الموت لا يخص الراحلين وحدهم، بل إنه الشيء الوحيد الذي يجمع بين البشر على حد تعبير الشاعر الإيطالي تشيزارى بافيزي في قصيدته "سيجيء الموت... وستكون له عيناك" (ترجمة: جمانة حداد، الدار العربية للعلوم، بيرت، 2007):
سيجيء الموت وستكون له عيناك
هذا الموت الذي يرافقنا
من الصباح إلى المساء..
***
لهذا؛ فإن من يرثي الآخرين، فإنه يرثي حاله في الوقت نفسه. ذلك أنه من المخيف أن تكون راثياً، ومن المرعب أن تكون مرثياً. إن الشاعر المتنبي على سبيل المثال، لم يرث أحداً قط إلا ومدح نفسه، ولم يمدح أحداً قط، إلا من أجل مدح نفسه، بل بجل تاريخه، وذكر محاسنه، ووضع هذا الغائب/ الراحل عالياً لأنه جزء منه. لكن بعض المراثي تكون مخالفة لهذه الرؤيا. لكونها تعمل على استحضار أهل الإبداع والفن وغيرهم ممن رحلوا، لكنهم تركوا أثرهم في الراثي/ الكاتب، أو تركوا بصمة إنسانية في حياة من رافقهم أو ارتبط بهم في حياتهم.
في هذا الإطار العام، يندرج الكتاب الأخير ''حقائب خفيفة للراحلين'' للكاتب العماني محمود الرحبي، الصادر في طبعته الأولى عن منشورات الآن ناشرون وموزعون بعمان (الأردن)، وبتعاون من الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بمدينة مسقط (سلطة عمان)، 2024، في 112 صفحة من الحجم المتوسط. يتضمن هذا العمل جملة كبيرة من الرثاءات لمجموعة من الأدباء والكتاب والفنانين، وشخصيات أخرى لعدد من الراحلين من مختلف البلدان العربية والأجنبية. حيث شمل كتاب ''حقائب خفيفة للراحلين'' رثاءات (32) شخصية مبدعة جميعهم يشتركون في حال الرحيل/الغياب، غياب يقترن بحضور وحياة الكاتب محمود الرحبي، ومدى علاقته بهم مباشرة، أو من خلال قراءة أو ذكرى معينة. لكن على الرغم من هموم الحياة والواقع العربي التي أثقلتهم، فجميعهم رحلوا بحقائب خفيفة، هي أوراق أو مواقف تتبادلها ذواكر كل من عاصروهم قراءة وكذا حياة (عبد الله الحارثي، عبد الله الوهيبي، حسن بوس، محمد نظام، مبارك العامري، محمد الحارثي، عبد العزيز الفارسي، ثاني السويدي، شاكر عبد الحميد، صباح فخري، حسن الفارسي، أمجد ناصر، إدريس الخوري، صالح شويرد، موسى عمر، غسان كنفاني، فتحي عبد الله، أحمد المجاطي، مارادونا وماركيز وأبو بكر سالم، عبد الله الطائي، فريد رمضان، سركون بولس، نجيب محفوظ، سعود الدرمكي، بها الدين الطود، إلياس فركوح، بهاء طاهر، ميلان كونديرا، ماركيز).
وهذه الرثاءات لم تشمل الراحلين في بلد عربي واحد فقط، بل شملت مجموعة من المبدعين والأدباء العرب (سلطنة عمان، مصر، الأردن، المغرب، فلسطين، اليمن، الإمارات العربية المتحدة، سوريا، البحرين)، والأجانب (التشيك، الولايات المتحدة الأمريكية، أمريكا اللاتينية).
يفتتح محمود الرحبي مقدمة الكتاب بعدد من الأسئلة المرتبطة بعلاقة الكتابة بالرحيل وبالرؤيا الوجودية للحياة والكون. أبرزها: الكتابة عن الراحلين... هل هي كتابة مناسبات، أم الرحيل مناسبة الكتابة، وباعث الرثاء الأكثر عراقة في الوجود؟ هل يمكن أن تكون الرواية في أحد جوانبها وثيقة رثاء؟ هل حين كانوا بين ظهرانينا، كنا منشغلين بهم إلى الحد الذي يفجعنا رحيلهم؟ من خلال هذه الأسئلة الحارقة، وغيرها، عمل الكاتب محمود الرحبي على استحضار مجموعة من الأسماء التي تختلف من حيث الأزمنة والجغرافية، والأعمار، لكن تجمعهم حالة الغياب/ الرحيل. ربطتهم بالكاتب محمود الرحبي علاقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال كتابة/ إبداع بعضهم ومواقف البعض الآخر وأفكارهم. حيث تعددت المجالات الإبداعية لهؤلاء الراحلين. توزعت اهتماماتهم الإبداعية بين الرواية والشعر، والقصة والتشكيل والفن، والبحث العلمي، والبعد الإنساني في الحياة عامة.
يقول الرحبي في مقدمة كتابه: ''إن طرق الرثاء تنوَّعت وتلوَّنت وأخذت أشكالًا غير شعرية في عصرنا، وإن كان وصف المناقب يكون في صلبها، إلا أنها تمزجه بالعطاء، إذًا، الراحل صاحب نتاج ثقافي أو أدبي أو فني، أو يكون انطباعًا نتج عن أثر تركه في ذهن وذاكرة كاتبه. أحد أشكال هذا الرثاء مقالة انبثقت من لحظة فراق، أو أتت على هيئة رواية طويلة تستكنه تفاصيل الشخصية الراحلة، وتذهب إلى تخيُّل الاحتمالات والممكنات'' (ص: 5). وفي حديثه عن الرواية، يضيف محمود الرحبي متسائلاً: "هل يمكن للرواية أن تكون في أحد جوانبها وثيقة رثاء". ويرى أنه يمكن ذلك فيقول: "حين تبذر في ساحة موضوعها شخوصًا تركوا أثرهم في دنيانا قبل أن يغادرونا، بل إن أولئك المهمشين في روايات متخيَّلة عن أشخاص متخيَّلين محتمَلين، لا بد أنهم ذوات حلَّت في آخرين استثمرهم الكاتب لصالح مشروعه السردي، وأنهم بالتالي شخص قد صار شخصًا مرارًا (مع الاعتذار لأبي العلاء المعري). رحيل من كانوا معنا يعني أننا فقدنا أمل احتمالية أن نلتقيهم في أي صدفة مقبلة، أو فقدنا فسحة ذلك الأمل. هكذا يجيب الموت عادةً: "كانوا هنا والآن قد رحلوا"، ولكن حين كانوا بين ظهرانينا، هل كنا منشغلين بهم إلى الحد الذي يفجعنا رحيلهم؟ هذا سؤال آخر، ولكنه سؤال قاسٍ قد يتبادر إلى الذهن بسهولة. لكن الأمر في هذه الحالة لا يتعلق فقط بغياب مقابل حضور، إنما بالأمل، فمع الراحلين تُرك كل بصيص أمل وراءنا وإلى غير رجعة، على الأقل في الحياة التي نعيش (ص: 5، 6).
ويضيف محمود الرحبي في موضع آخر "عائلتنا الإنسانية الممتدة عبر جهات الأرض تجمعنا ببعضهم علاقات فيزيقية مباشرة، وبالبعض الآخر علاقات أثيرية من خلال ما نقرأ لهم إن كانوا كتَّابًا، أو ما نتذكره من فواصل في لقاءاتنا بهم سواء تلك الحميمية أم العابرة، تتجلَّى دفعة واحدة يوم رحيلهم، على هيئة صور أو كلمات أو أحلام أو رموز أو معانٍ. هذا أصفى ما يفعله الرحيل في نفوسنا، حين تتلاشى الحدود وتتصاهر المسافات، ويعود كل شيء إلى حالته الصفرية القارة" (ص: 6).

الراحلون وحقائبهم الخفيفة
حقائب الراحلين الذين أوردهم محمود الرحبي في هذا الكتاب، تملؤها إبداعاتهم وأفكارهم وعلاقاتهم الإنسانية. حيث تعددوا بتعدد اهتماماتهم وانشغالاتهم، التي توزعت بين الرواية والقصة والشعر والفن وانشغالات الحياة الإنسانية. ففي مجال الرواية، تناول محمود الرحبي مجموعة من الروائيين الذين تركوا أثراً في حياته أو في حياة متلقي مختلف أعمالهم الروائية: مبارك العامري (سلطنة عمان)، غسان كنفاني (فلسطين)، فريد رمضان (البحرين)، نجيب محفوظ (مصر)، بهاء الدين الطود (المغرب)، بهاء طاهر (مصر)، ميلان كنديرا (التشيك)، ماركيز (كولومبيا).
أما في مجال الشعر، فأورد الرحبي في هذا الجنس الأدبي، العديد من الأصوات الشعرية العربية التي كان لها وقعها الخاص على المتلقي العربي. وقد حصرها كالتالي: عبد الله الطائي (سلطة عمان)، سركون بولس (العراق)، علي المعمري (سلطنة عمان)، محمد الحارثي (سلطنة عمان)، ثاني السويدي (الإمارات العربية المتحدة)، أمجد ناصر (الأردن)، فتحي عبد الله (مصر)، أحمد المجاطي (المغرب). أما في مجال القصة، فاقتصر الكاتب محمود الرحبي في هذا الجانب على أسماء محدودة في هذا الجنس الأدبي، في حدود علاقته بها: عبد الله الفارسي (سلطنة عمان)، إدريس الخوري (المغرب)، إلياس فركوح (الأردن).
أما في مجال الفن والبحث العلمي، فاقتصر الكاتب في الجانب الفني مجموعة من الأسماء التي أنارت دروب الفن العربي: محمد نظام (سلطنة عمان)، صباح فخري (سوريا)، حسن الفارسي (سلطنة عمان)، صالح شويرد (سلطنة عمان)، أبو بكر سالم (اليمن)، سعود الدرمكي (سلطنة عمان)، موسى عمر (سلطنة عمان)، شاكر عبد الحميد (مصر).
وإلى جانب الإبداع، كانت حقائب البعض الآخر من الراحلين، حمالة لأبعاد ومواقف إنسانية. حيث أورد الكاتب محمود الرحبي إلى جانب هؤلاء المبدعين والفنانين وأهل البحث العلمي، أسماء أخرى، تميزت بعلاقاتها الإنسانية الخلاقة: عبد الله الحارثي (سلطنة عمان)، عبد الله الوهيببي (سلطنة عمان)، حسن بوس (سلطنة عمان). محدداً علاقاتهم الإنسانية مع الكاتب (محمود الرحبي)، ومع من تربطهم بهم علاقة بصفة عامة.