المدرسة البوعنانية بفاس.. مفخرة العمارة المغربية

محمد أمقران حمداوي


تزخر مدينة فاس المغربية بمجموعة من المدارس العتيقة التي لعبت في الماضي دوراً أساسياً في التعليم الديني والعلمي. ومن أهم هذه المدارس نذكر ما يلي: مدرسة العطارين، مدرسة الصفارين أو الحلفاويين، مدرسة الشراطين، المدرسة المصباحية، مدرسة السبعيين والمدرسة البوعناية.


وتعتبر هذه الأخيرة واحدة من أعرق المدارس المغربية التي اشتهرت بتدريس مجموعة من العلوم منها: الفقه، التفسير، علوم القرآن الكريم، النحو، الرياضيات، علم التاريخ، علم الجغرافيا، علم الفلك والطب. كما تعد واحدة من أشهر المعالم التاريخية والأثرية والثقافية والسياحية على السواء في المغرب عامة وفي فاس خاصة. بناها السلطان أبو عنان فارس المريني ما بين 1350م و1355م، وسميت باسمه. وتسمى كذلك بِـ"المدرسة العنانية" نسبة إلى مؤسسها السلطان أبي عنان فارس المعروف بحبه للعلم والعلماء، كما تُعرف أيضا بـ"المدرسة المتوكلية" نسبة إلى لقب نفس السلطان الذي كان يلقب بِـ"المتوكل على الله". وقد أشرف على بنائها ناظر الأحباس أبو الحسن بن أحمد بن الأشقرن، واختير لها مكان قريب من قصر الحكم المريني وهو سوق القصر الذي يحمل حالياً اسم "الطالعة الكبيرة"، وتم تصنيفها كتراث عالمي من طرف منظمة اليونسكو سنة 1981م. وتوجد في مدينة مكناس مدرسة تحمل نفس الاسم (أي المدرسة البوعنانية)، أسسها السلطان المريني أبو الحسن، وأتم بناءها ابنه أبو عنان فارس سنة 1345م. ولتوفير مرتبات المدرسين وتوفير سبل العيش الكريم للطلبة المقيمين بها أوقف عليها السلطان عدداً لا يستهان به من الحمامات والأرحية، والأفران والدكاكين وغيرها.

موقع المدرسة البوعنانية:

تقع المدرسة في قلب المدينة العتيقة بفاس (فاس البالي) بالقرب من سوق "العطارين"، وتحديداً في شارع الطالعة الكبيرة الذي يعدُّ أحد الشوارع الرئيسة في المدينة القديمة. وهي بعيدة جدّاً سواء عن جامعة القرويين التي بنتها فاطمة الفهرية، أو عن جامع الأندلس. وفي عبارة أخرى توجد المدرسة في قمة سوق القصر المعروف لدى الفاسيين بـ"الطالعة الكبيرة"، أو "زقاق الحجر" كما في نصوص تاريخية قديمة.
 

تصميم المدرسة البوعنانية:

تتجلى عناصر تصميم المدرسة فيما يلي:
1 – الفناء (الصحن): هو صحن كبير مربع الشكل، يصل طول كل ضلع منه ثمانية عشر (18) متراً. وهو مفتوح على السماء مِمّا يسمح بدخول الضوء الطبيعي، وإضاءة المساحة الداخلية بشكل جميل. له أرضية مزخرفة ومزينة بأشكال هندسية ملونة من الزليج المغربي التقليدي. وفي وسطه توجد نافورة مصنوعة من الرخام تستخدم للوضوء وأيضاً كمصدر للزينة يعزز جمال وروحانية المكان. هذا الصحن لم يكن مجرد مساحة مفتوحة، بل كان مكاناً يجتمع فيه الطلاب للدراسة والنقاش، مما جعله مركزاً للحياة الأكاديمية والروحية في المدرسة.
2 – المسجد: كان يستعمل لأداء الصلوات الخمس اليومية، ولإقامة صلاة الجمعة وللتدريس (إلقاء الدروس)، ويحتوي على محراب مزخرف بنقوش جبسية وخشبية، وبآيات قرآنية مكتوبة بالخط الكوفي. وتزينه قبةٌ بديعة تغطي منطقة الصلاة الرئيسية، وبه أيضاً منبرٌ لإلقاء خطبة الجمعة، مصنوع من خشب الأرز، ومنحوت بدقة وعناية، ويحمل نقيشة على شكل شريط مكتوب تشير إلى مؤسس المدرسة البوعنانية بفاس السلطان أبي عنان فارس. وهو معروض حالياً بمتحف البطحاء؛ لأنه يعد أحد أروع الأمثلة على فن النجارة التقليدية المغربية.
3 – المئذنة: لها شكل مربع كما هو حال جميع المآذن في المغرب، وتزين جوانبَها زخارفُ زليجية وجبسية مستوحاة من الفن الإسلامي. يبلغ ارتفاعها عدة طوابق ما يجعلها تطل على جزء كبير من المدينة العتيقة بفاس. وهذا الارتفاع ليس رمزياً فقط، بل كان أيضاً من أجل إيصال صوت المؤذن إلى أحياء بعيدة من المدينة العتيقة.
4 – القاعات الدراسية: توجد بالمدرسة قاعتان للدروس غُطِّيت كل واحدة منهما بقبة خشبية منحوتة. جدرانهما مزخرفة بنقوش جبسية وخشبية، وسقف كل واحدة منهما من الخشب المنحوت بتفاصيل معقدة تدل على عظمة الصانع التقليدي المغربي منذ زمن بعيد. فيهما يتلقى الطلاب تعليمهم في جميع المواد الدينية والعلمية.
5 – الغرف (الخلايا): هي عبارة عن بيوت صغيرة بأبواب خشبية مزينة يقيم فيه الطلاب. بعضها يوجد في الطابق العلوي، والآخر في الساحة الداخلية.
6 – الساعة المائية: تعتبر من أكبر وأقدم وأعقد الساعات المائية في العالم الإسلامي. وتُعرف أيضاً بـ"المنقلة"، و"المكانة". يُعتقد أن تصميمها وتنفيذها تم على يد عالم فلكي مغربي من تلك الفترة. لكن لحد الآن ما تزال المعلومات الدقيقة حول مُبتكرِها غير مؤكدة. كانت تستعمل لضبط مواعيد الصلاة وتحديد الأوقات بدقة. وسميت بـ"الساعة المائية"؛ لأنها كانت تعتمد على تدفق المياه لقياس الزمن. وبعد سقوط الدولة المرينية وتراجع الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا تعرضت هذه الساعة للإهمال، فتداعت أجزاؤها الميكانيكية مما أدى إلى تعطيلها بشكل كامل.

ويروي الحسن بن محمد الوزان الفاسي المعروف بـ"ليون الإفريقي" أن السلطان أبا عنان المريني زار المدرسة بعد نهاية الأشغال بها، فأعجب بعمارتها الهندسية وببديع صنعها، وطلب سجل الحسابات. وعندما وجد التكلفة مرتفعة مزق الوثيقة التي تتضمن الحسابات المالية للبناء، وألقى بها في الوادي الذي يخترق المسجد والمدرسة، ثم أنشد هذا البيت لأحد الشعراء العرب:
 لا بأس بالغالي إذا قيل حسن ... ليس لما قَرَّتْ به العينُ ثمن

خاتمة:

وخلاصة القول؛ أن المدرسة البوعنانية تعد رمزاً للنهضة العلمية والثقافية التي شهدها المغرب في عهد المرينيين. إنها ليست مجرد مبنى تاريخي، بل هي نموذج ممتاز لفن العمارة الإسلامية في المغرب. لعبت دوراً رائداً في تعزيز العلوم والفنون. باختصار؛ إنها مدرسة تكاملت فيها العناصر الهندسية والفنية مع الوظائف الدينية والتعليمية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها