الغربة والقلق

رؤية للأشكال الثقافية والأدبية الحديثة "الشاعر أنموذجاً"

زكرياء الزاير


يستند منطق الحداثة إلى أفول أصنام الثبات ويحدد لمسارها خطاً دينامياً متحولًا، يسعى إلى التجديد المستمر والابتكار والخلق اللامتناهي للأشكال والتصورات. إنها رؤية متفردة للعالم وللطبيعة، وما بعد الطبيعة، وللذات والآخر.. تعلي من شأن الفرد/الإنسان أنطلوجياً وثقافياً، وتُمعير كل العالم وفق ذاتيته، إنها تقويض لنُظم قديمة وتأسيس لما من شأنه أن يقدس قيمة الإنسان.


إن الحداثة هي "ذلك الوعي الجديد بمتغيرات الحياة والمستجدات الحضارية، والانسلاخ من أغلال الماضي والانعتاق من هيمنة الأسلاف، ليست مقصورة على فئة أو طائفة أو جنس بعينه بل هي استجابة حضارية"1. يعتبر جان بودريار الحداثة صيغة متميزة عن الصيغ الأخرى؛ ما يعني أنها تناقض واختلاف مع كل الروافد الثقافية السابقة، إنها حدث يفرض نفسه أمام التنوع الحضاري والرمزي2. والشاعر اليوم تغيرت رؤيته للعالم الذي يعيشه كما تغيرت موضوعاته وتغيرت رؤيته لأدواته. ما كان نتاجاً لفتح النص الشعري على أفق متغير وتجديدي.

فلقد تفاعل الشعراء مع التراث فعلياً، من خلال الشخصيات الدينية، أو التاريخية، فدأب الشعراء المعاصرون إلى العودة إلى التراث، الذي شكل رافداً أساساً من روافد الحركة الشعرية المعاصرة، واعتمدوا عليه وأخضعوه لتجاربهم، في قراءة جديدة لنص جديد3.

وقد اتجه بعض الأدباء المعاصرين إلى خلق أساطير معاصرة تتناسب والتجربة الشعرية، فعادوا إلى ذواتهم، ملتجئين إلى ممالك الرغبة والأحلام، يستقون منها أساطير جديدة، ربما استقوها من الواقع. كما نجد أن الشاعر الحديث وظف رموز الأسطورة في بنية القصيدة، على اعتبار أنها (الرموز) لغة تقوم بإيصال الفكرة والمتعة الشعريتين، وإن استلهامها يثري العمل الفني. وقد وظفها الشاعر العربي باتجاهين: (خارجي آلي، وداخلي بنائي عضوي). وبذلك يقف الشاعر في خط كرونولوجي مستوي ما بين الماضي والمستقبل.

وإن دينامية الحركة الزمنية تعصف به بعيداً عن جوهر الأشياء التي تقابله، ولأن الشاعر يتميز بطبيعته التكوينية بالحساسية الفائقة، فلا يمكنه أن يلامس الأشياء ويرحل عنها دون استبطانها واستكناه معالمها الجوانية، بل والتوحد معها إلى حد بعيد، فالشاعر يحيا في العالم فهو موجود فيه، إنه "دايزان" بلغة هيدغر. لكن تختلف فاعلية وجوده أو ماهية وجوده من حيث هي انخراج، إدراك، وتصريف/إنتاج، عن باقي سائر طبيعة الكائنات الأخرى، فوحده الشاعر يستدعي حدث الكينونة الإنسانية، (هذه الكينونة المنفلتة) جراء الغوص في اليومي المبتذل والتافه، في أرقى الحلل الإنسانية، وهي حلة جمالية وذلك انطلاقاً من اللغة لما لها من قدرة على سبر أغوار الكون حفراً للوصول إلى جوهر الأشياء.

إننا نعيش داخل اللغة ونفكر فيها وبها أو على حد تعبير هيدغر؛ إن اللغة بيت الكائن ومسكنه الأصيل الذي يؤثث فيه لكينونته. بل هي نزل الكينونة الذي يتكفل الشاعر المفكر بالسهر على إجلائها (اللغة) وبعثها من خلال القول. أما الجمال بما هو الصيغة المبررة للشعر أو الغاية فيحدث لحظة ما يعري الشاعر اللغة ويخلصها من كل شوائبها ويبرزها في حلتها الأولى التي هي في الأصل، ليست إلا تلك الحلة الجمالية بين الحياة والحلم.

والحلم باعث للحقيقة والحقيقة باعثة للمعنى، والمعنى باعث للكتابة... وحياة الشاعر تتجه دائماً نحو الظفر بالمعنى في صراع مع الوقت، لذلك فوحده يحيا حالات الوجود المتمثلة في الهم والخوف والقلق. من ثمة تصير ماهية اللغة من خلال هذا التصور ليست وسيلة للفهم، فهي ليست دربة أو وسيلة يتحيزها الإنسان، بل إنها بمثابة فأس أصيلة تحفر بحثاً عن معدن الكون وحقيقته، إنها كائن حي يحكم طبيعة علاقتنا بالأشياء ويمكننا من بلوغ جوهرها.

فما يقوم به الشاعر هو شق طريق العودة إلى أصالة المعنى إلى شغف البدائي واحتفاله بالوجود، وبذلك فإن الشاعر بعبارة أخرى، يتفاعل مع العالم بكل موجوداته فلا يتوانى في أن يلتفت للآخر في كل حين، على اعتبار أنه الذات المشاركة في الوجود والمصير المجهول. إن فعل المشاركة هذا يتأسس على قدر كبير من الدراما التي تتمثل في بعد امتدادنا في الآخرين وامتدادهم فينا بكل كوامله ونواقصه، بالتضحية والمسؤولية.

وبذلك يكون الشاعر غير غافل عن طبيعة الإنسان الأصيلة، التي تستدعي التحديث والتحديث المستمر. فنحن أنانيون دون شك، أي مرتبطون أوثق ارتباط بذواتنا، وبسعينا الدائم للاستمرارية. أما حديثنا عن القيم الأخلاقية الكبرى (الحب، الصداقة، الفضيلة) فلا يتعدى حدود الشعر أو الحماس النوسطالجي أو بلغة السيكولوجيا لا يتعدى حدود الرغبة الملتبسة؛ أي ما النُظم الأخلاقية إلا استجابة لنداء العقلانية فينا، لأن للإنسان هذه النزوعات "القورينائية"4؛ أي أنه ميال بالضرورة لصرخته الأولى، الفطرة، السليقة، أي لتلبية نداء الطبيعة إجمالًا، فإن إمكانَ التواصل مع الآخر في أفق الفضيلة يعدو ملتوياً، صعباً، منيعاً، إضافة إلى شكل الوجود التراجيدي الذي يحملنا تارة إلى الآخر بغية فسحة من الحياة في هذا العالم الموحش الذي جفت فيه كل ينابيع الحياة، وتارة يرجعنا خائبين إلى ذواتنا في حركة لولبية أزلية.

إن فصل الشاعر عن العالم يعني موت الشاعر فعلياً ورمزياً، وبما أن الآخر جزء من موجود العالم.. وبما أنه وحدة عضوية في تكوين شخصية الشاعر ومعرفته بذاته فلا يمكن أن نتحدث عنه بمعزل.

إن الأثر التراجيدي في رهبة الإنسان من مصيره ومصير الكون، جعله يختلق فسحا للتواصل خارج عبء الإدراك العيني والمحتوم لذا كانت أقرب الصناعات الإنسانية مقدرة وأصالة في الإنسان، هي صناعة الشعر، أو لنقل إنتاجه على اعتبار أنه الشكل اللغوي الأكثر التصاقاً بطبيعة التجربة البدائية، بوصفه ردة فعل طبيعية مقابل نزعة الخوف/الفهم بدءاً بالشعر والغناء، والمسرح والميثولوجيا وصولا إلى اللوغوس5، فمن ثمة لنا أن نفسر تطور فن القول في أفق البينذاتية6. فكل إنتاجات القول الشعرية بما فيها الدرامية على وجه الخصوص، تصب في ذات الشاعر والآخر مقابل العالم والكون والمصير.

فينطلق الشاعر، في سعيه، بدءاً بهذا المعنى الوجودي العام التي تميزه فكرة الهروب من العالم إلى شخص الصديق أو الحبيب، لينتقل إلى أفق أعمق وهو أفق العاطفة والمشاعر الإنسانية النبيلة كالحب والصداقة والعطاء والاحترام، حيث يحقق الإنسان في هذا الأفق المعطى الإنساني فيه، أي بما هو إنسان، ثم ينتقل إلى مقام أعمق وأجل هو مقام الغيرية، أي الحياة من أجل الآخر والعطاء اللامشروط والتفاني في الحب، ثم إلى انعدام الحدود وإلى التوحد، فيصبح الآخر مرآة نرى فيها العالم بأكمله، فيصبح هو المعنى نفسه الذي يتجسد في العالم معكوساً. إنها دروب الشاعر لحظة الانفتاح على الآخر، لحظة الخروج من الذات والعودة إليها محملا بشتى المشاعر والرؤى والأفراح والخيبات. لحظة الخروج من فراغ العالم الفردي والعودة إليه مرهقاً بالمعاني.

إن الشاعر والعاشق كلاهما واحد في بحثهما عن المعنى، وعن الذات وعن معنى الحياة فيحدث وعيه الجمالي في لقائه بموجودات العالم وتفاعله معها.

تتزامن هذه الحالة الوجودية بالحياة اليومية التي تعجن في حركيتها الآلية كل مبادئ الحياة الروحية. لذلك ينزوي الشاعر بعيداً عن الضوضاء واللغط التافه. فيفقد احتمالية الظفر بالمعنى وفهم طبيعة هذه الحياة البائسة، وإن تعددت أشكال فرحتها الكاذبة.

إن وقع الوجود على الشاعر اليوم، أكثر شدة من غيره؛ لأنه يمتلك حساسية مرهفة باللغة وإدراكاً بالعالم الواقعي فيحيا تجربته بكل تراجيدية وألم، ولا يجد غير الشعر مهربا من حالة التشظي أمام الأسئلة التي يطرحها اليوم؛ محملا بكل أسباب القلق والاغتراب. فيحفر بعيداً في الكون وصولا إلى الحجر الفلسفي للسؤال الأصل، لماذا الوجود؟

 


هوامش:
[1]. مجلة عالم الفكر، المجلد التاسع عشر، العدد الثالث، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1988، الكويت، ص: 6.
2.
أنظر Jean Baudrillard, Simulacra and Simulation, Stanford University Press, 1988, pp. 166.
3 . ظاهر محمد هزاع الزواهرة، التناص في الشعر العربي المعاصر، التناص الديني نموذجا، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، ص: 10.
4. الفلسفة التي تدعو إلى اللذّة كمذهب.
5. تدل في سياقات شتى على مدلولات متعددة، كالخطاب، اللغة، العقل الكلي، كلمة الإله، من بين معان أخرى.
6 .هي أن تعي الذات تموقعها بين الذوات الأخرى.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها