
حين يجد سجين نفسه أمام ضابط يبدو في هدوء ثعبان سام قاتل، يدخل مركز الشرطة المنعزل البعيد في زيارة غريبة، ثم إذا بنا نرى هذا الهدوء الثلجي يحمل داخل أعماقه ناراً مكتومة، ترى الشرر حين تنظر داخل عينيه وهو يخفيه داخل أعماقه، فيقتل بهدوء مسؤول نَوْبة الحراسة في مركز الشرطة، ويقترب من السجين داخل الزنزانة في ريبة، يبحث عن تفاصيل حياته، ويتصل بزوجته؛ كي يضغط بها على أعصاب السجين، وفي داخل الضابط أنه يريد من السجين شيئاً خفياً لم يعلن عنه حَتَّى للسجين نفسه، ماذا سيفعل السجين داخل زنزانة والضابط يضع بصماته على الخنجر الَّذِي قَتَل به مسؤول نَوْبة الحراسة؟ ماذا يفعل السجين والضابط يهدِّده إن لم يفعل ما يريد سينتقم من زوجته القادمة الآن؟ دمّ وجريمة غامضة يمكنك أن تتابعها بتوتر وأنت تشاهد فِيلْم زنزانة، إخْرَاج: ماجد الأنصاري، شارك فيه: علي سليمان، عمر عبدالحميد، عبدالله بو عابد.
المُشَاهِد بطل المكان
حين نبدأ مطالعة الفِيلْم تواجهنا الجُمْلة الافتتاحية (في مكان ما في الوطن العربي..) فجعلها تخصّ المُشَاهد من الوطن العربي بالتحديد، ليظن أن ما سيشاهده يمكن أن يكون في بلده هو، وهذا يجعل المُشَاهد في الوطن العربي أكثر اهتماماً؛ لأنه المقصود بأحداث الفِيلْم، وعدم تحديد مكان ما في الوطن العربي ينفي الأحداث في الوقت نفسه عن بلد بعينه، فصُنَّاع الفِيلْم قرَّروا قبل البدء في الفِيلْم أن يجعلوا المُشَاهد يتخيَّر مكان الأحدث وِفْق رؤيته، فهو مكان ما غير محدَّد في الوطن العربي خاصَّة، فقط ابحثْ عن أحداث الفِيلْم وما يشبهها في الوطن العربي.
الطلَّة الأولى للكاميرا تأخذنا من داخل دوامات عين السجين، نراه جالساً في حزن وانكسار، ثم تنسحب الكاميرا لخلف القضبان، فنعلم أننا منذ البداية في عمق حدود مركز شرطة، تدور الكاميرا فتعطي إحاطة باتساع المكان، ويلاحقنا منذ البداية ضوء خافت مائل للأخضر الغامق، ينتشر في معظم الفِيلْم، فالإضاءة لم تتغيَّر لأن الفترة الزمنيَّة في الفِيلْم ساعات معدودة، ومع أن في جوانب الزنزانة نافذة، إلا أن ضوء المصباح البَاهِت كان غالباً على ضوء الشمس، وحين نلاحظ اليد الَّتِي تحمل مجموعة من المفاتيح تصلنا الرسالة المباشرة بأن في مركز الشرطة المنعزل مجموعة من الزنازين والأبواب المُغْلَقة، وأنها تحت السيطرة والقيد لحامل هذه المفاتيح.
هذا الخروج من عين السجين الَّذِي قامت به الكاميرا، يجعل المُشَاهِد يريد أن يعرف حكايته، أن يرى ما يدور في أعماقه، استخدم صُنَّاع الفِيلْم تقنية الخروج من عين السجين مرات عديدة عبر دخوله لحالة حُلميَّة، أو عبر انسحاب السجين من عمق تذكُّر أحداث فائتة.
بين السينما والمسرح
لا يمكننا أن نعتبر فِيلْم الزنزانة أقرب للمسرحية منه إلى الفِيلْم، على الرغم من أن المكان واحد كخشبة مسرح، والشخصيَّات قليلة، واضحة ومكشوفة، والحوارات طويلة، والبوابة المستخدمة لدخول وخروج الشخصيَّات هي أقرب للمسرح، لكن صُنَّاع الفِيلْم مع كل هذا الضيق في المكان، إلا أنهم استخدموا براح عين الكاميرا وقدرتها على التقاط التفاصيل الدقيقة، والَّتِي يستحيل مشاهدتها في المسرح؛ للخروج بمخيِّلة المشاهد عن فكرة المسرحية، فقد تم استخدام جميع الأشياء الموجود في الزنزانة ولم يكن هناك شيء زائد.. بعيداً عن رؤية الكاميرا.
لقد تجوَّلت الكاميرا في المساحة الضيِّقة ولم تُشْعِر المُشَاهِد بالملل، بل على العكس كان توالي الأحداث وتَتَابع الكاميرا المتلاحق السريع متوتراً مِمَّا يجعل المُشَاهِد يتابع الفِيلْم راغباً في الوصول لنهايته، ومعرفة أحداثه، فنجد مشهد المروحة وهي تدور في السقف تصدر صوتها المميز الَّذِي يضرب الهواء كجناح طائر يكاد يسقط، إلى جانب دوران عقارب الساعة الَّتِي نسمع دقَّاتها عن قرب، فالفِيلْم استخدم أرض المسرح واستغل إمكانيَّات الكاميرا الهائلة.
نجد من مميزات استخدام الكاميرا في اللَّحْظَة الَّتِي أعطت الشرطيَّة علبة الثقاب للسجين طلال، حاول طلال حين صار وحيداً أن يجعل الدخان يصل لجهاز الإنذار حَتَّى يتم إنقاذه من الضابط دبان القاتل، دخلت الكاميرا مع الدخان عبر ممرات جهاز الإنذار، كان الدخول في العمق، وشاهنا ممرات جهاز الإنذار، كما حدث في الخروج من عمق العين من قبل، واكتشفنا أن الماسورة الَّتِي تمرِّر الدخان لجهاز الإنذار مقطوعة، فكان لا بد أن لا يحدث أي إنذار، لحظات من التَّوَتُّر تدخلها الكاميرا لماسورة الإنذار تسبب التَّوَتُّر والرغبة في إنقاذ سجين الزنزانة.
هذه المَشَاهد تجعل المُشَاهِد ينسى للحظات أن المكان محدود بجدران صماء، إلى جانب مشهد الخروج بالكاميرا للخارج البعيد من عمق الزنزانة المعزولة؛ حَتَّى نرى مدى البعد الَّذِي تعانيه الزنزانة، وإنه من الصعب المجيء إليها وإنقاذ ما يحدث فيها، كان واضحاً أن صُنَّاع الفِيلْم يدركون الفرق بين السينما والمسرح فلم يقعوا في فخ ملل المكان الواحد والشخصيَّات القليلة، لا يمكننا أيضاً نسيان أن استخدام الهاتف كان عاملاً جيداً ومكملاً مهمَّا في الفِيلْم فقد ساعد على ربْط المُشَاهِد بالخارج، واستحضار شخصيات من الخارج كان لا يمكن أن تأتي للزنزانة المعزولة إلا بطلب، أيضاً الاستخدام الجيِّد للموسيقى المتفاعلة مع الأحداث والمستخدمة بدقَّة مع الانفعالات الخاصَّة للشخصيات، هذا أيضاً كان سينمائياً خالصاً، ولم يكن من الممكن تقديمه في عمل مسرحي يقوم على القصة نفسها، نجح صُنَّاع الفِيلْم في تحويل ساحة المسرح لساحة سينمائية.
للشر أن يحترق
يمكن القول إن الممثِّل علي سليمان والَّذِي قام بدور الضابط دبان قام بحالات مميَّزة من التمثيل، وأن وجوده في الفِيلْم زاد توتر أحداث الفِيلْم، فعلى الرغم من أن المُشَاهِد لم يحب شخصيَّة دبان إلا أنه استطاع أن ينتزع تصفيق المُشَاهِد، قام علي سليمان بكل ما يمكنه من التعبير بالوجه والعينين، وحركات اليد، والرقص، وعبَّر عن انفعالات البرود، والتحكُّم في الذات، والغضب، والثورة، وكل ما يطلبه الموقف الدرامي والنفسي للحوار، حَتَّى يمكن أن يقال إن المُشَاهِد كان يتابع أحداث الفِيلْم من خلاله.
كنا نتابع الأحداث دون أن ندرك لماذا يفعل الضابط دبان ذلك، وفي لحظة مفصليَّة قبل النهاية بقليل عَلِمْنَا أنه يريد أن يسيطر على السجين طلال؛ لأن دبان يريد إنقاذ أخيه من حكم الإعدام، كان كل هدف الضابط دبان أن يقوم بلعبة على الجميع، أن يجعل السجين طلال تحت الضغط النفسي؛ كي يرتدي ملابس الإعدام مكان أخيه، وساعتها يُخْرج أخيه من مركز الشرطة دون أن يشك أحد فيما قام به، كانت فكرة دموية، قَتَل الضابط دبان من أجلها رجلين وحقَّق ما يريد، وبالفعل ارتدى السجين طلال ملابس الإعدام الحمراء، وخرج أخو الضابط دبان من مركز الشرطة، وفي لحظة مفاجأة دخل ابن طلال لمركز الشرطة؛ يريد أن يرى والده، فجرى وراءه الضابط دبان وأمسك به ووضعه في الزنزانة، كي يزيد الضغط على أعصاب طلال، وتأزَّم الفِيلْم في اللحظات الأخيرة أكثر.
كان لا بد للمُشَاهد أن يخرج مستريحاً من هذه الضغطة الَّتِي ضغطها الضابط دبان على أعصاب السجين طلال، فالطفل يصرخ من داخل الزنزانة مستنجداً بوالده طلال، والوَالِد في حَبْسَة قاسية، وللحظة طلب طلال الكحول من دبان كي يشربه، وحين أعطاه دبان الزجاجة، طلب طلال سيجارة، ودبان يشعلها أخرج طلال الكحول من فمه وقذفه على نار السيجارة فاشتعلت في وجه دبان، واحترق دبان وقيَّده طلال في الزنزانة، وتلقَّى طلال رصاصة، إلا أنه في النهاية اجتمع بولده وزوجته، ويقول الفِيلْم عن الشر لا يمكن أن ينتصر حَتَّى النهاية، فمهما كان الشر مسيطراً على كل البدايات، ففي اللحظات الأخيرة سيأخذ الشر جزاءه حرقاً.