القافية ودورها في الإيقاع الشعري

د. عبد المنعم مجاور


يَحْسُن بنا أن نستهلّ هذا المقال بسؤالين جوهريين يحدّدان وجهتنا فيه، ويترسّم بهما القارئ الكريم ما نرمي إليه: هل القافية لازمة من لوازم الشعر العربي وحده أم أنها كذلك في لغات أُخَر؟ وهل هي في الشعر العربي أمرٌ جوهري أم أنها حِلية يمكن الاستغناء عنها؟ وعلى ضفاف هذين السؤالين تنبت أسئلة أخرى، نطرحها ثم نشرع في الإجابة عنها، ولعل أكثرها إلحاحًا هو ذلك السؤال الذي يظهر ثم يغور، ثم ما يلبث أن يطفو على السطح من جديد، وهو: لماذا يَعُدُّ كثيرون من [الشعراء] القافية عائقًا أمام تدفق مشاعرهم؟ وعقبة كأداء في طريق تحليق خيالهم؟ هل العيب في العائق -إن كان بالفعل عائقًا- أم أنه عجز ممن خاض السباق ولم يستطع اجتيازه؟ لماذا لم تُعَدُّ القافية عائقًا أمام الشعراء الفحول، وسَدًّا منيعاً أمام مُطولّاتهم؟ هذا، مع الوضع في الاعتبار قول عمرو بن العلاء: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلُّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير" [المزهر، ج2 ص: 237]. 


وبالرغم من ذلك فقد قال العرب على اختلاف مشاربهم، وتعدد مضاربهم الشعرَ، وكان فن القول الأثير لديهم، ولولا قليل من الخُطَب والأسجاع لقلنا: إنه فنّهم الأوحد؛ فسببٍ من ذيوع الشعر فيهم، وجريانه على ألسنتهم يُخيَّل إليك أن كل عربي وعربية شاعر وشاعرة، يتعاطاه -كلٌّ قَدْر نَفَسِه فيه- فمن الملوك والأمراء إلى الفرسان والحكماء، ومن الصعاليك والعبيد إلى المجرمين والمرضى والمجانين، كلُّ هؤلاء وغيرهم قالوا الشعر ولم تقف القافية عائقًا أمام إجادتهم فأين الخلل إذن؟ إذا أردت الحقيقة فما عليك إلا أن تُمسِك بديوان شاعر ممن يجدُر بهم اللقب كشوقي مثلا أو غيره وتنظر في عدد أبياته وقوافيه، كيف وصلت إلى هذا الحد والعدد دون شكوى منه ولا تبرُّم.. فأين المعضلة إذن؟

 يقول الجاحظ: "إنَّ كل شيء للعربي إنما هو بديهةٌ وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة ولا استعانة؛ وإنما هو أن يَصْرِفَ هَمَّه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناضلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يعيده على نفسه، ولا يُدرِّسه أحدًا من ولده" [البيان والتبيين، ج3، ص: 13]. 

على أن كلام الجاحظ السابق ينبغي أن يوضع في سياقه الصحيح، فلا يقود إلى القول بسهولة ورود القوافي على أذهان الشعراء وخواطرهم؛ إذْ إن حرصَهم على تجويد أشعارهم، وإحكام قوافيهم جعلهم يبذلون في سبيل ذلك جهدًا كبيرًا، وهذا هو الفرق بين شاعر وشاعر؛ شاعر يأخذ شعره بالتنقيح والتعديل، وما شعراء الحوليات منّا ببعيد، وشاعر آخر يريد أن يركب المركب الصعب وهو ملقى على ظهره، يتسلّى بما يشغله غير قول الشعر، ثم يطمح في أن تأتيه المعاني والأفكار دونما كدّ، وتواتيه القوافي تترى بلا عناء، فأنّى له ذلك؟!

دعني أضع بين يديك صوراً من عناية الشعراء القدامى بقوافيهم، ومعاناتهم في إدراك جيّدِها، فها هو فُوَيد بن كراع، يصف معاناته في سبيل الحصول على القافية فيقول:
أبيتُ بأبوابِ القوافي كأنّما .. أُصادي بها سَربًا من الوحش تُرَّعا 
أكالئها حتى أُعرِّسَ بعدما .. يكون سُحَيرَا، أو بُعيدًا فأهجما


أمّا المتنبي الذي يقول: 
أنا الذي نظَر الأعمى إلى أدبي .. وأسْمعَت كلماتي مَن بهِ صَمَمُ
أنامُ مِلْءَ جُفُوني عن شوارِدِها .. ويَسْهَرُ الخلقُ جرَّاها وَيَختَصِمُ


 فلا تظننّ أنه قد طلب القافية فأتته طائعة مختارة، أو أنّه لم يُعْمِل فِكره، ويكدّ خاطره لإدراكها، بل إنه قد فعل ذلك وأكثر منه، ولكنّه غرور المتنبي وكبرياؤه ورغبته في إظهار تفوقه على غيره من الشعراء، فيظهر بصورة المتمكن الذي يرتاح في طلب ما يَشقى فيه غيره؛ إذْ لو لم يكن الحصول على القافية المنشودة أمرًا يشغل الشعراء -وهو منهم- ما كان مدعاة لفخره عليهم. 

 هذا، وقد كان النقاد على وعي بهذا الأمر، وإدراك له، لذا عُنوا به، وراحوا يُدلُون بِدَلوهم فيه، فقدّموا بين أيدي الشعراء ما يعينهم على الإبداع؛ من اختيار القافية الملائمة والوقت المناسب لتصيدها، ومن هؤلاء بِشْر بن المعتمر الذي قَدّم نصحه للشعراء قائلًا: "وإذا أردت أن تعمل شعراً فأحضِرِ المعاني التي تريد نَظْمَها فكرَك، وأحضِرْها على قلبك، واطلب لها وزنا، يتأتَّى فيه إيرادُها قافية يحتملها، فمن المعاني ما تتمكن من نَظْمه في قافية، ولا تتمكن منه في أخرى، أو تكون في هذه أقرب طريقاً وأيسر كُلفة منه في تلك، ولأنْ تعلو الكلام فتأخذه من فوق فیجيء سلسًا سهلا ذا طلاوة ورونق خيرٌ من أن يعلوك فيجيء كَزًّا فِجًّا، ومتجعداً جِلْفًا" [الصناعتين لأبي هلال العسكري، ص: 45].

إن الذي يحدّد صداقة القافية للشاعر وطواعيتها له، أو عداوتها له، ونفورها منه أمران: أولهما؛ مَلَكة الشاعر، وموهبته، يدعمها في شِقِّها الثاني: اطّلاع واسع، ودُرْبة دائبة، ولا يتأتى له النبوغ إذا فقدَ الشِقّ الأول المتعلق بالطبع مهما جدَّ واجتهد في الشِقّ الثاني؛ لأنه سيكون أقرب للتصنع منه للطبع، ولا تعجب إن وجدته حينَها شاكيًا القافية، متبرّما من الوزن، ناعيًا على المتمسك بهما. 

لقد عُرفتْ القافية في الشعر الأوروبي، ولكن بدرجات متفاوتة؛ فهي ركن ركين في ذلك الشعر القائم على النبر، وهي حِلية شكلية في الشعر الكمي؛ لأن إيقاع وحداته الصوتية داخل البيت تغنيه عن إيقاع القافية. [انظر: القافية والأصوات اللغوية، ص: 9، محمد عوني عبد الرؤوف]. ولأن الشعر العربي قائم بالأساس على النبر والتنغيم اللذين يتجليان في النطق والأداء والإلقاء كان للقافية فيه دورها الذي لا يُنكَر؛ فأضحتْ عمدةً فيه، لا عبئًا عليه، بل إنه من غيرها لم يكن ليعد في عرفهم شِعرًا من الأساس، وما تعريف قدامة بن جعفر للشعر بأنه: "قول موزون مقفّى يدل على معنى" إلا دليل دامغ على مكانة القافية وإيقاعها، ومنزلتها وحُسن اختيارها للقصيدة. 

إنّ لفظ "القافية" ومنطوقها يشيان بمعناها، ويؤديان إلى دورها المنشود منها؛ يقول ابن رشيق القيرواني:" وسُمّيتْ القافية قافيةً لأنها تقفو أثر كل بيت" [العمدة، ج1، ص: 154]. فهي تدل على التتابع، قال تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [المائدة، 46]؛ أي أتْبعناهم بعيسى بن مريم، ومن واقع هذا التتابع يتجلّى دور القافية السياقي التداولي فكأن الشاعر/المرسِل يقفوها، بل إن دورها الإيقاعي التداولي لَيُحيلُ إلى أثرها في المتلقي/المستقبِل ليظل للمرسَلة/القافية دورها الذي لا ينكر بتحقق عناصر التواصل الثلاثة. 

إن القافية لا تعدّ عبئاً ثقيلًا على الشعر أو الشاعر؛ إذ إنها جزء من الإيقاع الشعري بل هي "تاج الإيقاع الشعري" كما يرى أستاذنا الدكتور أحمد كشك الذي ألّفَ كتاباً يحمل هذا العنوان؛ لأنها مرتبطة بالوزن ارتباطًا مشيميًّا إن صح التعبير، وإذا كان ثمة تعارض بين اللغة والإيقاع الموسيقي فإنّ إيثار الجانب الإيقاعي على الجانب اللغوي هو الغالب؛ لأن "سلامة الإيقاع غاية أولى تعلو سلامة بعض القوانين اللغوية" [القافية تاج الإيقاع الشعري، ص: 115]. على أن ذلك يكون في إطار حدود ضيّقة؛ إذْ إن الشعراء الكبار قلّما يقعون في تلك المعضلة؛ اللغة أم الإيقاع؟ أمّا أن يجري الترخص على ثوابت اللغة لجهل بمعرفة قواعدها، وعجز عن إدراك مراميها، وفساد ذائقة يحول دون تذوق جمالها فذلك ما لا يقبله مُنصِف، محبّ للغته، غيور عليها؛ لأن القافية أساس الإيقاع الشعري، وذروة سنامه، ولم يعانِ الشعراء في سبيل الحصول على أيّة قافية يُغلقون بها البيت فتُحدِث إيقاعاً دون معنى، أو تنبو عن سياق إيقاعي متكامل يشمل القصيدة ويحفظ عليها وحدتها الإيقاعية جنبًا إلى جنب مع وحدتها العضوية، ووحدتها الشعورية، وإنما كانت معاناتهم في سبيل إدراك قافية لا يصلح للبيت غيرُها، ولا يُكمل البنيةَ الإيقاعية سواها، والفرق بين هذا وذاك كالفرق بين المجيد من الشعراء ومن هم دون ذلك.
 

القافية وعلماء البلاغة

لقد عُني علماء البلاغة بالقافية والألوان البلاغية التي نشأت ونجمت عنها؛ وذلك لاهتمام الشاعر بالموسيقى الداخلية في الأبيات، وسأسوق هنا -في لمحة سريعة- باقةً من تلك الألوان، وأمثلة عليها لبيان اهتمامهم بالقافية، وحفاوتهم بها وبما يُولَدُ من رَحِمها؛ كالترصيع، والتشطير، والمجاورة، والتَّعطُّف، والتوشيح أو التبيين، ورَدّ الأعجاز على الصدور. 

أمّا الترصيع؛ فهو أن يكون حشو البيت مسجوعًا، كقول الخنساء: 
حَمّالُ أَلوِيَةٍ هَبّاطُ أَودِيَةٍ .. شَهّادُ أَندِيَةٍ لِلجَيشِ جَرّارُ

وأمّا التشطير؛ فهو توازن المصراعين والجزأين وتعادلُ أقسامِهما مع قيام كل واحد منهما بنفسه، واستغنائه عن صاحبه، كقول البحتري:
شوقي إليك تفيضُ منه الأدمعُ .. وجوىً إليك تضيقُ عنه الأضلعُ

وتُعدُّ المجاورة؛ من تلك الألوان البلاغية المتعلقة بالقافية: وتعني تَرَدُّدَ لفظتين في البيت مع وقوع كل واحدة منهما بجوار الأخرى أو قريباً منها، كقول أبي تمّام:
وما ضِيقُ أقطارِ البلاد أضافني .. إليك، ولكن مذهبي فيك مذهبي

أمّا التَّعطُّف؛ فهو أن تَذكرَ اللفظ ثم تُكرِّرَه، والمعنى مختلفٌ، كقول أبي تمام:
السيف أصدق أنباءً من الكتبِ .. في حدّه الحدُّ بين الجِدِّ واللعبِ

ومن تلك الألوان البلاغية التوشيحُ أو التبيين وهو أن يُخبِرَ أولُ الكلام عن آخره، ويشهد صدُره لِعَجُزِه فلو أنك قد سمعتَ صدر بيت منه لوقفتَ على عَجُزِهِ قبل بلوغِ السماع إليه.. وهذا النوع يدل على قدرة الشاعر وتمكنه من الإفصاح عما يريد فتأتي قوافيه بلا معاناة أو تكلف، كقول البحتري:
فليس الذي حلّلتَه بمحلَّلٍ .. وليس الذي حرَّمتَه بحرام

أمّا ردُّ الاعجاز على الصدور؛ فهو موافقة آخر كلمة في البيتِ كلمةً وردت به سابقةً لها، كقول جرير:
زعم الفرزدقُ أنْ سيقتُلُ مِربَعا .. أبْشِرْ بطولِ سلامةٍ يا مِربعُ

وكقول امرئ القيس: 
إذا المرءُ لم يخزِن عليه لسانَه .. فليس على شيءٍ سواه بخزّانِ

وكقول الشاعر: 
سريعٌ إلى ابن العمّ يلطم خدّه .. وليس إلى داعي الوغى بسريعِ

تلك كانت إطلالتي على القافية ودورها في الإيقاع الشعري، وعلى أهم الألوان البلاغية التي نتجت عنها، ونبتت على شواطئها، سُقْتها دون الخوض في كثير من تفاصيلها تدليلًا على دور القافية في ذلك الإيقاع الشعري، وأنها جزء لا يتجزّأ منه، يَحسُن بحسنها، ويصيبه الضعف والوَهَنُ ما أصابها ذلك، ليعلم كثير ممن أرادوا التخلي عنها بحجة تعطيلها انطلاقاتهم، وحدّها من بلوغ الغاية من تدفق مشاعرهم أنها معين على كل ذلك لا عائقة له ولا حادَّة منه ما كان الشاعر شاعراً بحق الكلمة؛ شاعراً مطبوعاً لا متصنعاً، قارئاً لعيون القوافي قديمها وحديثها، آخذاً نفسه بالعزيمة في الدربة وبذل الجهد؛ لتزداد حصيلته اللغوية التي تمكّنه من اصطياد ما يجمل من القوافي، ولن يتأتى ذلك بعيدًا عن التراث الشعري الزاخر، الذي يصقل الموهبة، ويضع الشاعر الحقيقي على درب الكبار، فيُسمَع له ويُقرأ، وتحلّل قصائدُه وتُنشَر، ويُتَمثَّل بأبياته ويُستشهَد، ويُفسَح لشعره المجال على صفحات المجلات السيارة، والدوريات الرصينة، فتحتفي به وتحتفل، ولا غرو فما كانت القبيلة العربية تحتفل إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تُنتج" وانظر -رحمني الله وإياك- إلى دقة قول ابن رشيق: "أو شاعر ينبغ فيهم"؛ إذْ لم يكن احتفاء القبيلة واحتفالها بأي شاعر جرَتْ على لسانه أي أبيات، أو أنشد قصيدة دون الغاية والمراد؛ وإنما "شاعر" بلغ حَدَّ النبوغ، فمتى بلغه استحق هذا الاحتفاء، وذلك التكريم، وما بلوغ ذلك النبوغ بمعزل من إدراك قيمة القافية ودورها في الإيقاع الشعري.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها