"مسرح اللّحظة" بين المسردية والميكروقصّة

نصّ "انقلاب" لعزّ الدّين جلاوجي مثالًا

د. سيدي مُحمَّد بن مالك


نسعى، في هذا المقال، إلى محاوَلة تجنيس نصّ واحد من بين جملة من النّصوص التي دبّجها الأديب العربي الجزائري عزّ الدّين جلاوجي تحت مسمّى فرعي هو "مسرديات قصيرة جدّاً" في مُؤلَّفه الموسوم "مسرح اللّحظة"، والذي يعبِّر، فيه، عن طموحه الأدبي (من خلال الإبداع)، والنّقدي (من خلال التّنظير) في تجاوُز الفهْم الرّائج لتصوُّر المسرح، ذلك الذي لا ينبغي له أن يستغنيَ عن الخشبة تجسيداً من قِبَلِ الممثِّلين وتجاوُباً من لدن المشاهدين.

إنّ المسرح الذي يريده الكاتب هو مسرح الحياة المتغيِّرة التي لا تكاد تثبُت على حال، ومسرح الإنسان الذي تعتريه أهواء وخواطر لا تهدأ ولا تهادِن، ومسرح اللّحظة العابرة التي تترك أثراً جميلًا يعلَق في النّفس لا يبرحها، أو تخلِّف جرحاً لا يندمل ووشماً لا ينمحي، ومسرحاً لا يعترف بتخوم الزّمان والمكان، ويتعالى على إكراهات التّأثيث الرّكحي.

يقول عزّ الدّين جلاوجي: "مسرح اللّحظة هو مسرحٌ يقتنص اللّحظة التي يمكن أن تقول الزّمن طويلًا، محاولًا أن يختصر كلّ ما يقيمه أيضاً، إنْ على مستوى الشّخصيات أو على مستوى السينوغرافيا. ومعنى ذلك، فهو مسرح يتمرّد على الخشبة، يمكن تقديمه في أيّ مكان؛ في الشّارع والبيت والمقهى والشّاطئ وحتّى القطار والطّائرة، كما يمكن أن يقوم به كلّ من امتلك شيئاً من الجرأة والموهبة. إنّه مسرح الإنسان كيفما كان وأينما كان"1.

ومن أجل تجنيس هذا النّص المسردي القصير جدّاً، يجب الوقوف، برهةً، عند المفهوم الذي يحيل إليه العنوان الفرعي، وهو عنوانٌ يؤلِّف بين مصطلحيْن اثنيْن؛ أوّلهما، ظاهر وجليّ في مبناه ومفهومه وهو (مسرديات)، وثانيهما ملتبِس ومشكِل في دالّه لا يمكن اكتناه مفهومه إلّا بعد استشفاف خصائص وسمات ما قبله، وذلك باعتباره واصفاً (قصيرة جدّاً) لموصوف (مسرديات).
 

1 – في مفهوم المسردية

المسردية، كما وردت في الخاتمة النّظرية للنّصوص التي بين أيدينا، مفردة خاصّة منحوتة من مصطلحيْن، هما المسرح والسّرد؛ فأمّا المسرح، من الفعل "مَسْرَحَ"، فهو عمل يحوِّل المشهد المكتوب إلى مشهد ممثَّل تتلقّفه العيون والآذان، وأمّا السّرد، من الفعل "سَرَدَ"، فهو عمل يُجري المرويّ في الخطاب؛ فتستقبله العيون إذا كان ذلك الخطاب مكتوباً مثل القصّة والرّواية، أو تلتقطه الآذان إذا كان شفوياً مثل الحكاية والنّكتة، على الرّغم من أنّ الفعل "سَرَدَ" يفترض استقبالًا عن طريق السّماع لا عن طريق العيان كما يفترضه الفعل "كَتَبَ"؛ فبين السّرد والكتابة بوْنٌ لا يضاهيه سوى البون بين الإنشاء تلفُّظاً ونطقاً والإنشاء تسطيراً وتأليفاً. وذلك ما ذهب إليه البنيويون، أو بعضهم على الأقلّ، حين ميّزوا بين السّرد الذي يُراد به فعل الحكي والقصّ والرّواية، وبين الكتابة التي يُقصَد بها فعل النّسْخ والتّدوين والتّدبيج؛ فالأوّل؛ أيْ السّرد، يدعو إلى استحضار السّمع لاقتفاء ما اقتفاه الرّاوي، والثّانية؛ أيْ الكتابة، تدعو إلى إعمال البصر لتتبُّع ما سطَرته أنامل الكاتب. غير أنّ الهوّة بين التّلفُّظ والتّأليف ستتقلّص في حضرة الكتابة التي ستشرع في النّفاذ، شيئا فشيئاً، إلى الأنواع السّردية، مثل المقامة والقصّة والرّواية، والمسردية نفسها التي تأخذ من جنس السّرد أو المحكي (Le récit) أهمّ عناصره، وهي ثلاثة؛ الحكاية (L’histoire) والخطاب (Le discours) والسّرد (La narration)، حيث يتلاشى البوْن بين السّرد – الإنصات والكتابة – القراءة؛ أيْ بين استحضار السّمع وإعمال البصر.

وقد اهتدى عزّ الدّين جلاوجي إلى مفردته الخاصّة المنحوتة تلك، بعد أنْ ألفى المتلقّيَ يُقبِل على العرض المسرحي ويغفل عن النّص الذي أنشأ ذلك العرض، مع ما يستتبع ذلك من رغبة هذا المتلقّي في مشاهَدة الفعل على الرّكح، ومعايَنة التّجسيد فوق الخشبة ورغبته عن القراءة والاستماع إلى النّص الذي يستدعي ذلك الفعل وذلك التّجسيد، وبعد أن استشعر "خطر" السّرد الذي بدأ يفرض سلطانه على الإبداع والنّقد معاً، إلى درجة أن أصبحت الرّواية مصدراً للعروض المسرحية والأفلام السّينمائية نفسها، وفلكاً تحوم حوله النّظريات والدّراسات النّقدية. يقول الكاتب: "لم تراودني فكرة التّجريب في النّص المسرحي إلّا بعد معايَشة ميدانية، تأليفاً للمسرح إبداعاً ونقداً، وتدريساً له في مُدرَّجات الجامعة. وقد لاحظت العزوف الكبير عن تلقّي نصوصي ونصوص غيري من أساطين المسرح العربي والغربي قراءة ونقداً، في وقت تشهد فيه الرّواية ومنها نصوصي إقبالًا شديداً، ممّا حتّم التّفكير في البحث عن طريقة جديدة لكتابة النّص المسرحي كتابة تمنحه جواز العبور إلى قلب القارئ دون أن تُبعِده عن المسرح، ودون أن تصدّ المخرِج والممثِّل وغيرهما من أركان الفرجة عن التّعامُل معه. وكان أن خضت غمار كتابة نصوص جديدة بطريقة مختلفة ظاهرها السّرد وباطنها المسرح، ظاهرها يغري بالقراءة وجوهرها يغري بالفعل والتّجسيد؛ فلمّا رأيت الإقبال عليها كبيراً، وقد كسَّرت أفق التّلقي لدى القارئ، أعدت صياغة نصوصي المسرحية السّابقة كلّها بذات الطّريقة الجديدة. وهذا حتّم عليّ البحث عن مصطلح لهذا المولود الجديد؛ فكانت المسردية مصطلحاً منحوتاً من المسرح والسّرد"2.

لا شكّ أنّ اهتمام عزّ الدّين جلاوجي بالمسرح، تأليفاً ودراسةً وتدريساً، قد حملَه على السّعي إلى تطوير أب الفنون، أو ابن الفنون كما يسمّيه، عبر اصطناع مصطلح مكثَّف يجمع بين جنسيْن متمايزيْن، هما الدراما والسّرد، وإنْ كانت كفّة الدراما ترجُح كفّة السّرد؛ فالأولى، في النّص المسرديّ، أصلٌ أصيلٌ سابقٌ، والثّاني فرعٌ دخيلٌ لاحقٌ. ذلك ما تشهد عليه نصوصه المسردية الموسومة "أحلام الغول الكبير"، و"البحث عن الشّمس"، و"مملكة الغراب" التي يضفي عليها ضرباً من السّردية (La narrativité) المحفِّزة إلى القراءة والتّواصُل والتّفاعُل، دون أن يسلبها أهليّتها للعرض على خشبة المسرح. ومن ثمّ، ينهض النّص المسرديّ على مهيْمِنتيْن رئيستيْن تراتُبيتيْن؛ مهيْمِنة التّمثيل (La représentation) التي تُعَدُّ ركناً ركيناً في النّص المسرحي، ومهيْمِنة السّرد التي تُعَدُّ، هي الأخرى، مكوِّناً جوهرياً من مُكوِّنات النّص السّردي؛ فالأولى تجعل بعضًا من النّص المسرديّ محكيَّ أقوال ينقل كلام الشّخصيات، والثّانية تُصيِّر بعضه الآخر محكيَّ أحداث يقتفي أفعالها، من غير أن يعني ذلك خلوّ المسردية من محكيّ الأوصاف الذي يحدِّد، عادة، كينونات تلك الشّخصيات وحالاتها.

2 – في مفهوم الميكروقصّة

تقوم الميكروقصّة (La micronouvelle) على جملة من الخصائص والسّمات؛ بعضها بنيوي مثل الإيجاز والوضعية الابتدائية والوضعية النّهائية والمظهر الجدالي، وبعضها جمالي نظيرَ التّكثيف والإخفاء والمفارَقة والتّرابُط الأجناسي والنّزوع السّحري، وبعضها معرفي؛ فهي تضطرب بين الإيغال في الواقعية من خلال سرد تفاصيل الحياة اليومية والإمعان في الرّمزية عبر استخدام الاستعارات والتّلميحات. وقد اخترنا مصطلح الميكروقصّة من بين مصطلحات كثيرة تدلّ على ذلك النّص السّردي الوجيز وهو القصّة القصيرة جدّاً التي تتّخذ، بوصفها نوعاً جامعاً، أشكالًا كثيرة، لا لبعدها البنيوي، حسْب مبتكرها وهو الكاتب الكَنَدي الكيبيكي لورون برتيوم (Laurent Berthiaume) من حيث إنّها تتكوّن من مائة كلمة أو أقلّ، بل لأنّها تتأسّس، في اعتقاده، على "تناغُم المعنى والعاطفة اللّذيْن تنقلهما تلك الكلمات"3. إنّ الذي يهمّ في تأليف القصّة القصيرة جدّاً، عامّة، ليس الإيجاز الذي يرتبط بعدد معيّن من الكلمات؛ فذلك أمرٌ اختلف فيه الكتّاب والنّقاد على حدٍّ سواء، بل تكثيف ما يُكتَب، بحيث يعمد القارئ إلى استبطان المسكوت عنه واستنباطه.

ولا غروَ إنْ نحا "مسرح اللّحظة" نحوَ الميكروقصّة، بعد أنْ اتّخذ المسردية أسلوباً في تقديم الفكرة؛ فقد سعى عزّ الدّين جلاوجي، على المستوى البنيوي، إلى إيجاز مسردياته؛ إذْ لم تتعدّ، في مجمَلها، خمس صفحات، ومضى، على المستوى الجمالي، إلى توظيف التّكثيف والإخفاء والمفارَقة والعجيب فضلًا عن التّهجين الأجناسي القائم على المزْج بين الدراما والسّرد والوصْف، وحاول، على المستوى المعرفي، تصوير الواقع في جزئياته الدّقيقة. يقول الكاتب عن "مسرح اللّحظة": "... وهو مسرحٌ يقوم على التّكثيف مكاناً وزماناً ولغة وشخصياتٍ ومشهداً وعرضاً وسينوغرافيا [...]، ثمّ هو، إضافة إلى ذلك، يمكنه أن يحقِّق الإغراء بالقراءة؛ إذْ لا يكاد يختلف عن القصّة القصيرة جدّاً إلّا من زاوية إمكانية تجسيده، لينتقل من خاصية الحكي التي للسّرد إلى خاصية الفعل التي للمسرح"4.

3 – قراءةٌ في نصّ "انقلاب"

يبدو، من كلام الكاتب عزّ الدّين جلاوجي، أنّ "مسرح اللّحظة" لم يأخذ من المسردية سوى الاسم الدّال على الموصوف، وأنّ الميكروقصّة، باعتبارها واصفاً، قد هيمنَت، بخصائصها وسماتها، على طريقة كتابة ذلك المسرح. لذلك، سنحاول قراءة نصّ "انقلاب" في ضوء تلك المستويات الثّلاثة التي تمثِّل تركيب الميكروقصّة، دون أن نضرب صفحاً، أثناء القراءة، عن طبيعة المسردية ذاتها.

3 – 1 – على المستوى البنيوي: يتألّف نصّ "انقلاب" من ثلاث صفحات ونصف تقريباً، بالنّظر إلى حجم الكتاب المتوسِّط. وهو، من ثمّ، يستجيب، لشروط كتابة المسردية والميكروقصّة في آنٍ واحدٍ؛ فهو نصّ موجَز في بنيته التّمثيلية والسّردية والوصْفية، وإنْ كان نصيب الدراما أكبر من نصيبيْ الحكي والوصْف المتداخِليْن في بعض الأحيان، ونواته حكايةٌ تبتدئ بحالة (الحيرة) وتنتهي بأخرى (الإغماء)، وبين الحالتيْن مجموعة من التّحوُّلات السّردية الدّالة على الصّراع بين المعقول (الطّبيعة) واللّامعقول (المسخ) والممثَّلة حينا (المشهد) والمسرَّدة حيناً آخر (الحدث).

3 – 2 – على المستوى الجمالي: يركَن نصّ "انقلاب" إلى التّكثيف ركوناً تامّاً، من حيث الشّخصيةُ (شخصيتان نكِرتان اثنتان) والمكانُ (الحديقة) والزّمانُ (هو، في الواقع، لازمان، لأنّه غير محدَّد بدقّة) والمشهدُ (جمل حواريّة مقتضَبة)، كما يبيِّنه الحوار الآتي:
"- هل تعرف يا رفيقي؟
- ما أعرف؟
- قلبي يدقّ.
- وهل قلبي متوقِّف؟
- أعرف. لكن، دقّات قلبي مختلفة.
- لِمَ؟
- لأنّها دقّات عاشق"5.

والسّردُ الذي ينهض على إخفاء (Ellipse) مُدَد زمنية سابقة أو لاحقة؛ إذْ لا وجود إلّا للّحظة الرّاهنة، وحجْب (Paralipse) معلومات تتعلّق بالشّخصيتيْن. كما يعتمد نصّ "انقلاب" على المفارَقة التي تتبدّى في ذلك الارتباك بين المعقول واللّامعقول؛ فحين تبدِّد الشّخصية حيرتها من انقلاب الكراسي والأشجار وأعمدة الكهرباء والممرّات والحيوانات والطّيور وتتأكّد من عدم تحوُّلها هي أيضاً، تتفاجأ بمسْخ أعضاء رفيقها وتحليقه في السّماء. وهو ما يضفي على المسردية بعداً عجائبياً، وينزاح بها عن الواقعية المبتذَلة التي تستند إلى التّصريح والإبانة إلى الواقعية السّحرية التي تقوم على التّلميح والإضمار.

3 – 3 – على المستوى المعرفي: ينفتح نصّ "انقلاب"، شأن كلّ نصّ سردي موجَز، ولارتكازه إلى السّردية والتّكثيف والإخفاء والمفارَقة، على القراءات كلّها والتّأويلات جميعها. ولأنّ النّص يتلبّس بالعجيب، فإنّ استبطان غير المقول (Le non-dit) واستنباطه يتضاعَفان، ذلك أنّه كلّما جنَح النّص، بوصفه مقولًا (Le dit)، إلى الحكاية والأسطورة وانصرف إلى الرّمز واللّامنطق، كان مجالًا خصباً للفهم والتّحليل والتّفسير.

إنّ "انقلاب"، الذي يمثِّل عيِّنة من "مسرح اللّحظة"، نصٌّ هجينٌ يقف في مفترَق الطّريق بين المسردية التي يستوحي منها الكاتب مهيْمِنتيْ التّمثيل والسّرد، والميكروقصّة التي يستمدّ منها الإيجاز والسّردية والتّكثيف والإخفاء والمفارَقة والعجائبية والرّمزية للتّعبير عن واقع مبتذَل بشكل غير مبتذَل.

 


الهوامش: 
1. عزّ الدّين جلاوجي: "مسرح اللّحظة؛ مسرديات قصيرة جدّا – مقدّمة نظرية ونصوص مسردية"، دار المنتهى للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الجزائر، ط. 1، 2017، ص: 10. 
2. المصدر نفسه، ص: 123. 
3. "القصّة القصيرة جدّا"، تأليف: لورون برتيوم، ترجمة: سيدي مُحمَّد بن مالك، مجلّة "الفيصل"، مركز الملك فيصل للبحوث والدّراسات الإسلاميّة، المملكة العربية السّعودية، العددان 537 و538، يوليو وأغسطس 2021. 
4. عزّ الدّين جلاوجي: "مسرح اللّحظة؛ مسرديات قصيرة جدّا – مقدّمة نظرية ونصوص مسردية"، ص: 125.
5. المصدر نفسه، ص: 86، 87.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها