الخطاب الشعري في الرواية

رواية "حوادم" أنموذجاً

يوسف الرجب

 

إن العلاقة بين الفنون علاقة جدلية توسع مفهوم النص الإبداعي، وتفتح أفقه على تعدد المعاني، ما يفتح الباب واسعاً لتأويلات القراءات المختلفة. واستناداً إلى هذه الرؤية سنتوقف عند الخطاب الشعري في رواية حوادم، التي استجابت بخطابها الروائي إلى الرؤية الشعرية ليس فقط على مستوى بناء الجملة، أو على مستوى الانزياح والمفارقة في التصوير، وتحولات الشخصيات والزمان والمكان؛ وإنما على مستوى تضمين القصائد المختلفة التي خصَّبت الخطاب الروائي ومنحته أفقاً مغايراً. حيث أفردت الرواية للقصيدة الشعرية النثرية فصولاً واسعة تحت عناوين مختلفة (ترانيم)، و(مزامير)، و(الدهور السبعة)، إضافة إلى بعض المقطعات الشعرية التي يمكن تلمسها في تفاصيل الفصول السردية، أو في الملحقات التي ألحقت بالرواية كنصوص تأملية تحت عنوان: (من أوراق عارف الطيار).



ويمكننا القول: إن رواية حوادم التي تبحث في الوجود الإنساني الأول عبر إسقاطات منسجمة مع الحاضر، ومنسجمة مع الرؤية المستقبلية عبر تخطيب الزمان لتقدم مرايا من رحلة الإنسان الذي أقلقته أسئلة الوجود والبحث عن الذات، حتى هبط في بئر الغواية.
 

ترانيم عتبة البحث عن الوجود

إن أول ما تطالعنا به مخطوطة حوادم المفترضة داخل المتن الروائي، هو تلك المقطعات الشعرية التي تستجيب إلى إيقاعية العلاقة بين المرأة والرجل، لتكون عتبة أولى بعد العتبة العنوانية، للدخول في المعنى، الذي تبحث عنه الأديبة بهيجة مصري إدلبي في روايتها، فقد اتخذت من الخطاب الشعري وسيطاً آخر لتوسيع الرؤية في الخطاب السردي، متخذة من الرقم سبعة بكل دلالاته التأويلية، لتصبح القصيدة كثافة للرؤية السردية، ومدخلاً للحوار بين الكائنين ومن أجل أن يكتشفا أسرار هذا الوجود.

لتكون هذه العتبة بمثابة قصيدة طويلة مبنية على مقاطع المقطع الأول تأويل لكلمة حوادم، ثم تأتي المقاطع الأخرى تحت عنوان (من رسائل التيه)، مُتخذة من (المرأة - الرجل) عنوانين متتابعين من المقطع الأول حتى المقطع السادس، ليكون عنوان المقطع السابع (حوادم) إشارة منها إلى أن الحوار بين المرأة والرجل، أفضى إلى حالة من التوحد التام بينهما على مستوى الرؤية، وعلى مستوى الخطاب، وعلى مستوى الوجود تقول في المقطع الأول:
ح/ حيرة بكرٌ حملتنا
ثم حلتْ حالها في حالنا وطوتنا
و/ وُجدنا من طينة الصمت
فكنا رحلة الموت في الطين
لأننا وجع الحرف في الريح
ا/ آلت الأشياء من أسمائها إلينا
فاستوت في سرنا الأسماء
د/ دلّنا الوقت على نهايتنا
فطفقنا نخصف من أحلامنا
علينا
لنرى
م/ ملأنا رؤانا
بكلام لم يكن وقتها يشبه الكلام
ولم تكن الأشياء
تعرف أسماءها
وبعد أن كنا
حلّ كل شيء باسمه
وكانت البداية


ثم تتبع ذلك برسائل التيه حيث يقول الرجل:
في البرد وحيداً قد حللتْ
الوحدة كانت وجعاً في المرآة فاستويتْ


محاولا أن يستدرج فلسفة الغياب، في بحثه عن المرأة إلى أن يقول:
أبحث في الغياب عن غيابها
فلا أراها
أخرج مني لأستلقي على صدر قصيدة من ماء
الماء وحده يجمعنا
الماء يوحّد أسرارنا
سأغيب في الماء
في الماء الذي كنّا فيه
الماء الذي أغرقنا
الماء الذي وحّدنا
الماء الذي يحملنا من غيابنا إلينا
الماء الذي بللنا بالوجود
فانتبهنا.


ليكون خطاب المرأة منسجماً مع خطاب الرجل في البحث، عبر رؤية شعرية منسجمة مع حالة الوجد الإنساني، على خلفية خطاب استدرج البناء الأسطوري الأول في التعبير:
أي رجلي يتعبني غيابك
غيابك الذي كان
غيابك تركني شجرة عارية
عارية حتى من دمي
دمي الذي أنت فيه
غيابك شتته وبعثره في الفراغ
الفراغ الذي يتسع كلما اتسع الصمت
الصمت الذي يطلع كشجرة في أصل الحنين.


إلى أن يكون الخطاب الأخير عبر صوتين متحدين في لفظة حوادم، التي فسرتها الكاتبة في مفتتح روايتها بأنها حواء + آدم، وتعني في حساب الحروف الإنسان الكامل:
مسافتنا طويلة وبعيدة خطانا
ورجاؤنا أوسع من المسافة بيننا
كلما اتسعت المسافة يقربنا المعنى
وكلما اتسع المعنى نقترب من أحلامنا
الوجود بوجودنا يكتمل
.....
في الحلم تسكن أرواحنا
بالدموع وجدنا
وبالدموع نلتقي
الدموع ملحنا وصحونا
ويقيننا إلى اللقاء

ففي هذه الترانيم نجد أن فجوة التوتر التي تخصب الرؤية الشعرية، كامنة في الغياب المشترك بين الرجل والمرأة وفي البحث المشترك عن وجودهما، في زمن التيه الأول؛ فإذا كان فعل الخلق الشعري ينهض من خلال العلاقة بين اللغة والرؤية، التي يستوي عليها النص الشعري، فإن تأويل هذا الخلق بالحالة الوجودية التي ينهض على خلفيتها الكائنان تجعل من فعل الخلق الشعري فعلاً منسجماً مع الصوت الإنساني الكامن في الوجود الإنساني كما هو كامن في الوجود النصي؛ لأن النص الشعري لا يكتفي بما تقوله الكلمات وإنما بما لا تقوله أيضاً؛ أي ما وراء الكلمات وهذا الأمر هو فجوة التوتر التي يتركها الشاعر ليملأها المتلقي عبر تأويله وإحساسه في هذا النص، أي أن المعنى ليس مجموع المكونات الجزئية للنص؛ وإنما هو حالة كلية ما ورائية لا تدرك بالحس المباشر بقدر ما تدرك بالتأمل والإحساس الغامض، ومن هنا فإن المعنى في النص الشعري هو جوهر شعريته، وهو ما يتجاوز التجربة الذاتية إلى التجربة مع العالم. وهذا ما استدرجته ترانيم البداية التي صبغت بصبغة الكشف والسؤال الذي لا ينتهي.

المزامير.. البحث عن كمال الذات في الآخر

تأتي المزامير مستجيبة للتحول في ذات الكائن، والتحول في السرد الحكائي، حيث يروي أديم لزوجته قصة الكائن الذي مضى يبحث عن نصفه التائه عنه، ذلك الكائن الذي تؤول الكاتبة من خلاله لحظة الوجود الأول على هذا الكوكب، حيث كان التيه هو لحظة الانتباه إلى الوجود، وكان الكائن الكامل متوحداً مع ذاته، ليكون الانفصال هو اختبار لذات الكائن في البحث عن نصفه الآخر، فكانت المزامير هي تلك القصائد التي كتبها أو ترنم بها الكائن التائه بحثاً عن نصفه التائه عنه؛ وكأنها تمائم أسطورية تستدرج الكائن من تيهه إلى وجوده.

وتبقى الاستجابة في هذه المزامير أيضاً للرقم سبعة، ليكون هو التميمة التي تستوي فيها كل القصائد المدرجة في هذا العمل الروائي، تقول في المزمور الأول:
بعيداً هوى نصفي
الذي كنت منه وفيه
نصفي الذي وجدت معه لنكتمل
كما تكتمل الكرة
نصفي الذي توارى كما يتوارى الماء خلف الزرقة
توارى في غياهب السكون
وسقطت في غياهب الحنين

حيث تتابع المزامير في نداء يستشف الوجد في ذات الكائن، ويرسله عسى يلامس وجد الكائن التائه، فيؤوب إلى نصفه ويلتقيان، كما كانا قبل الانفصال، ليكتمل الوجد، وتكتمل الرؤى، ويكتمل الكائن مع الآخر، فتكتمل الحياة.

ففي المزمور الثاني نجد ذلك الإيقاع المنسجم مع إيقاع الطبيعة، والمنسجم مع إيقاع الوجود، وكأن الانفصال لا يمكن أن يكون أبدياً، بل هو دورة لا بد من عودتها إلى البداية عبر دورانها في التيه، شأن ذلك شأن القطرة التي تنفصل عن أمها الغيمة لتعود إليها، وكتباعد الغيمة عن بحرها الأول لتعود إليه، وهكذا هو شأن الكائن الذي ابتعد عن شطره ليعود إليه في النهاية:
أيها المتباعد
كتباعد القطرة
عن أمها الغيمة
كتباعد الغيمة
عن بحرها الأول
كتباعد القاع إلى قاعه
والمدى إلى أفقه

فالمزامير هي فلسفة الكائن الأول عن الحب، عن الشوق، عن الوجد، عن اللقاء، وعن الوصل الأبدي؛ إنها الكتاب الذي تركه الكائن في ألواح الوجود، ليكون صورة عن البوح الأول، وصورة عن القصائد الأولى التي استدرجها الكائن في عشقه الأول الذي لم يكن عشق قبله، العشق البكر:
ها أنا أحمل كتابي
أحمل ضلالي
وحكمتي الخائبة
وخيبتي التي لم يكن مثلها
ولم أجد بعد من يعينني
عليّ

وتقول في المزمور الرابع محاولة أن تستكشف روح الحنين التي انتبهت إليها روح الكائن التائه، ليكون ذلك الحنين هو التميمة التي ستعيد الكائن من التيه ليعود إلى نصفه، إلى حنينه، إلى حضوره الأول بعد الغياب:
الحنين يكبر
كلما اتسعت المسافة
وكلما ابتعد البعد
اقتربت الجهات من بعضها

لنصل بعد المزمور الخامس والسادس إلى المزمور السابع الذي يوجز حالة الوله، وحالة الاشتياق الأولى التي رتبت في الكائن الأول أسرار عشقه اللامتناهي:
أنا الكائن القلق
الحزين
الشاهد الوحيد على ضلالي
وخيبتي
أدعوك أيها الشطر
الذي يراني فيه كما أراه
أن تعيدك خيبتي
في الطريق إليك
يا أنثاي
يا اكتمالي
ويا رحلتي
التي بدأها التيه
ارجع فدموعي
لم تعد تعينني على الصمت
والصبر
والطمأنينة
واليقين
إنني لجد حزين
وجد متعب
أعنِّي على التوحد فيك
على التلاشي في صفائك
على التواري في ذاتك المتوارية
على الانتهاء فيك

وبعد الانتهاء من هذه المزامير تستدرج الكاتبة ظلال العشق في الحاضر النصي، حيث تقول: "وبعدما انتهى أديم من حكاية العاشقين بلغت به الرغبة حداً عظيماً، وبلغت الفتنة بزوجته حداً من الغواية، والعذوبة فضمها إليه وقال:
أعريك منك
لألقي عليك وشاح الخيالْ
لأهبط من أغنيات النبوءة
...
كي تسكني بي كسرد الحكاية
أو كالقصيدة حين أراودها عن رؤاها
فأغشاك كالظل
حتى تذوب الظلالْ
كأنك يا امرأة توقظين الجنون
...
حتى تكوني / وحتى أكونْ

الدهور السبعة.. التقابل بين مرايا الزمن

أما في قصائد الدهور السبعة، فثمة رؤية أخرى تختلف عن الرؤية التي استدرجتها في قصائد (ترانيم)، و(مزامير)، لتكون الدهور السبعة موجزاً لتاريخ الكائن على هذا الكوكب، وموجزاً لرحلته في الوجود، حيث يتلاشى الزمن، ويتحد في رؤية واحدة، فلا يعرف القارئ، أهذه الدهور تتحدث عن الماضي البعيد، أم عن الحاضر أم عن المستقبل، أم عن الأزمنة جميعاً في مرآة الذات، وهذا ما يتضح في عناوين تلك الدهور (دهر الغوايات، دهر الطوفان، دهر الأمان، دهر الدماء، دهر الدمار، دهر الندم، دهر النهايات)، ففي دهر الغوايات صورة للكينونة الأولى وغواياتها تقول:
وكان الذي كان
حتى غوى ظلنا واستكان
على رمله فهوى

أما في دهر الطوفان حيث تبلغ الحيرة مبلغها من الكائن، فيضل عن يقينه، ويضل عن سبيله، ليغرقه في الجنون الجنون:
أضعنا يقين اليقين
وحارت بنا أغنيات الوجود
ولم ننتبه للحنين/ ولم ننتبه للنشيد
ولم ننتبه أننا في التوجس يغتالنا الصمت
ويغرقنا في الجنون الجنون


أما دهر الأمان فكان قصيراً كعمر الفراشة، لم يستطع الكائن أن يستعيد وجوده، ويقينه:
قصير كعمر فراشة
كقطرة ماء وحيدة
سرت في رمال الصحارى وغابت

ليكون دهر الدماء، تأويلاً لضلال الكائن، واستمرائه في الغواية، حيث الغواية الثانية تقود الكائن إلى سفك الدماء، وتقوده إلى الاستغراق في الضياع، حيث ضلت الرؤى، وضل اليقين، وضلت الحكمة:
وكان الذي كان
نارُ وفيض دماء
ولا ماء كي نغسل الروح فينا من الموت
لا ماء لا ماء لا ماء
كي نستعير مراياه

ليكون نتيجة ذلك دهر من الدمار، ليقف الكائن على شفير الانهيار:
وكان الذي كان
دمار يوافيه ألف دمار
ونار ستحرقنا خلف ناركأنا على شرفة الانهيار

ليقف الكائن على شرفة الندم، التي لا طائل منها، بعد أن أوغلت الروح في تلاشيها، وفي غوايتها، وفي دمائها وفي دمارها، لتبلغ دهر النهايات، ذلك الدهر الذي يؤول رحلة الكائن، وهي على شرفة التلاشي النهائية التي لن يبلغ بعدها أي أفق للخلاص:
كأنا انتهينا
ولا مَنْ يشير لغير النهاية
لا سر نكشفه كي نرى
لا رؤى
كي نرتب أحلامنا من جديد

أوراق عارف الطيار فلسفة الحضور والغياب

وهنا كان لا بد من ملحق توجز فيه الكاتبة فلسفتها في الوجود، وفلسفتها في الحياة، وفلسفتها في الزمن، وكأنها بلغت في رؤيتها الشعرية مبلغاً من الصفاء، ومبلغاً من الحكمة التي تستدرج الخطاب الشعري إلى الخطاب السردي في لحظة انتباهه إلى زمنه المطلق، لتكون القصيدة لديها في هذا الخطاب انتباهاً إلى لحظة الأبدية، حيث تبدأ هذه الملحقات بتفسير معنى الكلام، والأبجدية والفراغ والطمأنينة، والموت والخلود، فالكلام لديها زبد الصمت والأبجدية دخان غامض يلوث بياض الفراغ، والموت حياة فائضة بالألم والخلود غواية.. لترى في تفسيرها للعزلة هي ألا تطل على أحد، ألا يطل أحد عليك، أن تقف أمام المرآة المركونة في زاوية معتمة تتأمل ظل عتمتك، وأنت شاهق في الصمت. وهنا تنهض العتمة في فلسفتها التي تفضي إلى الكشف فهي مسافة غامضة/ إشراق المجهول/ اتصال الفراغ بالفراغ وهي أول الوجود/ وآخر البياض/ رحلة الأشياء إلى المطلق كما هي وجد ورؤيا كذلك هي عماء مبصر.

لتختم هذه القصائد بقصيدة التأمل التي تزج بالرؤية الشعري في بياضها الأول، لتكون القصيدة رؤية في تقابل المرايا حيث يتوحد الزمن في الكشف عن أفقها، وعن معناها، للكشف عن حقيقة الذات وهي تواجه العالم:
سننهض من أسمائنا
لنغيب في أسرارنا
معاً نتأمل/ معاً نرى/ معاً نكشف
معاً نرفع بعضنا إلى مقام الأحلام
معاً نتلاشى في بعضنا لنكتمل
معاً نبوح بكل ما لدينا
ونقتفي سر الوجود
معاً سندرك كل أسرار الخلود

ولن يغفل القارئ عن القصائد المبثوثة داخل البناء السردي، والتي تستكشف لحظات رحلة الكائن، وأحلامه، ورؤاه، لتصبح رواية حوادم قصيدة الوجود الإنساني، وقصيدة الحلم من أجل عالم أفضل تتوحد فيه الذات مع الآخر، دون أن تتلاشى، بل لتبلغ سرها، فيبلغ سره، لتكون الحياة.

 


 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها