رحل عن دنيانا الشاعر والمخرج الكبير شوقي حجاب صباح يوم 26 يوليو 2023، عن عمر ناهز 77 عاماً، بعد أن ملأ الدنيا غناء وبهجة، وأسعد قلوب ملايين الأطفال في العالم العربي على مدى ما يقرب من نصف قرن، كتب وأخرج عشرات الأعمال الدرامية، وبرامج الأطفال، وابتكر شخصيات طفولية عاشت في وجداننا سنوات، ومنها: "بوقلظ"، و"كوكي كاك"، وغنى له العديد من المطربين والمطربات، مثل: (صفاء أبو السعود، ومحمد فوزي، وعفاف راضي، ومنى عبد الغني) وآخرين، وصدر له عدداً من الدواوين الشعرية للأطفال والكبار، وكتب وأخرج عدداً من مسلسلات الأطفال للإذاعة والتلفزيون، كما كتب سلسلة حلقات كومكس "مغامرات دقدق"، ونشرت مسلسلة في مجلة قطر الندى، ثم نشرها بعد ذلك في سلسلة كتب بنفس العنوان، صدرت في مكتبة الأسرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب برسوم الفنان الكبير عبد الرحمن نور الدين، وحاز جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2021، ليكون ثاني كاتب أطفال يحصل على هذه الجائزة، بعد كاتبنا الكبير يعقوب الشاروني.

◄ البدايات
كان تأثير المكان على عقل ووجدان ورهافة إحساس شوقي حجاب كبير جداً، إذ ولد بقرية (المطرية- دقهلية) الواقعة على بحيرة المنزلة، وتتميز بمكان فريد في الركن الشمالي الشرقي لدلتا نهر النيل، ويحدها من الشمال البحر الأبيض المتوسط، ومن الشرق قناة السويس، ومن الغرب نهر النيل (فرع دمياط)، ومن الجنوب سهل الحسينية، هذا المكان العبقري هو الذي انطبع بداخل الطفل الصغير (شوقي)، وخصب مخيلته ورؤاه للعالم فيما بعد.
إذا كانت "قرية المطرية التي ولد فيها –التي أصبحت مدينة فيما بعد- عبارة عن شبه جزيرة، يحيط بها البحر من ثلاثة جوانب، ولها تخطيط مميز تنفرد به، فحينما احترقت عام 1907، قام الإيطاليون بإعادة بنائها على هيئة شوارع متعارضة، وهي تشبه في نمطها بلدة (كريت) اليونانية، التي صور فيها فيلم (زوربا اليوناني) لأنتوني كوين، ومعظم سكان المطرية يعملون بمهنة الصيد أو بالمهن المعاونة لها، كصناعة السفن، وشباك الصيد وأدواته، وتجارة السمك وبيعه، بالإضافة إلى بعض المهن الطبيعية التي تشبه المهن الموجودة في باقي البلدان الأخرى (كالأمن والتعليم والطب والزراعة إلخ)، ومهنة الصيد التي جعلت سكان المطرية (متوكلين) على الله، لا (متواكلين) عليه، ذلك لأن تركيبتهم القدرية الحياتية فرضت عليهم الرضا بما قسمه الله لهم، فهم يخرجون للصيد وقد يعودون مجبوري الخاطر بصيد وفير، وقد لا يعودون بأي شيء على الإطلاق، ولكنهم –رغم ذلك- لا يقنطون أو يحزنون أو ييأسون، بل يخرجون للصيد في اليوم التالي مهما كانت الطبيعة قاسية عليهم، لأن وراء كل منهم (كوم لحم) وأفواها مفتوحة تنتظر الطعام بنهم شديد وشوق أشد".
وسط هذه الأجواء والطبيعة الساحرة وطبيعة التركيبة السكانية المختلفة، تربى ونشأ (شوقي حجاب) على أغاني الصيادين الذين يغنون في كل أحوالهم، في لحظات الميلاد، وفي أسبوع الطفل، وعندما يبدأ المشي، وأغاني الأفراح، والعمل، والحج، وأغاني الزراعة والحصاد، حتى عند الموت له طقوسه من الغناء الذي يسمى (العديد)، بالإضافة إلى تشبّعه بعدد من المورثات الشعبية المختلفة، من أمثال، وحكم، وحكايات "حواديت" الجدات، والأغاني الشعبية والمواويل، والأساطير.. كل هذا هضمه (حجاب) لتنضج به موهبته الشعرية الخصبة، بجانب قراءاته المتعددة والمتنوعة في دواوين الشعراء السابقين، أمثال: أبو بثينة، وبيرم التونسي، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين، كما تأثر بموهبة شقيقه الشاعر الكبير سيد حجاب الذي كان قد سبقه إلى كتابة الشعر، كل هذا أثر في اتساع موهبته وخياله.
ومن الشخصيات التي أثرت في تكوينه النفسي والوجداني وهو طفل، أمه -على حد قوله- كانت قارئة نهمة، تحفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية، والعديد من الأمثال الشعبية بطلاقة رغم أنها لم تكمل تعليمها الابتدائي، وكذلك جدته لأمه السيدة (مفيدة محمد) التي كانت مطربة من مطربات عصرها، واشتهرت بجمال صوتها، وسجلت مجموعة من الأسطوانات التي حققت نجاحاً وانتشاراً كبيرين.
◄ الاعتقال
اجتاز (شوقي) مرحلتي التعليم الابتدائي والإعدادي بتفوق، ثم التحق بالثانوية العامة التي تعثر فيها دراسياً لدرجه أنه رسب في السنة النهائية بها ثلاث سنوات متتالية، في تلك الأثناء كان جنين الشعر يكبر بداخله، وكتب العديد من القصائد في تلك الفترة الباكرة من عمره، وتميز عن أقرانه بأنه شاعر، وبعدها اعتقل لمدة ثلاثة أشهر بتهمة الشيوعية بإيعاز من ابن مأمور القسم الذي كان ينافسه في رئاسة اتحاد الطلبة بالمدرسة، وقتها ضاقت به الدنيا وشعر باليأس والاحباط، ودخل في حالة اكتئابية على إثرها فكر جديا في الانتحار نتيجة فشله في التعليم، ولم يثنه عن عزمه على الانتحار إلا الصدفة التي قابلته بزكريا الحجاوي وأنور السادات (عضو مجلس قيادة الثورة ورئيس المؤتمر الإسلامي آنذاك)، والذي كان في زيارة صديقه الحجاوي ابن الدقهلية، وما إن علم السادات من الحجاوي من أمر تفكيره في الانتحار والذي شيع في القرية كلها، حتى استدعاه وطلب منه أن يلقي عليه بعض قصائده، يومها استحسن السادات ما قاله (حجاب) من أشعار، وراح يحدثه عن العثرات الكثيرة التي قابلته في حياته، منها طرده من الجيش، واعتقاله ونومه على البرش، وعمله في مهن بسيطة إلى أن عاد للجيش مرة أخرى، هذه المقابلة التي جاءت بالمصادفة هي التي غيرت مجرى حياة (شوقي حجاب)، ففكر في الانتقال إلى القاهرة ليلحق بشقيقه الأكبر سيد حجاب الذي كان قد سبقه إلى هناك.
◄ الانتقال إلى القاهرة
وجد (شوقي) ضالته في القاهرة، ففور وصوله توجه إلى منزل صديقة (عبد الرحمن عرنوس) الذي اصطحبه إلى مقهى (إيزفيتش) وعرفه على المبدعين: "يحى الطاهر عبد الله، ومحمد جاد الرب، وسيد خميس"، وغيرهم من المبدعين الذين تواجدوا في المقهى، وسرعان ما تعرف على "صلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودي"، والتقى بأخيه "سيد حجاب" الذي وقف بجانبه وساعده كثيراً في بداية حياته الأدبية..
