اللغة والثقافة

وقفات مع رؤى وأفكار الألمانية "كلير كرامش"

مصطفى أمخشون

تناقش كلير كرامش موضوعاً من الموضوعات المهمة "اللغة والثقافة"، وفي الأصل هو عنوان كتابها هذا الذي سنحاول في المقالة أن نتوقف عند أهم أفكاره الرئيسة. تقول في بداية الكتاب: إن اللغة نسق من العلامات نعده ذا قيمة ثقافية؛ لأن المتحدثين يعبرون عن هويتهم وهوية الآخرين من خلال استخدامهم لها، فهم يرون أن استخدامهم للغتهم رمز لهويتهم الاجتماعية، ومنع استخدامها رفض لهويتهم الاجتماعية وثقافتهم، وعليه اللغة ترمز إلى واقع ثقافي.

 

اللغة والثقافة واللغة:

علاقة بهذا الموضوع ترى كلير كرامش أنه يحسن بنا أن ننظر إلى الثقافة من منظور آخر أكثر صلة بالتاريخ. فالاتجاهات الثقافية التي يمكن تحديدها في وقت معين قد نمت ورسخت مع الزمن، وهذا ما يجعلها تتخذ شكل السلوك الطبيعي. ولقد رسخت في وجدان أعضاء الجماعة الاجتماعية الذين سمعوها ومارسوها في البداية وأورثوها لأجيال تالية من خلال الحديث أو الكتابة عنها. عندما تشير إملي دكنسون على سبيل المثال إلى الحياة بعد الموت؛ إنما تؤسس على الأمل في أن أجيال المستقبل سوف تفهم القيمة الاجتماعية لعطر الورد، والطقس الجنائزي الذي يقضي بأن يحاط الميت بالنباتات العطرية. وتقضي ثقافة الممارسات اليومية في النهاية إلى ثقافة التاريخ المشترك والعادات المشتركة؛ فالناس ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أعضاء في جماعة اجتماعية ومن حقهم أن يتخذوا لأنفسهم مكاناً في تاريخ هذا المجتمع.

وتعطي كلير كرامش المثال كذلك ببرج إيفيل، ولوحة الموناليزا فهُمَا موجودات في الواقع بوصفها أعمالًا فنية مادية، ولكن الذي أبقى عليهما إلى الآن ومنحهما الشهرة في السوق الثقافية هو ما يقوم به الفنانون، وهواة جمع اللوحات الفنية، والشعراء، وكتاب الرواية، وشركات السياحة والمرشدون السياحيون، فاللغة شفرة لا يمكن فك طلسمها بعيداً عن الثقافة؛ لأنها ليست مقطوعة الصلة عن طريقة تفكير الناس وتصرفاتهم، ولكنها تلعب الدور الأهم في تخليد ثقافة المجتمع.

الكلام والكتابة:

ترى كلير كرامش أن الوسيلة المنطوقة تتصل اتصالًا مباشراً بزمن التلفظ بها، وبإدراك السامعين للأبعاد المؤقتة للحوادث اللفظية. أما ثقافة الكتابة فهي على النقيض من ذلك، كانت حلقة الوصل الفضائية بين العقل واليدين، وهي قادرة على التغلب على الطبيعة السمعية المؤقتة للغة المنطوقة، وذلك بتحويلها إلى علامات أكثر دواماً ووضوحاً على الصفحة المكتوبة.

وتقرّ كلير كرامش أن من الصعب علينا أن نلم إلماماً تاماً بخبرات المجتمعات التي تميزت ثقافتها بالشفاهية المطلقة قبل اختراع الكتابة. ومع اكتشاف الكتابة والطباعة فيما بعد وجدنا الأميين أنفسهم يعيشون هذه الأيام في عالم تبدل وعيه تماماً، ومن ثم كانت عودة الشفاهية الأولى ضرباً من الخيال. على أن آثاراً من الشفاهية لا تزال باقية في الكلام والكتابة على حد سواء، فهناك ملامح في استخدامات اللغة تعود باللغة إلى أيام الشفاهية الأولى قبل استخدام الكتابة. ومن تلك الآثار استطاع العلماء أن يقفوا على الخصائص التي يتميز بها الخطاب الحواري بوصفه مختلفاً عن الكتابة ذات الطباع الاستعراضي التفسيري، ومن بين هذه الخصائص نذكر:
◅ الكلام عرض زائل وليس دائم البقاء؛ فالمتكلمون قد لا يتكلمون في الوقت نفسه بسبب قيود جسمانية أو مادية، أو قد لا يسمعون ما يقوله الآخرون. فهم مقيدون بتوزيع الأدوار أثناء الكلام وهو توزيع لا يتبدل عادة. وعلى النقيض من ذلك نجد أن اللغة المكتوبة قابلة للحفظ والاستعادة والتذكر، وأنه يمكن تأجيل الاستنتاجات. وتعد اللغة المكتوبة أكثر مهابة وتأثيراً من الكلام المنطوق؛ لأنها لا تكون هدفاً للتحدي وقت كتابتها كما هو الحال في اللغة الشفهية. زد على ذلك أن استمرار الكتابة كوسيلة للاتصال من شأنه أن يدفع الناس إلى افتراض أن ما تعبر عنه شيء سرمدي أيضاً، ومن هنا تتوثق العلاقة المهمة بين الوثائق المكتوبة والقانون.

◅ الكلام إجمالي؛ أي يفيد من التركيبات الإجمالية بوصفها تعبيرات صياغية أو مساحات جاهزة من الحديث تبقي على التواصل بين المتحدثين، ويطلق عليها اسم "تبادل المجاملة". بينما يشار إلى الكتابة على أنها الوسيلة التي تشجع على التحليل والاستنتاج المنطقي والتصنيف المجرد لما تتميز به من غياب الاتصال المباشر، وقدرتها على توصيل المعلومات عبر الأزمنة والمسافات، فضلًا عن قابليتها للقراءة وإعادة القراءة عند الحاجة وعند الضرورة.

◅ يتميز الكلام بالإسهاب والوفرة؛ إذ لا يكون المتحدث على ثقة من استماع سامعه إليه وتنبهه إلى ما قاله، فضلا عن فهمه وتذكره. ومن ثم يميل المتحدث إلى التكرار وإعادة الصياغة والحديث بأسلوب مختلف، بينما تميل اللغة المكتوبة إلى البعد عن الإسهاب لأنها لا تحتاج إلى الإعادة، وليس التكرار من طبيعتها.

انطلاقاً من هذه الخصائص تعتبر كلير كرامش أن التماسك اللغوي يدفع بالمعنى الثقافي إلى ساحة اللعب في نطاق النص نفسه، ويترسخ التماسك المنطقي من خلال الخطاب الذي يثيره بين الكلمات المطبوعة وقرائها.

الهوية الثقافية:

من المعروف للقاصي والداني أن هناك صلةً طبيعيةً بين اللغة التي تتحدث بها جماعة اجتماعية من الناس، وبين هوية هذه الجماعة من الناس. فمن خلال اللهجة التي ينطقون بها، والمفردات التي يستخدمونها، وأنماط الخطاب التي يستخدمونها، يقوم الناس بتعريف أنفسهم وهم لا يشعرون، ويعرفهم الآخرون بوصفهم أعضاء في هذه اللغة أو تلك أو هذا الخطاب الاجتماعي أو ذاك.

فمن خلال هذه العضوية يستمد الأفراد قوتهم الشخصية وكبريائهم الوطنية كما يستمدون إحساسهم بأهميتهم الاجتماعية، وتواصلهم التاريخي، من خلال استخدامهم لنفس اللغة التي تستخدمها الجماعة التي ينتمون إليها.

لكن تضيف كلير كرامش أنه رغم الاعتقاد الراسخ في معادلة "لغة واحدة= ثقافة واحدة"؛ فإن هناك من يزعمون لأنفسهم الانتماء لأكثر من هوية واحدة في الوقت نفسه. وتصبح هذه الهويات المتعددة المزعومة عرضة للتغيير مع مرور الزمن في حواراتهم مع الآخرين، بل عرضة للتداخل والتعارض كل مع الأخرى. ومثال ذلك: إحساس المهاجر بنفسه إذ يحتمل أن يكون إحساسه مرتبطاً في بلده الأصلي بالطبقة الاجتماعية والآراء السياسية ووضعه الاقتصادي، أما في بلده الجديد قد يرتبط بشكل كبير بمواطنته القومية.

خلاصة ذلك؛ أنه رغم عدم وجود تطابق كامل بين اللغة التي يتحدثها أي فرد وهويته الثقافية، فإن اللغة من أكثر الإشارات أهمية إلى العلاقة بين الفرد والجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها. فالتماثل أو عدمه بين الفرد ولغته إنما يتجلى في سلوكه وينعكس على حياته بشكل واضح؛ ذلك أن اللغة جزء من تركيبنا العضوي، وتهمين على وجداننا وتفكيرنا ورؤيتنا لهذا العالم من حولنا. فالإنسان لا يعيش في هذا العالم المادي وحده، ولا يعيش في النشاط الاجتماعي وحده، كما جرى عليه الاعتقاد، ولكنه يعيش في كنف اللغة التي يعبر بها في المجتمع، من الوهم أن نتصور أن الإنسان قادر على التكيف مع الواقع دون حاجة إلى اللغة أساساً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها