الحياة بناء مركب من أجزاء، والفن أحد تجليات الحياة التي تحمل العنصر البشري وتعد الشاهد والمشهود على حضوره وتأثيره فيها؛ فهي بمثابة الوعاء الحاضن، وهي المصنوع الناتج عن هذا الإنسان فكرًا وشعورًا وعملا، وللبيان الإنساني أشكال تتجلى تبعًا للحال وللمقام وللمقدرة ولانحيازات ذاك الإنسان وميوله: ما يحب وما يكره؛ ومن ثم فإن الفن بتجليه اللغوي وغير اللغوي هو بمثابة حالة كاشفة عن حالة سردية رباعية التشكيل: زمان، مكان، حدث، شخصيات؛ فكل منجز تعبيري يخرج به الإنسان إلى فضاء الملموس يعد انعكاسًا لحكاية حياتية تفاعلت عناصرها الأربعة سالفة الذكر، ومن حاصل تفاعلها تخرج هذه النتيجة إلى نور التداول؛ ألا وهي الحالة التعبيرية التي تعد وعاءً حافظًا وراصدًا لما كان من ذلك الكائن البشري في زمان ومكان بعينه، وفي ظل بيئة تجمعه بغيره من جنسه أو من غير جنسه (جماد، حيوان، نبات)1.
والفن بحضوره اللغوي وغير اللغوي يحيل إلى نسق تساؤلي: ما الذي يجعل الإنسان يعمد إلى الخيال في صياغته التعبيرية عما يدور في عقله وقلبه؟
لا شك في أن رحلة البحث عن الجواب ستتخد أكثر من مسار؛ تاريخي حيث الأسطورة وعلاقة الإنسان الأول بكل ما هو غيبي وكيف كان ينظر إليه وما ترتب على نظرته تلك من ممارسات تعبيرية شتى، لا تزال حاضرة تتمدد في الزمان والمكان مع استمرار حياة الجماعة الإنسانية على الأرض2، ومسار ثانٍ وثيق الصلة بالحقول المعرفية التي تمثل في مجملها جزءًا مكونًا لحياة الإنسان، وفي مقدمتها حقل الفلسفة، التي تشغل موقعها المرتفع في البناء الحضاري عمومًا؛ إن ثنائية (الذات والعالم) التي حظيت باهتمام واحتفاء في عالم الفلسفة، وكان لها نصيب وافر في معالجات، نستطيع أن نأخذ منها على سبيل المثال ما يسمى بالظاهراتية أو الفينومينولوجي3، ومعالجتها لمسألة الإدراك النابع من صلة الإنسان بمرجعه الخارجي المسمى بالحياة والواقع، وما يتمخض عن هذه الصلة من نتائج على مستوى الذهن والوجدان تمثل حالة مجردة تتحول في مراحل لاحقة إلى أوعية بيانية ملموسة يتم إدراكها بالحواس.
والفن في اتصاله بالواقع الحقيقي المدرك يفرض على من يتصدى له بالدرس الوقوف بدايةً مع ذاك المصطلح الأثير؛ مصطلح المحاكاة عند واحد مثل أرسطو، وكيف كان يرى العلاقة الجامعة بين الطرفين؛ هل نقل حرفي من الأول؛ أي الفن للثاني؛ أي الواقع؟ هل الفن تعبير عما يجب أن يكون في ذاك الواقع؟ هنا تصير الرؤية مؤسسة على دور ورسالة وقيمة يجب أن يحظى بها ذاك المصنوع من لبنات الخيال؛ أي الفن؛ من هنا يأتي السؤال عن القيمة؛ هل مردها إلى ما يحمله الفن على اختلاف أشكاله من مضمامين معرفية لها ثقلها وتأثيرها البنَّاء في حياة الجماعة؟ أم مردها إلى الصياغة وطرائق التشكيل التي تجعل للعمل الفني جاذبيته وحضوره الإمتاعي لدى من يتلقاه؟
إن هذا الطرح التساؤلي السابق يأخذنا إلى رافدين فلسفيين أثيرين:
الأول: الفلسفة المثالية الذاتية
الثاني: الفلسفة المادية الواقعية
إن الحديث عن الفن ومكانه من حيث التأثير والفاعلية في المعنيين به إبداعًا وتلقيًا يقتضي الوقوف أمام حقل الفلسفة واستنطاق ما تم إنجازه من رؤى تجاهه، وهذا سيطرح عددًا من الأنساق التساؤلية:
◂ هل الغاية من الفن حصول التسلية والمتعة فحسب؟
◂ هل الغاية من الفن بأنواعه ممارسة أدوار نفعية تتجاوز عتبة التسلية والمتعة إلى معالجة ما في الواقع من مشكلات وأزمات بتسليط أضواء عليها على مستوى المعالجة الفنية على تنوع أشكالها؟
ووفقًا للطرح الاستفهامي السابق يتأسس طرح ناتج عنه:
◂ هل جمال الفن وقدْره وفاعليته مرهونة فقط بالطريقة التي يتشكل بها؛ أي في صياغته دون النظر إلى المحتوى الفكري الذي يجب أن يكون حاملا له؟
◂ هل الفن ووزنه وثقله متعلق بما يحمله من قيمة معرفية تجعل منه رسالة ذات غايات نفعية تلامس الواقع وما يحصل فيه من أحوال ومتغيرات؟
كل الحمولة التساؤلية السابقة تحيل بلا شك إلى ما شغل بال الفلاسفة منذ نهايات القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر وصولاً إلى القرن التاسع عشر، ويتحدد فيما يسمى بتيار الفن للفن، وتيار الفن للمنفعة، ويلحق بذلك كله علم الجمال أو الاستاطيقا، هل ما يهمنا في الجمال الفني طريقته وصياغته وتركيبه وانتهى الأمر؟ أم محتواه وما يتضمنه من شحنة قيمية لها مكانها في أولويات التلقي واهتماماته4؟
هل ما يهم المتعاملين مع الفن الجميل من الفكر ما يتماس مع منطومة الجماعة المتلقية له الدينية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية عمومًا؟ أم الصياغة الجميلة لما يحمله من قضايا أيا كانت هذه القضايا ومكانها في سلة القيم التي تحتفي بها الجماعة دنيةً قبيحةً هي؟ أم عالية راقية سامية؟
إن المحتفين بالفن للفن يقفون به عند عتبة الصياغة؛ بوصفها الغاية المنشودة التي عندها يسكن الجمال الذي ينشده المتلقي الباحث عنه، وهؤلاء بلا شك يشايعون ذلك التيار الفلسفي المثالي الذاتي الذي ينادي بذلك ويؤمن به، لكن هناك شريحة على النقيض أخذت مكانها على الساحة ترى في الفن حالة متعدية، لا لازمة منغلقة على نفسها، ومن هناك ظهر ما يسمى بالتيار الواقعي بتجلياته المادية الاشتراكية وغيرها، وفي ثنايا ذلك التيار نجد مسألة الالتزام؛ أي التزام الفنان بحكم موهبته وقدرته على الإنشاء الإبداعي بأن يأتي فنه حاملا رسالة وموظَّفًا لخدمة قضايا أمته، وتلك هي الغاية وذاك هو الجمال من وجهة نظرهم5.
ويبدو أن هذه الحالة في الرؤية للفن وغايته تعود بنا إلى قضية عربية تراثية أثيرة شغلت بال المفكرين العرب القدامى قرونًا عديدة، هي قضية (اللفظ والمعنى)، فالمتابعة الاستقرائية لها عند من احتفوا به تأليفًا، على سبيل المثال الجاحظ في البيان والتبيين، وقدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر، والآمدي صاحب الموازنة بين أبي تمام والبحتري وحازم القرطاجني في منهاج البلغاء وسراج الأدباء، هل نحن مع الفن شكلاً؟ أم مع الفن مضمونًا؟، أم مع الاثنين معًا؛ أي الشكل والمضمون جنبًا إلى جنب؛ لأن تضافرهما وتكاملهما يمثل في النهاية المنجز الفني الذي يتصدى له المتلقي اهتمامًا ومتابعةً ويعد أحد أسباب تغير حالته وتأثر مسيره في الفضاء الواقعي وما يصاحبه من نظرات ومواقف؟
في ضوء العرض السابق وما يستثيره من تفاصيل ورؤى تأخذ القارئ وتتعمق به في حقلي الفلسفة والتراث معاً يبقى الفن بتجليه اللغوي وغير اللغوي حالة إشكالية تبعًا لطبيعة النظرة إليه ومن يلتفون حولها، في ظل مفردات تمثل أدوات مفتاحية تنطلق منها الذات في تناولها لتلك المسألة: الصياغة، المجاز، الجمال، الفكرة، المتعة، المنفعة، وخلال هذه الرحلة في البحث والمعالجة تتأسس ثنائيات عدة تعد بمثابة مرآة كاشفة عن الوعي الذي يتكون:
◅ (الفن والصياغة)
◅ (الفن والفكرة)
◅ (الفن والمتعة)
◅ (الفن والجمال)
◅ وأخيرًا (الفن والوظيفة)
الهوامش: 1- انظر: د. أحمد يحيى علي، أوراق نقدية، ص: 24، الطبعة الأولى، إصدار الرافد الرقمي، أغسطس 2023م، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.┋2- انظر: كارين أرمسترونج، تاريخ الأسطورة، ترجمة: د. وجيه قانصو، من ص7 إلى ص16، الطبعة الأولى، 2008م، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان.┋3- انظر: جان بول سارتر، نظرية في الانفعالات، ص: 54، 55، طبعة 2001م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.┋4- انظر: جوردون جراهام، فلسفة الفن: مدخل إلى علم الجمال، ترجمة: محمد يونس، ص: 14، 15، 16، 17، طبعة 2012م، سلسلة آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.┋5- انظر: د. محمد مندور، دراسات في الأدب والنقد، ص23، 24، طبعة دار نهضة مصر، القاهرة. د. صلاح فضل، مناهج النقد المعاصر، ص: 15، 16، 17، 18، 19، طبعة 2002م، دار ميريت للنشر، القاهرة.