة من المجاعة في طريقها إلى المنفى؟

حاول مجدداً مد يديه، ربما سقط من فوق الطاولة تحت أحد كراسي فوتيه الصالة، قرصت حدأة نافقة أصبعه قبل أن تودعه وداعها الأخير. لم يتعاطف يوماً مع الحدءات، تلك الجرذان الطائرة التي تسرق الأرواح من العشش الآمنة، لكن أمام الموت تترنح كل الثوابت، شعر بدمعة ساخنة على خده، وربما كانت بقايا أحشاء حية مزقتها المدرعات.

من بعيد أتت امرأة شابة مهرولة، تعثرت ربما في مقعد بالصالة ووقعت فكشفت عن ساقيها، وأحيت في قلبه رغبات مقموعة، سمع أصواتها تفح وتلهث من قاع عميق في نفسه، تحاول تمزيق قمقمها لتخرج مارداً عملاقاً من دخان الأماني.

منى نفسه باعتدال سيرة الحكاية، سيفرش البحر ملاءته صافية الزرقة، وتهدهد قلبه أمواجه بزغبها الأبيض وتعزف ألحاناً سماوية على وقعها تتراقص الحيتان، وعلى شاطئه فتيات وغانيات خرجن من أغلفة مجلات الشهوة.

لفحه صهد صحرائه الممتدة بلا انتهاء، تشقق حلقه عطشاً، مد يده يرشف رشفة من كوب الشاي، أحسه بارداً ولزجاً وثقيلا كدم متخثر، بصق الشربة على الأرض بعناء.

دفعته الشابة بعيداً عن طريقها، فسقط الكرسي على جانبه وارتطمت رأسه بالأرض مع انسكاب الشاي على البلاط العاري.

ضوت طائرة مسيرة بالقرب من رأسه، شاهد طابوراً طويلاً من النازحين ينتظرون دورهم في عبور نهر الدم الذي انتهى مجراه تحت الطاولة عند المكان الذي سقط فيه رأسه.

الشابة الجميلة لم تعبأ لمحاولته التلصص على مفاتنها في الظلام، صرخت من بعيد:
- اهرب

حاول النهوض والبحث عنها في زحام العابرين، المؤخرات العجفاء صنعت سوراً عازلاً حجب رؤيتها.

صوتها من بعيد تخطى السور وأتى واهنا:
- ماذا تنتظر؟

كان يحاول أن يمسح الدم النازف عن بلاط شقته، ويعيد وضع المقاعد إلى أماكنها، تعجب قائلاً:
- أنتظر الحكاية

رفع رأسه محاولاً تلمس صوتها في زحام الاستغاثات والصراخ، لكنه فقده تحت وطأة العتمة، ولم يسمعه أحد حين صرخ صرخته الأخيرة بعد أن دهسته إحدى المجنزات بالخطأ، وهي تحاول تغيير اتجاهها عند خط الحدود.

لم يسمعه أحد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها