وسائل التواصل الاجتماعي

بين وهم الحرية وواقع التحكم والمراقبة

د. أنوار بنيعيش


أمام المد الرقمي السريع والغزو الكاسح لوسائل التواصل الاجتماعي للمجتمعات والأفراد، وتوغلها في مناحي الحياة الإنسانية المختلفة بوتيرة لم تسمح بالمراجعة والاحتفاظ بلحظات التأمل والاستكشاف والنقد، ظهرت أدبيات وكتابات مبالغة في التفاؤل تصدح بأهمية هذه الوسائط التي أدت إلى تحطيم جدران المراقبة والتحكم، وفتحت الباب على مصراعيه للتعبير الحر وتحدي السلط والديكتاتوريات ومواجهات المؤسسات الضاغطة وفضحها، بل وتحريك رياح الثورة والتغيير في أكثر الأنظمة تعنُّتاً وطغياناً خاصة بعد الانتصارات الجزئية التي حققتها بعض الجماعات عندما تحركت مستفيدة من هذه الوسائط سواء في مواجهة الحكومات أم في تحدّي اللوبيات وقوى ضاغطة أخرى ككبار الرأسماليين (حركة وول ستريت).


وسائل التواصل بين حماس البدايات وصدمة المآلات:

لقد مهَّدت هذه الرؤية لخطاب تجديدي يدعو إلى مزيد من تجييش الطاقات الكامنة في هذه الوسائط، وتوجيهها التوجيه السليم الذي يخدم المصلحة العامة، ويحقق الأهداف الإنسانية النبيلة البسيطة منها والأكثر توغلا في الطوباوية؛ فالمدُّ قادم وكل شيء ممكن ومتاح لاهتبال الفرص المتاحة عبر هذا الحركة الرقمية المباركة. وفي المقابل طرحت انحرافات بعض حركات التغيير والثورة التي أسهمت وسائط التواصل الاجتماعي في اشتعالها، وضعف الاستفادة الحقيقية للفئات الضعيفة والمهمشة والأكثر تفاؤلا وانفتاحاً على هذه الوسائط، والانتكاسات الاجتماعية والأخلاقية المتعددة في السنوات الأخيرة أسئلة عديدة حول مدى صحة هذا التوجه خاصة مع ازدياد تكريس الأوضاع السابقة، وترسيخ السلط والقوى الاقتصادية التقليدية وإن بصيغ جديدة وبتلوينات تمويهية... فهناك وجه آخر للحقيقة ظل خفياً وضعيف التداول بسبب غلبة الصيغ التفاؤلية والحماس الزائد لاستعمال الوسائط الاجتماعية بالزخم الذي سمحت به الرقمية المتسارعة؛ فأمام الظواهر الاجتماعية الجديدة غلبت على الجماهير العريضة الانطباعات الأولية والجوانب البارزة الظاهرة للعيان؛ بينما أثبتت التجارب والوقائع أن أعداداً غير يسيرة من هذه المظاهر خادعة اجتماعياً ولا تمثل إلا الجزء الطافي من جبل الجليد. وهنا، يأتي دور الأبحاث والدراسات العلمية من أجل الكشف عن الأبعاد الخفية للظواهر والانعكاسات المتعددة لها بنظرة متوازنة غير متسرعة تضع بين الموضوع والدارس مسافة كافية للتأمل والدراسة الموضوعيين.

كما أن النتائج الاجتماعية والسياسية لبعض الأحداث التي حركّتها أو أسهمت في تحريكها وبلورتها وسائلُ التواصل الاجتماعي لم تتَّضح معالمُها وأبعاد نتائجها كاملة إلا بعد انقضاء مدة على انطلاقها، مما ساعد على تكريس وهم الحرية، وهيمنة الوجه الإيجابي لهذه الوسائط في تطويرها. الشيء الذي استلزم مراجعات متأنية تعيد النظر في تلك الوقائع بعيون حذرة باحثة عن الحقائق الكامنة. يُضاف إلى ذلك تراكم سنوات من التفاعل مع هذه الوسائط والتمكن من استيعاب تعقيداتها التقنية وآليات عملها وتوظيف بعض الشركات والمؤسسات لها واستغلالها في بلورة الرأي العام والتحكم فيه والمساهمة في توجيهه لأغراض قد تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.

وسائل التواصل الاجتماعي والتحكم الخفي:

وبذلك، أشار العديد من الباحثين الجدد إلى أنّ الوسائط الإلكترونية الاجتماعية ليست، كما تبدو لنا في الظاهر، فضاءات حرّة مِطواعة للتعبير والتفكير، ومُتاحة للجميع على قدم المساواة؛ وإنما هي في جزء منها إيهام بالحرية بغرض الاستقطاب والتوجيه المَرِن للأفكار والقيم والمفاهيم، لتخفي بذلك قدرة كبرى على التحكم والمراقبة للجماهير والشعوب والجماعات والأفراد عبر خوارزميات مدروسة لا تترك مجالا للصدفة البريئة أو هامشاً ذا بال للمحاولة والخطأ.

إنها أداة هائلة أقوى مما نتصور تقوم على بيانات ضخمة توظفها محافل ذات أبعاد مختلفة تتراوح بين الشركات والمؤسسات والدول والتكتلات الدولية المحكومة بمصالح وإيديولوجيات خاصة. الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في هذه الوسائط وأدوارها ودرجة حضورها في المجتمعات عبر بحث مستفيض في الأبعاد المضمرة منها، ويستهدف استكمال جوانب الصورة في عنصر حيوي وشديد التأثير في مجتمعاتنا المعاصرة حاضراً ومستقبلاً، مما يفضي إلى إشكالات متعددة تتطلب إجابات دقيقة وموضوعية، وأولها إشكال التحديد والتعريف الخاص بالوسائط الاجتماعية عبر سؤال الماهية الذي يعيد تعريفها بما تمثله حقيقة من خلال طبيعتها وبنيتها التقنية وركائزها وأهدافها؛ إذ يقتضي تغيير التصور أو تعديله محاولة جديدة لفهم الموضوع وإدراك أسسه، فإن كان هناك من حضور لخلفيات غير معلنة من إيهام متعمد بالحرية، وتسلط وتحكم في المستخدمين بما يفرض التفكير العميق في أصل الوسائط الاجتماعية الجديدة وخصوصياتها وأهدافها. ولا يمكن بحال من الأحوال الإحاطة بظاهرة متشعبة ومركبة مثل وسائل التواصل الاجتماعي دونما استيعاب جديد لها، يضع بعين الاعتبار امتداداتها المباشرة وغير المباشرة، وركائزها المعلنة والخفية معاً. ثم سنسعى إلى تفكيك بنية السلطة في هذه الوسائط عن طريق استقراء المحافل الفردية والجماعية المتحكمة فيها لمناقشة مدى حقيقة وصفها بالفضاءات الحرة والديمقراطية، وهو عمل ذو بعدين:

نظري؛ يستلهم الأدبيات والدراسات التي نظرت للوسائط الاجتماعية بقدر من الموضوعية والحياد، وحاولت الخروج من شرنقة الإعجاب المبالغ فيه والانبهار الزائد.

عملي؛ يعود إلى الوقائع والأحداث المرتبطة بالوسائط الاجتماعية كالفايسبوك وتويتر وغيرهما منذ ظهورها إلى اللحظة الراهنة، حيث يمكن أن نعثر على إشارات وشهادات وارتدادات من شأنها أن تفند الصورة التقليدية والنمطية لوسائل التواصل الاجتماعي، وهنا نصل إلى قضية أخرى شديدة الارتباط بموضوع البحث، وهي التغيرات الطارئة على مفاهيم كلاسيكية كالسلطة والتحكم والمراقبة... وعلاقة كل ذلك بوهم الحرية الذي يستشعره العامة أثناء تعاملهم مع هذه الوسائط بعفوية وسذاجة، قد تؤدي ببعضهم إلى السقوط السريع في فخ السلطة الوصية، والتعرض لضغوطاتها وإملاءاتها.

وهذا ما يطرح قضية التحكم الخفي تحت ذريعة الزخم التواصلي في العصر الرقمي، والأشكال التي يتبدَّى فيها داخل شبكات التواصل الاجتماعي سواء في الصيغ المعروفة في الحاضر أو في صيغ جديدة تحيل إليها إرهاصات عديدة لا يمكن تجاهل أثرها في المستقبل القريب؛ فللتواصل السريع والدائم منخفض التكلفة ثمنه الفادح الذي يؤديه المستخدم من حريته واستقلاله الفكري، ومنظومته القيمية والأخلاقية، فلا شيء بالمجان ولا ربح ظاهري دون خسائر متراكمة في الخفاء.

وتتطلب معالجة هذا الموضوع المتشعب بأبعاده وإشكالاته وقضاياه أن يتم اختيار منهج يستوعب هذه البينات المركبة، يجمع بين الوصف الدقيق المستند إلى الأدبيات والنظريات السابقة من جهة، والأحداث والوقائع والظواهر التي يفصح عنها الواقع العملي في أكثر من جهة ثانية، إضافة إلى تحليل جزئيات وعناصر منظومة وسائل التواصل الاجتماعي والسلطة، والمراقبة لاستكمال جوانب الموضوع، وإدراك حيثياته بعيداً عن الذاتية والأحكام الانفعالية المتسرعة.

***
 

هكذا، ولكي يتشكل تصور مغاير للسائد ومخالف للظاهر، لا بُدّ من تعمق أكبر في الموضوع ومحاولة فهمه على درجتين:
الأولى: استيعاب أسباب سيادة توجه معين، يضع وسائل التواصل الاجتماعي في بؤرة الفعل التحرري للفرد والجماعة من سلطة المؤسسات الرسمية الضاغطة.
الثانية: نقض تلك الأسباب والدواعي ومحاولة إبراز ما تخفيه من نوايا وقصديات مختلفة تماماً، لها مرجعيات سلطوية مبررة وحيوية بالنسبة للطرف الآخر الذي تمثله الفئات المتحكمة فعلياً في الفضاءات الرقمية، وتسعى إلى توظيفها لخدمة غايات وأهداف تتجاوز حرية الأفراد الحقيقية إلى الإيهام بالحرية لإخفاء تسلط أكبر وأكثر خطراً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها