الإنسان كائن متسائل لا يكف عن السؤال، ومتأمل يبحث عن مكنون وجوده، لكن هذا الفعل تختلف درجاته من شخص إلى آخر وفقاً للميول والأهواء، إضافة إلى تأثير الثقافة والدين، والوجود الاجتماعي.
من الأشياء التي لها وجود مقدر ضمن المواضيع الفلسفية عملية التفكير في الجمال وحينما نبحث عن تفسير للجمال نكون على تخوم فلسفة الجمال الوارفة فيكون لكل فيلسوف مدخلاً وتعريفاً للجمال. فالجمال عند ديمقريطس مرتبط بالأخلاق بينما يرتبط بالخير والمنفعة عند سقراط، في حين عرّف هربرت ريد الجمال بأنه: وحدة العلاقات الشكلية بين الأشياء التي تدركها حواس الإنسان.
لا تستطيع المجتمعات الإنسانية العيش بدون قيم؛ لأنها من المحددات المهمة للحياة فهي تمثل المعيار لسلوك المجتمع، وعادة ما يُقابل الخروج على هذه القيم بالرفض المتفاوت في حدته. إن مصطلح القيم يعني المبادئ والعادات والأخلاق الموجودة في حياتنا، وهي تُحدِد بناء السلوك وأسلوب الحياة بالإضافة للقواعد المتبعة على مستوى الفرد والمجتمع، وهنالك أنواع من القيم منها القيم الاجتماعية، الاقتصادية، الجمالية، الدينية والقيم الشخصية.
صنف الفلاسفة القيم إلى ثلاث: الحق، الخير، الجمال؛ ويلعب التصور الاعتقادي دوراً مهماً في صياغة هذه القيم، ولذلك تتباين الرؤى حول الحق والخير والجمال وفقاً للمرجعية الأخلاقية استناداً إلى ثباتها ونسبيتها. يأتي الجمال ضمن فلسفة القيم لكنه ليس قيمة جبرية، فليس من الضروري تقليد الجمال حيث وجد، فالذي يرى جمال البحر أو جمال صوت مغني على سبيل المثال ليس مفروضاً عليه محاكاة ذلك.
ترتبط نشأة علم الجمال بالتأمل الفلسفي حول الجمال والفن، والفلسفة حسب تعريف ابن رشد، هي: "النظر في الموجودات وفهم خصائصها ومعرفة أحوالها للدلالة على صانعها". هنا نلاحظ بصمة الثقافة الإسلامية على تعريف ابن رشد للفلسفة.
يعتبر الفيلسوف الألماني بومغارتن من أوائل الذين تناولوا علم الجمال وسماه الاستاطيقا، حيث حدد أن علم الجمال يختص بالشعور والفن والخيال، وبذلك ميزها عن فلسفة الجمال التي تُعنى بالتفكير العقلي وفقاً لأسس علمية.
الجمال من أكثر الأشياء التي استرعت انتباه الإنسان لوجود الخالق، ولعلّ عملية خلق الكون بهذه الطريقة البديعة هي المسار الدقيق للعقول والقلوب، وهي اللغة غير المنطوقة التي تجسد الاتساق الجمالي من حيث الشكل والنفع، وبذلك يكون علم الجمال علاقة مع الخالق عز وجل والكون الفسيح والإنسان.
عندما نستخدم لغة المعرفة والتي عادة ما تكون غير دقيقة؛ لأنها تحتوي على جوانب عاطفية فقولنا (اللون الأبيض جميل) لن يجد التأييد المطلق من كل الناس، وحتى الذين يؤيدون هذا القول نجد أن مستوى جمال اللون الأبيض لديهم غير متساوٍ. بينما نجد في المقابل اللغة العلمية الدقيقة الصارمة التي لا اختلاف حولها ولن يقف الناس مختلفين حيالها، وذلك في قولنا بأن المربع متساوي الأضلاع، فلن تجد من يخالفك الرأي، والسبب أنها حقيقة مُثبتة.
نستطيع القول بأن وصف الشيء بأنه جميل مبني على تجربة وتقييم ذاتيين، ولن يتوفر معيار متفق عليه يثبت صدق أو كذب المعلومة، ومثل هذه الكلمات تصنف ضمن كلمات اللغة العاطفية والتي توصف بالغموض. يحدد الناقد الإنجليزي آي.إي. ريتشاردز أن للكلمة العاطفية أربعة معانٍ أو آفاق، وهي: مصدر الفهم، الشعور، نبرة الكلام، بالإضافة إلى قصد القائل ونيته.
كلما ولجنا إلى عالم الفلاسفة المسلمين نجد ضرورة إجراء مقاربات مع الفلسفة اليونانية، واضعين في الاعتبار درجات التأثر المحتملة، وباحثين عن أصالة الفكرة عند الفلاسفة المسلمين. لأننا في حرم فلسفة الجمال، فحريٌ بنا استدعاء المنظور الفلسفي للفارابي، والذي يُلقب بالمعلم الثاني، ولقد وصفه ابن سبعين بأنه: أفهم فلاسفة الإسلام؛ باعتباره من أوائل الفلاسفة المسلمين الذين تناولوا موضوع الجمال.
يعتبر الفارابي أن محصلة الجمال في الموجودات هو وجودها الأفضل، وحصولها على كمالها الأخير، وبذلك يربط الفارابي بين الجمال والكمال. يعتبر الفارابي أن كمال الإنسان كمال بالعرض وذلك للتغير والتبدل الذي يطاله بينما الكمال الإلهي هو الكمال الحقيقي؛ لأنه كمال الجوهر.
يرى الفارابي أن الجمال المطلق هو مصدر كل جمال موجود في المخلوقات، وبذلك يقول الفارابي: إن الله هو مصدر الجمال المشاهد في دقة وعظمة الكون بما فيه ومَن فيه.
إن طبيعة الإنسان تجعله يحب الجمال، ويسعى إليه كما يسعى الإنسان لمحاكاته، ولكن النفس الإنسانية وفي سيرها نحو الترقي للكمالات لن تصل إلى المعرفة الكلية للجمال الإلهي؛ لأن الجمال الإلهي بلا كيف، لا تستطيع العقول الإحاطة بكم وكيف الجمال الإلهي، ولذلك سيظل الجمال المتحقق في الذات الإنسانية جمال غير مكتمل.
نظرة الفارابي للجمال مرتبطة بالثقافة الإسلامية، حيث يربط بين الجمال والأخلاق الإسلامية، وذلك بإيجاد الصلة الكبيرة بين الجمال والخير، حيث يقول: "وليس يمكن أن يستنبط الأجمل عن أهل ملة ما إلا الذي فضائله الخلقية فضائل في تلك الملة، وكذلك من سواه".
دافع الفارابي عن الفن الجاد الهادف باعتباره يساهم في ترقية الأخلاق على مستوى الفرد والمجتمع، وبذلك يؤكد أن للفن هدفاً أخلاقياً، وهدفاً تعليمياً، وليس غايته اللهو.
ولا بد من مناقشة قضية مهمة جداً حول الجمال، والتي ما زالت تأخذ حيزاً معتبراً، وهي ما إذا كان الجمال ذاتي أم موضوعي؟ ذاتية الجمال تعني أن الجمال موجود في عين الناظر، بينما موضوعية الجمال تعني بأن الجمال موجود في الموجودات.
من القائلين بذاتية الجمال هم السفسطائيون وديفيد هيوم، والذين اعتبروا أن الجمال موجود في العقل، وبذلك فلكل عقل قدرة إدراكية مختلفة للجمال -حسب رأيهم- وعليه؛ فإن الجمال موجود في النفس، وبهذه النظرة فإن الجمال متغير وفقاً للزمان والمكان ولا يمتاز بالثبات. إن هذا الاتجاه يجعل بين السعادة والجمال واللذة علاقة متينة، كما يعتبر أن الفن للفن؛ أي للمتعة واللهو والحصول على اللذة، والتي تتفاوت بنسبية الناظر وقدرته التذوقية، فكلما كان تذوقه للجمال والفن أعلى تحدث لديه اللذة بشكل أكبر.
هذا الاتجاه لم يحدد معياراً للذة وكيفية الحصول عليها، ربما تباينت درجة الحصول على اللذة من فرد لآخر بناءً على حساسية تلقيه للجمال والفن، وأعني بذلك أن هنالك من يصل إلى قمة اللذة بمجرد رؤيته لمنظر جميل، وتتغير أحاسيسه عند سماع الموسيقى، بينما هناك آخر يتذوق الجمال ويكتشفه، ولكن درجة تفاعله وانسجامه مع الجمال والفن لا توصله إلى اللذة التي تناسب المشهد. أما الذين تبنوا الرأي القائل بموضوعية الجمال يؤكدون بأن الجمال، في الأصل، موجود في الأشياء، بغض النظر عن درجة معرفة الناظر وذوقه، أو قدرته على اكتشاف الجمال، ومن أكبر مناصري هذا الرأي سقراط، أرسطو، هيجل، ابن رشد، الكندي، والغزالي.
هنالك اتجاه ثالث حاول الجمع بين النظرة الذاتية والموضوعية للجمال، وسُمي بالاتجاه النسبي الموضوعي، حيث اعتبر أن القيمة الجمالية ليست قيمة مطلقة، كما أنها ليست شعوراً ذاتياً، ومن أكبر داعمي هذا الاتجاه سارتر وكانط.
هنالك رأي مهم جداً طرحه الإمام مالك في تناوله لقول المولى عز وجل: "الرحمن على العرش استوى"؛ موضحاً أنه إدراك (بلا كيف). وباستعارة هذا التكييف نقول: بأن إدراك الجمال يتم بلا كيف، بواقع عدم وجود وسائل إقناعية لتحقيق إدراك الجمال، ووضع معايير علمية تتناسب معه، وهذا يفتح السؤال أمام كيف يتم إعطاء الجوائز في المسابقات الفنية؟ وهل هنالك معايير قطعية لذلك؟