ولم يرد (شوقي) أن يصير صورة باهتة من أخيه (سيد حجاب) الذي كان قد اشتهر كشاعر عامية، فبدأ يبحث عن طريق آخر ليجد نفسه فيه، فالتقى مصادفة بالصديقين "محي اللباد، وعدلي رزق الله" اللذين أخبراه بأن التلفزيون المصري يبحث عن فكرة جديدة ومبتكرة لبرنامج أطفال، تقوم المذيعة اللامعة "سلوى حجازي" بتقديمه، وعلم منها أنهما رشحاه لهذه المهمة، ووافق فرِحاً؛ وكأنه وسط الطوفان ألقيا له بطوق النجاة، وكانت فكرة برنامج "عصافير الجنة" وخلال فترة قصيرة، صار هذا البرنامج من أشهر برامج التلفزيون وأكثرها نجاحاً، وكلف بعدها بكتابة عدة أغنيات مثل: (طير طير يا أمير العصافير)، و(كل أطفال الدنيا)، وأغنية (الساحر الصغير) التي لحنها وغناها المطرب (محمد فوزي)، وأغنية (بكره الدنيا هتبقى حاجه أحلى) غناء مجموعة من الأطفال، التي يقول فيها:
"كل الأطفال في الدنيا/ بكره هيخلوا الدنيا/ ضحكة في خدود الناس/ ورده في إيد الأطفال/ وحمامة فوق الراس/ والناس تبقي للناس/ بكره الدنيا هتبقى حاجه تانية/ هنطير ف الدنيا عصافير/ والمزيكا أم الصفافير/ والنسماية حرير ف حرير/ ونغني مع الأرض الخضره/ بكره هتبقى الدنيا حاجه تانية".
بعدها برز نجم (شوقي حجاب) في القاهرة، وأصبح واحداً من أهم كتاب الأطفال في مجال الأغنية، والكتابة الدرامية للتلفزيون المصرى، وبدأ ينشر في مجلات الأطفال، وعلى حد قوله: "وفي مجال الشعر ما زلت أدين بالفضل للشاعر الكبير (مجدي نجيب) الذي نشر لي أولى قصائدي في مجلتي (ميكي وسمير)، وكنت أتقاضى آنذاك جنيهان عن كل قصيدة تنشر لي، كما أدين بالفضل لصديقي الكاتب (لنين الرملي)، الذي نشر لي عدة قصائد بمجلة (العمال)".
في تلك الأثناء حصل (شوقي) على الثانوية العامة، والتحق بمعهد الفنون المسرحية، إلا أنه سرعان ما انتقل إلى معهد السينما، وبعدها بأربع سنوات حصل على شهادة البكالوريوس (قسم إخراج- شعبة السيناريو) وكان ترتيبه الأول على دفعته، وعين معيداً بالمعهد لفترة ثم سرعان ما تمرد على مهنة التدريس، فقدم استقالته لأنه أدرك –منذ البداية- أنه لم يخلق للتدريس، وكان وقتها يكتب برنامج (عصافير الجنة) الذي كان في قمة نجاحه وتألقه، فراح يكتب العديد من البرامج ومسلسلات الأطفال، فكتب مسلسلاً للفنان الكوميدي (أحمد الحداد) بعنوان (البرغوث النونو)، وتبعه بمسلسل (براغيتو)، ثم كتب الأغاني للمسلسل الإسباني المدبلج (فرافيرو)، وبعدها كتب عدداً من الأفلام القصيرة، منها فيلم (فانتازيا الخيوط) الذي حصل على جايزة مهرجان قرطاج سنة 1987، وجايزة مهرجان القاهرة للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة سنة 1977.
وقد زامتله في لجنة ثقافة الطفل بالمجلس الأعلى للثقافة في أكثر من دورة، إذ كان يتمتع بثقافة رفيعة، وروح مرحة وخيال منطلق، ظل (شوقي) متربعاً على عرش الكتابة الدرامية والأغاني للأطفال لأكثر من نصف قرن، رحم الله شاعرنا وكاتبنا الكبير (شوقي حجاب)، صاحب أكبر رصيد في قلوب الأطفال المصريين والعرب.