لَحنٌ على شَاطِئ الخَليج

هاني بكري


على الساحل كنت أسير ذات غروب خريفي بارد لا يتكرر كثيراً في منطقة الخليج العربي، رقّ النسيم فتذكرت أبياتاً للشاعر العراقي "بدر شاكر السياب" يبثّ لوعته للموج ويبكي غربته؛
أصيح بالخليج: يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى
فيرجع الصّدى

كأنه النشيجْ:
يا خليج.

وكانت فرقة موسيقية محلية على الشاطىء تعزف لحناً وكأنها تناجي به البحر؛ لحن راقص بإيقاع خماسي صاخب وحزين في آن واحد، عزف جماعي من فن "الليوة"، ذاك الفن المتولد من الساحل الإفريقي، والقادم لدول الخليج -على الراجح- من زمن الحكم العُماني السالف في زنجبار، هذا الفن الذي تزاوج وامتزج مع الفن الخليجي فيما يمكن تسميته بموسيقى الساحل، (تتشابه كثيراً موسيقى السواحل في دول العالم)، حيث الطبول بلحنها الإيقاعي الراقص، والمزمار المتداخل معها، وحيث الابتهاج بالماء والحياة؛ وحيث حالة النشوة الجماعية التي لا يمكن فيها تمييز الفردانية في مثل هذا العزف. بدت الفرقة وكأنها تمارس احتفائية مسائية تستعيد ماض ولّى وتأبى ذاكرته الجمعية على التخثر، كان العزف يسير بوتيرة ثابتة ترتفع فيها صوت الآلات تارة وتنخفض أخرى، ما يعكس أيضاً خصوصية هذا الفن (الليوة)، كفن منبسط وممتد إيقاعياً على مدار السلم الموسيقي من الثلاثي وحتى السّباعي.

سألت مشرف العرض عن كلمات الأغنية، فأخبرني أنها أغنية خاصة بعودة البحارة سالمين غانمين، حينها اختفت من مخيلتي الصورة المصدرة دائماً للخليج كمراعي خصبة لحقول النفط والدولار، والشاشات التي تتابع المؤشرات صعوداً وهبوطاً في بورصات المال العالمية، توارت عني الأبنية الأسمنتية الشاقة السماء بجبال الألمونتال النابتة في قلب الصحراء، لتطفو روح الخليج العربي العميقة، حيث البحّارة والنواخذة والطواشي يصارعون الموج، وينتزعون من مخالب البحر أصداف اللؤلؤ وأسباب المعاش، وحيث الأمهات والزوجات يقبعن في انتظار الغائبين ويرجون البحر أن يترفق بأصدقائه القافزين بالسفن على ثبج الماء، سفن الغوص التي كانت تتمتع بتراتبية صارمة في الإدارة، تشبه التراتبيات العسكرية، وربما لهذا الأمر كانت تنتهي رحلة الصيد بطلقة من مدفع تُلقى من السفينة باتجاه الشاطيء، مؤذنة ومعلنة بداية رحلة العودة، فَيُسرُّ من رزق ويرجو من لم يحالفه الحظ أن يوفق في المرة القادمة، فضلا عن الحزن في أحيان كثيرة لموت أحد البحّارة في عرض البحر، والتي كانت جثته تواري الثرى في إحدى الجزر القريبة من رحلات الغوص هذه.


الطّبلُ

للإيقاع والغناء والأهازيج في التراث البشري ميراث طويل، ميراث رافق الإنسان عبر آلاف السنين من تاريخه، فقد استخدم الغناء كنوع من الترفيه والتحميس والابتهاج، واستخدمه أيضاً في مراسم الحزن وطقوس الدفن.
 في البِدْء المُوسيقِيِ كان الطبل ولم يكن غيره، كانت هي الأداة الوحيدة التي استخدمها الإنسان الأول محاكياً بها صوت الرعد، وغيرها من ظواهر الطبيعة الصاخبة، وعلى ضوء النار وقرع الطبول أقام "الهوموسبيان" أولى حفلات السّمر، ربما هذا يفسر أن الطبل أداة موسيقية مشتركة في كل الثقافات العالمية، ولاسيما الإفريقية منها بالخصوص، التي يلعب فيها إيقاع الطبل دوراً سسيولوجيا يتخطى حاجز الموسيقى والمتعة ليصبح وسيلة للتفاهم والتفاوض، وعقد الهدنات بين القبائل المتحاربة.

في فنِّ الليوة تستخدم مجموعة من الطبول تترواح كبراً وصغراً تُسمّى "مسندو"، يستخدمها العازف صعوداً وهبوطاً؛ بينما تدور المجموعة الراقصة حول عازف الطبل خطوتان إلى الأمام، وخطوتان إلى الخلف مع التفاته جانبية تذكرنا بالرقص الصوفي في صعيد مصر.

يتم الدوران عكس عقارب الساعة؛ وللمفارقة العجيبة هي نفس حركة دوران الأفلاك، ونفس حركة الدوران الراقص لدراويش الطريقة المولوية؛ وهي أيضاً نفس طريقة الدوران الراقص للهنود الحمر والقبائل الإفريقية حول النار، ربما هو ارتباط الإنسان بحركة الكون السيارة التي لا تتوقف والتي هو جزء منها، وربما كان دوران الساعة نفسها عكساً لحركة الكون هو نوع من التمرد على الزمن.
 

النّاي

الناي أيضاً هو المشترك الموسيقِيِ الآخر في كل حضارات العالم المتعاقبة، هو انعاكس لروح الإنسان وتأملاته وأحزانه ومواجعه، عرفه الهنود الحمر؛ عزفوا ألحانه على ضفاف الجداول وتحت النجوم في الفيافي والسهول، من البحر أتت مراكب الغزاة؛ فصمت صوت النّاي، وحلّت محل حكمة الهندي الأحمر، حضارة مادية صاخبة لا تقيم سوى للمنفعة وزناً.

في الموسيقى التركية يحتل الناي مقاماً بارزاً؛ في المفتتح يكون العزف هامساً متسرباً يتخلل مسام الروح، ثم على وقع أنغام الدفوف يبدأ الدراويش في الدوران بيد مرفوعة باتجاه السماء، وأخرى باتجاه الأرض، من ثم تبدأ الحركة ببطء ولين، ثم تتواصل صعوداً بعد ذلك. يقول مولانا جلال الدين الرومي عن الناي: (إنّ النّاي نَديمٌ لكُلّ مَن فَرّقَهُ الدّهرُ عن حَبيب، وإنّ أنغامَهُ قد مزّقت ما يغشّى أبصارنا من حُجُب).

في مصر كان النّاي رفيق أحزان الفلاح، تكثر مواويل الحزن الممتزجة بعزف النّاي على ضاف النيل، مواويل الغربة واللوعة والهجران؛ مع أن المصريين أقل شعوب العالم حباً للسفر، تفرض عليهم الهجرة فرضاً لأسباب معاشية غالباً.

في إحداثيات زمن السخرة كانت فرق الخيالة تهبط على القرى كالقدر، فتسوق الفلاحين لحفر الترع والمساقي والرياحات والمشاريع الكبيرة، ينتزعون من بيوتهم وأرضهم للعمل تحت ضربات السياط. مات في حفر الرياح التوفيقي قرابة اثني عشر ألف شخص، وفي قناة السويس مائة وعشرين ألف.

قاوم الفلاح المصري قبح الواقع هذا وشبح الموت بالغناء والمواويل؛ بالنّاي عزف حنينه إلى دياره (بلدي يا بلدي وأنا نفسي أروح بلدي)، وعزفت النسوة المنتظرات للأزواج والأبناء نفس اللحن (يا عزيز عيني السلطة خدت ولدي)، لحن ممتزج بالقهر والموت والنواح.

وللنّاي في الموسيقى الشرق آسيوية حضور، يُعزف هناك بنعومة تنساب كخرير الماء في نهر هادئ. في إحدى زياراتي لشرق آسيا كنتُ أستمع لأغنية صينية حزينة، تذكرت بشجن قريتي القديمة في عمق الدلتا المصرية، الأغنية التي اكتشفت بالمصادفة أن كلماتها تتحدث عن غريب يبث شكواه ويحن إلى دياره، وتلك هي عبقرية الناي المتخطية حواجز اللغة والعرق.

في فنّ "الليوة" تعد آلة النّاي "النفخ" هي الآلة الثانية مع الطبل وتسمى "الصرناي"، وتعزف بطريقة عفوية ككريشندو متصاعد صاخب وحماسي، ما يخلق حالة فريدة بين الفرقة العازفة والجمهور، كحال الموسيقى الحماسية دائماً. وهو تأثير للموسيقى باختلاف أنواعها يذكرنا بالقصة المنسوبة للفيلسوف "أبي نصر الفارابي" التي تقول: بأنه عزف لجمهوره لحناً موسيقياً فضحكوا، ثم عزف لحناً آخر فبكوا، ثم عزف لحنا ثالثاً فناموا؛ ربما كانت القصة –التي لا يمكن التأكيد على وقوعها فعلياً- رمزاً على أن الموسيقى هي المحاكاة الأجمل والأبهى للحياة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها