كان أدب الطفل -دائمًا وأبدًا- منذ ظهوره الأول نقطة انطلاق كبيرة نحو تقديم القيم والمفاهيم للطفل -أي طفل- فعن طريقه يمكن التحليق عاليًا في عوالم من الخيال تسمح لطفل اليوم أن يسافر في رحلة عبر التاريخ، ليعيش في الماضي السحيق عبر قصص التراث الشعبي وحكاياته، لينهل من معين الخيال الشعبي الذي توارثته الأجيال واحدًا تلو الآخر.
ولعل الجَدة الحكاءة كانت أحد أهم مصادر الإلهام التي قُدمت للطفل، كما كانت منبعًا أسهم في تكوين الصور الذهنية لكل ما لا يمكن للطفل أن يدركه، وهو ما جعل من ذلك الأدب محفزًا للعقل ومساهمًا في تشكيل العقل الجمعي للأمم، عبر ربط الطفل بتراثه وماضيه، منطلقًا به نحو العيش بفاعلية في الحاضر ومحاولة سبر أغوار المستقبل.
ولا شك في أن أدب الطفولة المبكرة هو الأكثر أهمية، إذا ما وضعنا في اعتبارنا مدى خطورة الدور الذي يقوم به تجاه أطفال تلك المرحلة الذين هم - بلا أدنى شك- أجدر بأن يكونوا في قلب اهتمام الأدباء والشعراء والمسرحيين والقائمين على المؤسسات التربوية؛ ذلك أن طفل المرحلة المبكرة هو اللبنة الأولى في بناء أي مجتمع، وهو أول نقطة ضوء تسهم في هداية أية أمة والسراج الذي يأخذ بيد بقية أفرادها نحو المستقبل المشرق.
والأطفال وبخاصة في تلك المرحلة أكثر عرضة للوقوع في شرك ما يعتري الصورة المقروءة أو المرئية من عيوب، ومن ثم فإنهم بحاجة إلى من يبصرهم بألا يكتفوا بما يشاهدونه أو يتلقونه، بل إن عليهم الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك والوصول إلى مرحلة التفكير في مغزى النصوص، بل إلى ما وراء ذلك والتفكير فيما هو أبعد؛ عبر تحسين عملية التلقي لدى الطفل ليتمكن من اكتساب مهارات تمكنه من التفاعل مع تحديات العصر دون أن يفقد ذاتيته وخصوصيته الثقافية، أو بمعنى أكثر دقة أن يصبح مواطنًا عالميًا محتفظًا بهويته ومنفتحًا في الوقت ذاته على الثقافات المتعددة.
ويبقى الأدب على الرغم من تعاقب الأزمان واحدًا من أهم المصادر التفاعلية التي يمكن من خلالها الولوج إلى عقل الطفل ووجدانه منذ مراحل حياته المبكرة؛ ذلك أنه دائمًا ما يكون بحاجة إلى مثير يتفاعل معه ويصبح قادرًا -عبر التلقي من خلاله- على أن يصير فردًا متفاعلًا مع الحياة على تنوع مجرياتها وشريكًا فاعلًا فيها.
إن صفة (التفاعلية) ليست مقتصرة فقط على الأدب الرقمي بل إنه يمكن تحقيقها في أشكال الأدب كافة؛ إذ إن التفاعلية هنا تعني أن يكون الطفل المتلقي قادرًا على أن يعيش حالة من الشراكة مع المبدع وألا يقتصر دوره على التلقي السلبي بل ينبغي أن يكون مساهمًا في صنع النص ومتفاعلًا معه أيًا كان شكله أو الوسيط الذي يقدم من خلاله؛ حيث يتيح الأدب التفاعلي للأطفال فرصة الحوار الحي المباشر، وذلك من خلال المواقع التي تقدم النص التفاعلي.

ويعد أدب الطفل في العصر الرقمي -عصر ما بعد الثورة الصناعية الرابعة والميتافيرس- أمرًا ملحًا لخلق المواطن العالمي الواعي بتراثه في ظل حالة من الانصهار الكبير بين الصوت والصورة وهو ما أحدث صعوبة كبيرة في التمييز بين ما هو واقعي وما هو خيالي، لذا تعد الوسائط المتنوعة -بصورها المسموعة والمرئية والمقروءة- في القرن الحادي والعشرين مدخلًا تربويًا يمكن أن يسهم في تنشئة الطفل على المواطنة الرقمية، وتكوين طفل يتجاوز مجرد قراءة ما هو مكتوب أو مشاهدة المرئي إلى تحليله، وإعادة إنتاجه وتطبيقه بوصفه ممارسة حياتية.
ولقد فرضت التكنولوجيا وجودها الهائل على الإنسان، حيث سهلت عمليّة الاتصال والتواصل بين الأفراد في مختلف المجتمعات، وجعلت من العالم قرية صغيرة يسهل التواصل بين أفرادها في أيّ وقت، وفي أيّ زمان ومكان، ومن ثم فهي تسهم بشكل فاعل في تنشئة الأطفال.
لقد كان لانتشار الثورة الرقمية أثره الكبير الذي شمل مناحي الحياة الثقافية والعلمية المعاصرة؛ الأمر الذي بات لزامًا على الجميع -في ظل ذلك- ضرورة التأقلم مع الوسائط الرقمية، ومن ثم لم يعد بمقدور الإنسان الاستغناء عن هذا الوسيط الافتراضي، كما أن الأدب لم يسلم من تأثير التكنولوجيا الرقمية، بعد أن كان مقتصرًا على الواقع المادي المحسوس فانتقل إلى الواقع اللامادي الافتراضي، ليصبح أكثر تطورًا بفضل المؤثرات الرقمية (السمعية والبصرية) التي يقدمها عبر الوسائط المختلفة منتقلًا بالحالة الأدبية من مجرد الاكتفاء بممارسة الأدب باعتباره عملًا يقوم على التواصل المباشر، والحي إلى مرحلة يتم فيها عبر المنصات الافتراضية.
ومع نشأة أجيال جديدة من الأطفال المولعين بالألعاب الإلكترونية، والذين يمتلكون مهارات غير مسبوقة في التعامل مع العالم الإلكتروني، ومع ازدياد هذه المهارات جيلاً وراء جيل تماشيًا مع التطور التكنولوجي ذاته، وكما يدور حديث عن أن المستقبل سيكون للكتاب الإلكتروني بديلاً عن الورقي، بالنسبة للكبار، حتى وإن ظلّ للأخير محبوه والمتعلقون به، فإن الأمر في حال الأطفال مختلف إلى حد بعيد؛ كون أطفال اليوم لا يملكون ذاكرة العلاقة مع الورقي التي يمتلكها الكبار، فهم ينمون ويكبرون في تعامل مباشر مع كل ما هو إلكتروني.
يبقى أن المهم هو تلقي المعرفة واكتسابها، بقطع النظر عن الطرق والوسائل، ويمكن أن تكون وسائل التقنية الحديثة هي التي ستؤسس معارف الأطفال، ربما بطريق أسرع مما كان عليه مع الوسائل التقليدية، لكن يظل السؤال حول محتوى ما يقدّم من مواد ومعارف لهم عبر تلك الوسائل، فهل هي فعلاً تغرس القيم والآراء السويّة التي كان أدب الأطفال الورقي، يقدّمها، أم أنها على العكس من ذلك تهدف إلى إيصال رسائل قصدية بوساطة منتجيها وصانعيها؟
لقد صار بمقدور الذكاء الاصطناعي أن يكون بديلًا عن الإنسان الحي بل إن ثمة محاولات لإقصاء العنصر البشري ليحل الذكاء الاصطناعي بآلياته وتقنياته عوضًا عنه، فصار من الممكن تأليف كتاب للطفل في دقائق قليلة، ومن هنا فقد صرنا بحاجة إلى التصدي لمحاولة الإجابة عن الأسئلة التالية هل يغني الذكاء الاصطناعي عن كون أدب الطفل وسيطًا يعتمد على التفاعل الحي؟ وهل كان وجود الذكاء الاصطناعي في العمل الأدبي المقدم للطفل عاملًا لإقصاء العنصر البشري؟ وهل يمكن الجمع –في عمل واحد نقدمه للأطفال– بين الأدب الإنساني بوصفه تفاعليًا والأدب المستند إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي؟ وكيف يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في أدب الطفل بما يحقق استدامة التعلم مع الحفاظ على خصائص الأدب الحي؟
كل هذه الأسئلة وغيرها كثير تظل مطروحة على طاولة المختصين في محاولة جادة لتقديم إجابة يقتنع بها الكبار والصغار.