المتاحف والواقع الافتراضي.. حقبة جديدة للثقافة

ترجمة: حافظ إدوخراز

 

كتابة ◂ لورونس ديسار (Laurence Dessart) / أستاذة بجامعة لييج (بلجيكا)
     ◂ ميكائيل شينس (Michaël Schyns) / أستاذ بجامعة لييج (بلجيكا)
         ◂ كيرستن كاون (Kirsten Cowan) / أستاذة بجامعة إدنبرة (اسكتلندا)

 

لقد دفعت جائحة كوفيد بالواقع الافتراضي إلى الواجهة؛ إذْ استعانت به عدّة متاحف عبر العالم في حلّ مشكلة استحالة استقبال الناس مباشرةً خلال فترات الحجر الصحي. ويحظى الواقع الافتراضي الآن بأهمية بالغة عند القائمين على هذه المؤسسات الثقافية؛ إذْ يعِد بتعزيز جاذبيّتها بشكل مستديم.

الواقع الافتراضي هو تقنية تسمح للمستخدمين بالتنقّل عبر أرجاء بيئةٍ اصطناعية والتفاعل معها. وثمّة عدد متزايد من المتاحف الآن يوظّف هذه التقنية الحديثة ويستخدمها من أجل جذب الزوار أو تجويد تجربتهم خلال تجولهم داخل مباني المتحف. لقد شهدت سوق السياحة الافتراضية العالمية انتعاشاً ملحوظاً خلال جائحة كوفيد، فقد بلغ حجم هذه السوق نحو ثمانية مليار دولار أميركي في عام 2023. ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم أحد عشر مرة بحلول عام 2032.

لقد أصبح اهتمام المؤسسات الثقافية بهذه التكنولوجيا الغامرة أكبر من أي وقتٍ مضى. ويمكن تفسير هذا التحوّل من خلال عدة عوامل، من بينها الرغبة في جعل تجارِب زيارة المتحف أكثر تميّزاً، ومن ناحية أخرى، الطموح إلى دمقرطة الوصول إلى التراث. فلم كان قطاع المتاحف رائداً في استخدام تكنولوجيا الواقع الافتراضي؟ وما الفوائد التي تعود بها على المستخدمين؟ وما التحديات التي تواجهها هذه التكنولوجيا؟ وما آفاقها في المستقبل؟
 

دعونا نبدأ أولًا بتعريف هذه التكنولوجيا. لا يمكن الولوج إلى الواقع الافتراضي، بالمعنى الدقيق للكلمة، إلا من خلال معدّات متخصّصة، مثل سمّاعة الواقع الافتراضي أو نظام البيئة الافتراضية الآلية (Cave Automatic Virtual Environment)، وهو فضاءٌ تعمل فيه جدران الغرفة بالإضافة إلى الأرضية والسّقف كأسطح عرضٍ عملاقة من أجل إنشاء بيئة افتراضية غامرة للغاية.

غالباً ما تجهّز المتاحف نفسها بسمّاعات الواقع الافتراضي فقط، كما فعل متحف أورسيه (Orsay) خلال الحدث الذي نظّمه مؤخراً: "أمسيةٌ بصحبة الرّسامين الانطباعيين". غير أنه من الممكن أن نعتبر أن مقاطع الفيديو بزاوية 360 درجة (أو الفيديوهات البانورامية)، والتي يمكن الوصول إليها من خلال حاسوب بسيط أو على هاتف ذكي، تشكّل أيضاً بيئات افتراضية غامرة. ويعدّ هذا النهج أكثر ديمقراطية؛ لأنه لا يتطلّب معدّات خاصّة ليست في متناول الكثيرين لأنها لا تزال باهظة الثمن في كثير من الأحيان.

لقد استخدمت المتاحف تقنية الواقع الافتراضي في البداية من أجل الإبقاء على إمكانية الوصول إلى الفن في فترة الجائحة. وكان متحف اللوفر أحد المتاحف السبّاقة في هذا المضمار، من خلال مبادرة "وجهاً لوجه مع الموناليزا" التي أطلقها في عام 2020، وهي تجربة افتراضية سمحت للمهتمّين بفحص أعمال الفنان ليوناردو دافنشي بالتفصيل عن بُعد على هواتفهم الذكية خلال فترة الحجر الصحي، ثم عبر سمّاعة الواقع الافتراضي لاحقاً في المتحف.

إن الواقع الافتراضي قد جعل من الممكن إذنْ ضمان إمكانية الوصول إلى أروقة المتاحف عن بُعد، كما أتاح للمهتمين إمكانية رؤية هذه الأعمال الرمزية في ظروف جيدة، بدلًا من أن يروها وسط حشود من الناس. وينطبق هذا أيضاً على المواقع التراثية المشهورة عالمياً، مثل كنيسة سستينا في الفاتيكان.

 

تجارِب زيارة لا تنسى:

إن إحدى نقاط قوة الواقع الافتراضي هي أنه يسمح للمستخدم بالتفاعل مع البيئة المحيطة به في الوقت الحقيقي، فالواقع الافتراضي قابلٌ للتكييف بدرجة كبيرة وفقاً للعمر أو المستوى التعليمي أو المهارات الحركية. وتتحوّل بالتالي الزيارة السلبية نوعاً ما للمتحف إلى تجربة فعّالة تحفّز المشاركة والفضول، وتسمح بحفظ المعلومات بطريقة أكثر ديناميكية.

لقد أظهرت دراسة أجريت حديثاً بالتعاون مع متحف العلوم الطبيعية في بلجيكا، الإمكانات القوية التي ينطوي عليها الواقع الافتراضي على مستوى توليد ذكريات مستديمة. يُتيح هذا المتحف للزائر فرصة التفاعل مع الكائنات البحرية، والاستماع إلى قصصها مع السماح له بالتفاعل معها (الإمساك بسرطانات البحر على الشاطئ مثلا أو إطعام خنازير البحر). لقد أثبت هذا المشروع أن التجارِب السياحية المعتمدة على الواقع الافتراضي تساعد على تشكيل ذكريات قوية، سواء كانت هذه الذكريات عرضيةً (مرتبطة بأحداث السيرة الذاتية والخبرات الشخصية وتسلسلها)، أو دلالية (مرتبطة بمحتوى المعلومات المقدمة).

كما أن الزيارة التي تتضمن تجربة الواقع الافتراضي تخلق عند الزائر ذكريات أكثر دقة مقارنةً بالزيارة التقليدية. ومع مرور الزمن (انتظر الباحثون أربعة أسابيع)، أصبح الزوار الذين خاضوا تجربة الواقع الافتراضي أكثر ثقة في ذكرياتهم العرضية. وتوضح هذه الدراسة مدى أهمية الواقع الافتراضي في السياق المباشر للزيارة، ولكن أيضاً خارجها، وذلك بفضل تكوين ذكريات مستديمة.

الحفاظ على التراث وضمان وصول الناس إليه:

يتيح الواقع الافتراضي أيضاً إمكانية إنشاء أرشيفٍ رقمي يمكن للأجيال القادمة الوصول إليه بسهولة، وبالتالي الحفاظ على التراث الثقافي سليماً. فمن خلال العمل على رقمنة الفضاءات المعرّضة لخطر التدهور أو الزّوال، والأشياء التي يصعب نقلها، أو إعادة إنشاء المواقع التاريخية التي تنتمي إلى الأزمنة الغابرة، يوفّر الواقع الافتراضي إمكانية الوصول إلى عالمٍ غير معروف إلى حدٍّ كبير وبطريقة غامرة وشخصية وعاطفية على نحوٍ أكبر.

فعلى سبيل المثال، وبعد الحريق الذي أتى على كاتدرائية نوتردام في باريس عام 2019 وألحق بها ضرراً كبيراً، تم إطلاق تجربة "نوتردام الخالدة"، والتي سمحت بالقيام بزيارة الكاتدرائية من منظورٍ تاريخي، حيث ينغمس الزائر في الماضي، ومنظور حديث. لقد أتاحت هذه المبادرة إمكانية الوصول إلى هذا الموقع التراثي الفرنسي الأساسي أثناء أعمال إعادة البناء.
 

ويتيح الواقع الافتراضي، علاوة على ذلك، إمكانية الوصول إلى الجماهير التي لن تتمكن من زيارة الأماكن مباشرةً، سواء لأسباب تتعلق بالقدرة على التنقّل أو لأسباب صحية أو لوجود إكراهات تحول دون السفر. ولهذا فيمكن خوض تجربة "نوتردام الخالدة" سواء في الفضاء المخصص لتجربة الواقع الافتراضي الواقع بالساحة أمام الكاتدرائية، أو من خلال سمّاعة الواقع الافتراضي الشخصية عن بُعد.

ثمّة مثال آخر في هذا الصدد يتمثل في متحف سميثسونيان للفن الأمريكي (Smithsonian American Art Museum) بالولايات المتحدة، والذي يتيح إمكانية القيام بجولة افتراضية في مهرجان "الرجل المحترق" (Burning Man). ويمكن للزوار بالتالي أن يكتشفوا مهرجان الفن المعاصر هذا الذي يحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة، والانغماس في عوالمه.

الواقع الافتراضي.. مزايا وعقبات:

على الرغم من أن الواقع الافتراضي ينطوي على العديد من المزايا بالنسبة إلى القطاع الثقافي، إلا أنه يواجه كذلك العديد من العقبات التي تحدّ مرحلياً من انتشار استخدامه. بدايةً، تكون تجربة الواقع الافتراضي غامرةً على نحوٍ أكبر إذا حظي الواحد بجهاز متخصّص مثل ميتا كويست (Meta Quest) أو آبل فيجن برو (Apple Vision Pro). غير أنه يتعذّر على المتاحف والأفراد حتى الآن التزوّد بمثل هذه الأجهزة بسهولة، بسبب أسعارها التي لا تزال مرتفعة وبعيدة عن متناول الكثيرين.

قد تبدو تقنية الواقع الافتراضي كذلك في أعين المبتدئين الذين لم يتعوّدوا عليها تقنيةً معقدة للغاية يصعب استخدامها. فسمّاعات الواقع الافتراضي ليست دائماً سهلة الاستخدام، وغالباً ما تتطلب مساعدة طرف ثالث عند استخدامها لأول مرة.

من الممكن في بعض الحالات، القيام بجولات افتراضية دون الحاجة إلى معدّات وأجهزة معقّدة، على جهاز الحاسوب أو على هاتفك الذكي. تعدّ هذه الأشكال من الواقع الافتراضي مناسبةً بشكل خاص للمنظمات الصغيرة غير الربحية، مثل الجولة الافتراضية في متحف تعدين الرصاص (The Museum of Lead Mining) بقرية ونلوكهيد (Wanlockhead) في اسكتلندا. وهذا أيضاً ما تقدمه خدمة التجول الافتراضي في المتاحف من شركة جوجل (Google Museum Views). هذه الجولات الافتراضية بزاوية 360 درجة، على الرغم من كونها غامرةً وتفاعلية على نحوٍ أقل، إلا أنها تسمح مع ذلك بتصور نفسك في زيارة حقيقية للمتحف.

أفقٌ من الابتكارات الواعدة:

إذا كانت تقنية الواقع الافتراضي قد مكّنت بالفعل العديد من المتاحف بالتّموقع كمتاحف طليعية وسهلة الولوج في عالم آخذٍ في التغير الرقمي على نحوٍ متزايد؛ فإن الآفاق التي يفتحها الواقع الافتراضي لا تزال عديدة.

يمكن للمتاحف الاستفادة من تجارب الواقع الافتراضي من خلال جمع البيانات حول المستخدمين من أجل فهم سلوكهم بشكل أفضل، وبالتالي تكييف عروضها مع تفضيلاتهم. ومن الممكن التعاون بين المتاحف حول العالم من خلال تبادل البيئات الافتراضية الغامرة. كما يمكن للمتاحف كذلك التعاون مع المدارس والجامعات من أجل تقديم هذه البيئات للطلاب في فصول الفن أو التاريخ أو الابتكار، كما هو الحال بالفعل في بعض المؤسسات التعليمية. وتظل إمكانات الواقع الافتراضي غنية وواعدة بالنسبة إلى قطاعي الثقافة والسياحة.

 

 

المصدر  

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها