البحث عن السعادة في السينما العربية

من الكلاسيكيات حتى "حرب الفراولة"

طارق إبراهيم حسان


تعدّ ثيمة السعادة من الثيمات المحببة لدى جمهور السينما، فهي تداعب المشاعر، وتحرك الخيال، وتأخذ المشاهد إلى عالمٍ ساحر يتمنى تحققه على أرض الواقع، لا سيما عند ارتباط ذلك بتوفر المال، والخلاص من الفقر، فيكون التحليق في آفاق الثراء بعيدًا وماتعًا، حيث الحياة الرغدة والأبهة في مختلف مناحي الحياة. على الرغم من أن تحقيق السعادة ليس بالضرورة في توفر المال.
 

استطاعت الأفلام التي تناولت هذه الثيمة، أن تحقق نجاحاً جماهيرياً وقبولا لدى النقاد، خاصة في كلاسيكيات السينما، التي ما زالت تلقى الاهتمام حتى الآن رغم مرور سنوات بعيدة على إنتاجها. وقد تمحورت هذه الأفلام حول سبل تحقيق السعادة، وجاء المال في مقدمتها، إذ ارتبطت الأحداث بسعي الشخصيات لتحقيق هدفها من خلال ثنائية الفقر والثراء، كما في أفلام مثل "لو كنت غنياً" 1942، و"مليون جنيه" 1953، و"الفانوس السحري" 1960، وكثير من أفلام الريحاني التي انتقدت الفقر وارتكزت على أثر المال على حياة الشخصيات وتبدل مصائرها.

 

أثر المال على الشخصيات

كشفت هذه الأفلام وغيرها عن أثر المال على حيوات الشخصيات، لاسيما الشخصيات التي تعيش فقراً مدقعاً وتظن أن المال هو ملاذها الأبدي لتحقيق الراحة والاسترخاء بعد عناء الفقر، وعند وصولها للمال، تنقلب حياتها وتتحسر على الماضي الذي ارتبط بالفقر وتتمنى عودته، ذلك أن الثراء لا يحقق السعادة. في فيلم "جري الوحوش" 1987، من إخراج علي عبد الخالق، تبحث الشخصيات المحورية عن سعادتها رغم امتلاكها للكثير، الطبيب (حسين فهمي) يبحث عن مجد خاص من خلال تحقيق إنجاز علمي غير مسبوق، والثري (نور الشريف) عقيم يبحث عن تحقيق حلمه بالإنجاب، والرجل الفقير (محمود عبد العزيز) يغريه المال فيبيع جزءاً من جسده فيخسر صحته، وفي النهاية الثلاثة يخسرون.

تحيل المقولات والمفاهيم الفلسفية إلى رؤى أكثر التصاقاً بالواقع، وهو ما عبرت عنه السينما في أحيان كثيرة، ومنها ما ذكره أفلاطون، على سبيل المثال، بأن السعادة تكمن في فضائل الأخلاق والنفس؛ كالحكمة والشجاعة والعدالة والعفة، وغيرها من مبادئ المدينة الفاضلة التي أنشدها، أيضاً ما أكده أرسطو في حديثه عن السعادة بأنّها هبة من الله، وقسمها إلى الصحة البدنية، والحصول على الثروة وحسن تدبيرها واستثمارها. ويشير الأديب والفيلسوف الروسي دستويفسكي إلى أنها "وليدة حب لا منتهي، وليس الطعام والثياب أبدًا".

تأثير الفلاسفة على محتوى الأفلام

إذا نظرنا إلى المقولات الثلاث وتأثيرها على السينما لوجدنا أنها صبغت المحتوى الفيلمي لكثير من الأعمال برؤى فلسفية أقرب إلى الواقع؛ إذ لم تخرج جل مضامين الأفلام عن ذلك. غير أن أحداث الأفلام في كثير من الأحيان تأثرت بشكل خاص بمقولتي دستويفسكي، وأرسطو، اللتين ارتبطتا بالصراع من أجل الحب، والصراع من أجل المال لتحقيق حياة مبهجة، فأيهما يكون أقدر على التحقق في صراع الشخصيات، الحب أم المال؟

لقد جنحت السينما إلى رأي دستويفسكي، وعبرت كثير من الأفلام عن ارتباط السعادة بوجود المحب المخلص أو الأسرة التي في رباط. ورفضت غالبية الأفلام الانسياق خلف فكرة أن الثروة تحقق كل شيء. فيلم "أمير الانتقام" 1950، على سبيل المثال، المأخوذ عن رواية "الكونت دي مونت كريستو" لألكسندر دوما، وإخراج هنري بركات، تناول حياتين مختلفتين عاشهما البحار، الأولى في فقره وكان سعيداً بها، والأخرى عاشها تعيساً رغم الثراء، حيث أعانه المال على الانتقام من أصحابه الذين خانوه. الانتقام بالطبع لا يحقق الحبور للإنسان، بينما يحققها التسامح والحب. وفي فيلم "الغريب" 1956، من إخراج كمال الشيخ وفطين عبد الوهاب، والمأخوذ عن رواية "مرتفعات ويذرينج" للكاتبة إيميلي برونتي، وتقوم أحداثه أيضاً على ثيمة الانتقام. ولم يتحقق الانتقام لصاحبه إلا عندما امتلك المال.

طرحت بعض الأفلام رسالة حول مسألة الثراء، وكيف يمكن للمال أن يكون سبباً في تعاسة الإنسان، وبالتالي لا يمكن اعتباره، أي المال، الحل الأمثل لتحقيق السرور، وقد عبرت عن هذه الإشكالية أفلام مثل "سفير جهنم" 1945، و"خاتم سليمان" 1947، و"موعد مع إبليس" 1955، و"الغريب" 1956، و"هذا الرجل أحبه" 1962، وغيرها. فقد حققت الشخصيات المحورية في هذه الأفلام الثراء، لكنها لم تشعر بالسعادة، إذ لا يمكن أن يكون المال وحده كفيلًا لتحقيق الارتياح للإنسان، بل هناك أفلام قدمت الحب على المال في بحث الشخصيات عن السعادة.
 

"حرب الفراولة" البحث عن الأمل

يأتي فيلم "حرب الفراولة" عام 1994، من إخراج خيري بشارة، كأحد أهم الأفلام التي تناولت هذه الثيمة، وتشير أحداثه إلى أن السعادة ليست بالضرورة في المال؛ إنما تحققها وجود الأسرة وبساطة العيش. ويجمع الفيلم بين عنصري الفقر والثراء، ليكشف عن القلق الذي يعيشه الثري بسبب غياب الأسرة والأبناء، أو غياب المحبوب. ويمثّل الجانبان كل من: ثابت بيه (سامي العدل) الذي يشعر بالفراغ، ولا يرى أي سبب لحياته منذ رحيل ابنه غرقا. مما يجعله يعيش حزناً كبيراً رغم الثراء والأبهة وتوفر الحياة الرغدة.

يرى كل من جان جاك روسو والفيلسوف وعالم الموسيقى الفرنسي فلاديمير يانكليفيتش أن السعادة كامنة في الشعور بالرغبة وليس في بلوغها، السعادة عابرة نزوية غير متوقعة. ويقدم شوبنهاور رؤية مخالفة تضع حداً لرحلة بحث الإنسان المستميتة عن السعادة. كلمة السر بالنسبة لشوبنهاور هي الملل. والملل هنا هو غياب السعادة، وهذا هو الشعور الذي يلازم ثابت بيه.

قيمة الحياة البسيطة

أما حمامة (محمود حميدة) البائع المتجول والفقير الذي لا يشعر بقيمة الحياة البسيطة التي يعيشها مع المرأة التي يحبها، بسبب الفقر والتشرد وصعوبة الحصول على الرزق، وهو يبحث أيضاً عن السعادة من منظور مختلف، هو الحصول على المال.

يلتقي الطرفان وينبهر كل منهما بحياة الآخر، فيتفقان على أن يحقق حمامة السعادة لثابت بيه مقابل مبلغ من المال وشقة، ويتحرر عقد بينهما يُلزم حمامة بعمل كل ما يطلبه ثابت من أجل إسعاده، في إشارة إلى عبثية الفكرة. وقد أضفت ثنائية الفقر والثراء بعداً آخر، كاشفًا، لقيمة السعادة التي يعيشها الفقراء رغم عدم امتلاكهم للمال، وعبر المخرج عن أبعاد الإشكالية من خلال رؤية فنية مختلفة مع طرائق الطرح النمطية.

يقوم حمامة بمساعدة من زوجته فردوس (يسرا) بعدة مغامرات بحثاً عن تحقيق مبتغى ثابت بيه، لكنه يفشل في كل مرة ولم يحقق شيئاً، وعلى الرغم من تنكر الاثنان في زي النساء، وقيامهما بالسطو على بنك، وعاشا معاً حياة الانعزال في أحد الأماكن الساحلية، ثم الزجّ بحمامة إلى صراع الانتخابات، وفي كل المحاولات لم يجد ثابت بيه ما يبحث عنه، ليكتشف في نهاية الأمر أن مبتغاه لن يتحقق إلا في وجود الأسرة.

يراعي المخرج تكثيف الحدث والنأي عن المقدمات، فيبدأ بحياة حمامة وعمله كبائع متجول، ويتعرف عليه ثابت بيه وينبهر بحياته الغريبة وحكاياته التي يراها كعالم مسحور أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، مما يجذبه أكثر إليه وإلى عالمه. وتنشأ بينهما صداقة تقوم على نوع من النفعية، ثم زيارة إلى فيلا ثابت فينبهر البائع الفقير بحياة ثابت وبيته، وحالة البذخ والثراء التي يعيشها. لذلك لم يجد ثابت صعوبة في إقناع حمامة بفكرة عقد السعادة الذي قاما بإبرامه.

دلالات الاسم ورمزية الحدث

يحيل اسم الزوجة "فردوس" إلى دلالة مهمة، وهي الجنة والنعيم فلم يأت الاسم بالصدفة، بل للإشارة إلى أن السعادة غالباً ما تتحقق في المحبوب والأسرة، وفطن ثابت إلى ذلك فقرر أن يتزوجها. ويلاحظ أنها عُرفت طوال الفيلم باسم فراولة، فقد اعتاد حمامة أن يدللها به، وعُرفت الفراولة في الميثيولوجيا الإغريقية رمزاً للنقاء والعفّة في العلاقات العاطفية، والكمال والاستقامة والصلاح. بينما في الفيلم راقت لها حياة الثراء بعدما انشغل زوجها بلعبة الرجل الثري، ورغم تحذيراتها له، إلا أنها وافقت على الزواج منه، فهي بالطبع تبحث هي الأخرى، وبطريقتها، عن حياة أخرى أكثر دفئاً ورخاءً.

بحث خيري بشارة عن ثيمة السعادة أيضاً في الفيلم الروائي القصير "يوم الحداد الوطني في المكسيك"، حيث كان الحب هو ملاذ الشخصيات وسبب إسعادهم. وعلى الرغم من قصر مدة الفيلم (35 دقيقة)، إلا أنه استطاع أن يقدم رومانسية الجيل الجديد الباحث عن الحب والذي لا يمكن أن يحيا بدونه. قدم بشارة في هذا الفيلم فكرة عبثية؛ تقوم على منع الحب في مكان متخيل، فيتم منع كل ما يرمز للحب من قلوب حمراء وإشارات وبرامج تلفزيونية وإذاعية وروايات عن الرومانسية، لكن تقع حالة من التمرد والثورة، ويتم إعلان التحرر من الأفكار البائسة؛ لأن الحب مصدر بهجة وسعادة. وعلى الرغم من عبثية الفكرة إلا أنها لاقت نجاحاً وقبولاً لدى المشاهدين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها