فيزياء الإخراج المسرحي

د. عباس عبد الغني


تقعُ على عاتق المؤلف للنص المسرحي مسؤولية توضيح الجمل الحوارية، والإرشادات التي ينوي فعلاً أن تكون ضمن منظومة النّص المتحول إلى عرض، فالمؤلف هنا باثٌّ حيّ لفكرة تتمحور فيها جملة من الأفكار والمعتقدات التي يرويها على لسان شخصياته، هذه الأفكار تتحول إلى حركات يقوم بها الممثلون على الخشبة، وِفق منظومة وعي المخرج، هذا الأخير ينظم الحركة بإيقاع متوازن متسارع متباطئ، جميع هذه الأفكار المتحولة والمترجمة لأفكار المؤلف للنص هي تقينة الإخراج المسرحي.
 

إن جملة التفاصيل التي ترافق الحكاية في النص الأساس، هي تفاصيل تحمل بطياتها شروحات الرؤية الإخراجية لمؤلف النص وفق تصوراته الأولية للقصة، هذه التصورات تتشعب في ذاكرته فتنطلق وفق موتيفات معينة، تصل للمخرج المسرحي فيقرأها قراءة مطابقة فيكون أميناً على فكر المؤلف، أو يقرأها قراءة مغايرة فيكون مبدعاً بنص جديد للعرض، فالمخرج هو مؤلف ثان للنص، هذا النص الجديد هو رؤية ثقافية واجتماعية وسياسية لمبدع آخر يختلف عن إبداع المنتج الأول للنص. 

تتمخض عن رؤية العرض نتاجات جديدة تختلف عن نتاجات الأفكار المطروحة في النص الأُم، لها صفات وطباع مغايرة. فضلاً عن ابتكار مشاهِد لا وجود لها في النص الأصلي، لهذا فالذائقة الفكرية للمخرج المسرحي تكون منتجاً لتقنية جديدة، تتحرك وتنتج في وعي المتلقي جملة من القضايا التي تهم الوعي الحاضر لزمن التلقي.

تندرج الهيكلية الإخراجية في أي عرض مسرحي وفق مستويين: الأول: الجانب الحكائي الروائي الملفوظ، هذا الجانب محكوم بفلسفة حوارية، تعتمد على الممثل بكل تجلياتها وتماهيها مع الواقع والخيال، والمستوى الثاني: الحركي الجسدي الذي يكون بمشاركة التقنيات الأخرى على المسرح، كالإضاءة والديكور والإكسسوار التي تشكّلُ بمجملها الفعل غير الملفوظ.

إن تقنية الإخراج المسرحي وفق منظوري كمشتغل في حقل الإخراج المسرحي لأكثر من ثلاثة عقود، تندرج في أن النص المسرحي هو مساحة حرة للاشتغال والاستنباط والتحليل لمعطيات حياتية، كما أن المشتغل في عملية الإخراج المسرحي يعي أن العملية الإخراجية هي كتابة جديدة لنص عرض، يبدأ بالقراءة الأولية للنص مروراً بعملية الاختيار الأولى للممثلين، ثم قراءة الطاولة المستديرة التي يجتمع فيها الممثلون والمخرج، ويبدؤون قراءتهم للنص مشكلين بذلك الجانب الصوتي للنص الصامت الذي بقي رهن الرفوف وأروقة المكتبات.

بعد عملية القراءة تبدأ عملية توزيع الأدوار، كل حسب دوره ومساحته الجسمانية والنفسية والفيزيائية للدور، ثم بعد القراءة الثانية هناك قراءات متلاحقة، يعقبها الاشتغال على الحركة على المسرح، حيث يتحرك الممثلون كل حسب دوره ومساحته في الحركة، وهذا الجانب يساعد الممثل في حفظ دوره وتشكيل حركته الفيزيائية على الخشبة، وهذه القراءة الحركية للنص تساعد الممثلين على تشكيل معالم دورهم، وتساعد المخرج في وضع المعالجة المناسبة لنص العرض الجديد الذي سيولد بعد أسابيع أو بعد أشهر.

يتمحور فيزياء العرض في الحركة الجسدية للضوء والظلام، الممثل والديكور، الإكسسوار والممثل، كل ثنائي له دوره في تقديم الجانب الحكائي للقصة المسرحية، التي ألبسها المخرج لبوس العرض الجديد.

وبعد الحركة وحفظ الأدوار يأتي دور مصمم الضوء الذي يضع لمساته في الخشبة، وتقنية الضوء هذه هي من تلاحق الممثل وتكشف ما يُكنّه في صدره من حكايا يود أن تصل للمتلقي، وكذلك يفعل صانع الديكور، ومصمم الموسيقى الذي يزامن الحوارات مع وصلاته الموسيقية، جاعلاً من المشهدية المسرحية قطعة متكاملة في فضاء العرض.

بعد الرحلة الركحية يضع المخرج لبنةً أساسيةً في أي عرض مسرحي، وهي الإيقاع الذي يجعل العرض متناسقاً منسجماً مع رؤية المؤلف، فالإيقاع يبرمج رؤيته الإخراجية، ويضع النقاط على الحروف في عملية التلقي المتكامل لفيزياء العرض المسرحي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها