ركبُ الحج في الرّسم الإسلامي

الزبير مهداد


الحضارة الإسلامية خلاصة إسهام عدة شعوب من قارات مختلفة، من إفريقيا وأوروبا وآسيا. وعلى الرغم من اختلاف أصول هذه الشعوب، فقد ساد إبداعها في روح واحدة، تنبعث في كل بلد بعناصر مختلفة ومتشابهة في آن.


كان التصوير الإسلامي من الفنون التي تدين في تطورها لإسهام الحضارات التي احتواها الإسلام، والتي أسفر تعدد الإسهامات عن ظهور مدارس فنية متميزة بأساليبها، تنتسب للمناطق التي تطورت ونضجت فيها، نذكر منها المدرسة العربية، الفارسية، الهندية المغولية، والتركية العثمانية.

 هذه المدارس الفنية، على الرغم من استقلالها الفني، وبروز الفروق التي تسهل التمييز بينها؛ فإنها تبادلت التأثير فيما بينها، فالمدرسة الهندية تأثرت بالمدرسة الفارسية، والمدرسة العربية أيضاً لا تخلو من بصمات التأثير التركي، إلى جانب التأثير البيزنطي، وهكذا دواليك.

 فالتصاوير الإسلامية التي حفظتها لنا المخطوطات، تظهر لنا جوانب من الحياة العامة للمجتمعات الإسلامية التي لم تعد قائمة اليوم، بسبب التغير والتطور الاجتماعي، ولم يعد ممكناً معرفتها سوى من خلال التصاوير. ركب الحج من هذه العادات والتقاليد التي انمحت من حياتنا اليوم، وظلت حية في التصاوير.
 

رحلة الحج

كانت الرحلة إلى مكة لأداء مناسك الحج حلم كل مسلم، إلا أن هذه الرحلة كانت طويلة، شاقة، مشوبة بالصعوبات والمخاطر، ولأهميتها، وللتخفيف من هولها، ولترغيب الناس فيها، كان انطلاقها بمثابة احتفال عام، مفعم بالطقوس الشعبية، ومظاهر الفرجة السارة.

كان الركب يترأسه أمير، ويصحبه قاض وكاتب عدل، ويتألف من مئات أو آلاف الحجاج والتجار، والأعيان والأمراء، يخفرهم الجند من مختلف الرتب والطوائف لتأمين سلامتهم، إلى جانب حاملي الرايات والصنج ورموز السلطة.

وابتداء من النصف الثاني من القرن السابع، أصبح الركب "محملاً"، وكان مشهد المحمل أهم ما يلفت النظر في القافلة، والمحمل هو في الأصل الهودج الذي كانت تركبه النساء، أما محمل الحج فهو محفة كبيرة يحملها الجمل، مجللة بالديباج، ومطرزة بزخارف وببعض الآيات القرآنية، ولها رصافات مموهة بالذهب. أسسته أول مرة شجرة الدر، زوجة السلطان الصالح أيوب خلال حجها عام 654هـ، وكان هذا الحدث مناسبة لإقامة الاحتفالات الشعبية الباذخة في مصر، اعتباراً لمكانة الحاجة. وبعد شجرة الدر، أقره الأمراء المماليك، وأول من أرسل محمل الحج الشامي كان الملك الظاهر بيبرس حاكم مصر وبلاد الشام عام 666ه، وزخرفه بما يليق بالسلطة، ثم اتخذه من بعده حكام مصر والشام، لترغيب الناس، وحثهم على أداء فريضة الحج، ثم الأتراك العثمانيون، وصار المحمل عنواناً لركب الحج كل عام. لا يخصص لركوب الأشخاص مهما علا قدرهم الاجتماعي، ولا لحمل متاع مهما غلت قيمته، فلا يحمل سوى كسوة الحج من الشام أو مصر، أو نسخاً من القرآن الكريم للتبرك بها. اكتسى المحمل صفة رمزية، وهالة احترام، فأضحى معلماً ثقافياً ومصدر فخر للبلدان التي يمثلها. وكان محمل الحج، لمشهده البديع والفرجة التي يحققها، موضوعاً كتب عنه الكثير من المؤرخين، كما خلده رسامون في أعمالهم. منهم الفنان الواسطي.

ركب الحج الشامي بريشة الواسطي

لعل من أهم أعمال الواسطي تزيينه كتاب مقامات الحريري برسومه، ومن خلالها كشف عن جوانب هامة من الحياة اليومية في عصره. ولعل أجمل نسخ المقامات هي تلك المحفوظة في مكتبة باريز، التي زينها الواسطي عام 657 هجرية، بعد نضج أسلوبه.

في المقامة الرملية، يتحدث الحارث بن همام عن فترة شبابه، وولعه بالسفر، وتوجهه إلى ساحل الشام للتجارة، ولما وصل إلى الرملة، صادف بها ركب الحاج، فحركه الشوق إلى الديار المقدسة، وانخرط ضمن الركب في طريقه إلى مكة المكرمة.

هذه المقامة، زينها الواسطي برسمين جميلين، الأول يصور قافلة من الحجيج يتوجهون إلى مكة لقضاء فريضة الحج، والثاني يصور الركب في الجحفة وهي ميقات أهل الشام.

في الرسم الأول، يبدو الركب يتألف من مجموعة من الرجال على ظهور الجمال، في المقدمة يبدو رجل مترجل يقود القافلة، وراكبان ينفخان في البوق، وآخرون يقرعون على الطبول، وغيرهم يحمل رايات عالية. في المؤخرة جمل يحمل هودجاً فخماً، ويرافق القافلة فارس على ظهر دابة مسرجة، وفي الخلف راجل يشبه قائد القافلة، يسير مترجلاً خلفها.

وفي أسفل الشكل تبرز بعض الأعشاب والنباتات الصحراوية بصيغ تزيينية عفوية، بينما تتوزع في الأعلى وعلى يسار اللوحة كتابات عربية، هي بعض ما ورد في المقامات. الفنان اكتفى بتصوير مقدمة القافلة، بعدد قليل من الحجاج؛ لأنها تمثل الشكل الأبهج فيها. صورها بكل مظاهر الأبهة والاحتفالية، من فرسان وجمال، ورايات ومراكب، وموسيقيين وخيول. دون أن يرسم الاكتظاظ الذي تحدث عنه الحريري في المقامة؛ لأن حجم ركب الحجاج الكبير أصبح من الأمور المعلومة لدى الخاصة والعامة.

المظاهر الاحتفالية التي شخصها الواسطي كثيرة، فاللباس شرقي أصيل، من ألوان مختلفة، مزين بزخارف، وكذلك العمائم، فهي من قماش ملون جيد مزركش بزخارف أيضاً. الهودج كبير الحجم، مخروطي الشكل، من قماش مطرز، ورايات، وموسيقى، وزخارف الآلات الموسيقية، واستعراض، وغير ذلك من عناصر الفرجة.

اللوحة ذات تكوين حيوي، رسمت الشخوص والحيوانات تتطلع إلى الأمام برؤوسها وعيونها، والشوق يحذوها للوصول إلى الديار المقدسة، واتجاه الحركة واضح من خلال مكونات اللوحة. رسمت أعمدة الرايات بخطوط مستقيمة، أما سائر الرسم فقد استعمل فيه الرسام خطوطاً منحنية، تضفي على المشهد ليونة وانسيابية لطيفة. والملامح الدقيقة لوجوه الرجال والجمال أيضاً، تلوح منها علامات الجد والاهتمام والاستغراق في التفاعل الانفعالي مع اللحظة. واللافت للنظر في الرسم هو الهودج، هذا الهيكل المحمول على الجمل الرمادي، وهو شبيه بالخيمة الصغيرة، زينت زواياه بتفاحات نحاسية، ثبتت فيها الرايات. فهل هو هودج أو محمل؟

إن الهودج الذي تركبه النساء، لم يكن بهذه الفخامة، كما لم يكن يحمل رايات أو رموزاً للسلطة، بخلاف المحمل الذي شهد له المؤرخون بجماليته ورمزيته الدينية، والحضارية والسياسية. لكن المحمل الشامي لم يكن قد تأسس بعد، فالمؤرخون يذكرون أن الملك الظاهر بيبرس هو الذي أسسه غداة زيارته للشام عام 666، والواسطي أنجز رسمه عام 657؛ أي قبل ذلك بتسع سنين، لكن الملكة المصرية شجرة الدر، كانت قد حجت وأقامت محملاً بديعاً، عام 654؛ أي قبل ثلاث سنين من عمل الواسطي.

ومن المشهور عند دارسي فن الواسطي أنه كان يرسم ما يراه، وليس ما يتخيله، كما لم يثبت أنه رأى محمل شجرة الدر، فهل رسمه اعتماداً على أوصاف قدمها الحجاج؟

محمل الحج المصري بريشة رسام هندي مغولي

صفي بن ولي القزويني. ولد في كربلاء سنة 1029هـ، وعاش في مدينة قزوين، ثم هاجر إلى شبه القارة الهندية. واستقرّ به المطاف في قصر الأميرة (أورنك زيب) في مدينة كشمير بوصفه معلِّماً لها. وتوفي عام 1090هـ من كتبه المخطوطة: أنيس الحجاج. الذي يسرد فيه وقائع رحلة حج قام بها المؤلف عام 1087ه، يصف فيه مراحل السفر، ومناسك الحج، ويقدم نصائح للحجاج من أجل حج موفق مبرور، إحدى مخطوطات الكتاب مزينة برسوم توضيحية كثيرة، بألوان زاهية، تشخص الحجاج في كافة مراحل الحج، في الطريق البري، والسفن أيضاً، وأثناء مقامهم في خيام منى، وفي عرفة، والطواف وسائر مناسك الحج.

إحدى اللوحات التي زين بها الرسام المخطوط، تصور المحمل المصري الشريف، وكان أحد الطقوس المصاحبة للحج التي استمرت قروناً، قبل أن تختفي في القرن العشرين، المحمل المصري يطلق على ركب الحج المصري، الذي كان يصحب معه من مصر الكسوة الشريفة التي كانت تُكسى بها الكعبة. فإن خروج هذه القافلة كان موسماً مقدساً لدى المصريين يسمى "دوران المحمل"، حيث كان المحمل يبدأ رحلته من المعمل الذي كانت تصنع به، حيث توضع الكسوة في صناديق خشبية تحميها، لتحملها الجمالُ، ثم تطوف القاهرة قبل رحيلها، وتقام الاحتفالات الرسمية والشعبية بالمناسبة ثلاثة أيام، ثم ينطلق الركب إلى الحجاز. أما رمز هذا الموكب، فهو المحمل.

اللوحة يمكن تقسيمها إلى أربعة أجزاء أفقية، متراكبة، في الجزء الأعلى من الرسم شخص الرسام المحمل الشريف في شكل هودج خشبي مكعب الشكل، محاط برايات حمراء وأخرى خضراء، تحمل رموز الدولة العثمانية، المحمل مفتوح الجوانب، أسود اللون، مزين بنقوش ذهبية. في داخله، نرى مصحفاً مفتوحاً، موضوعاً على كرسي الكتب، أما جمل المحمل فمكسو برداء أخضر مطرّز بزخارف جميلة، وتحته رداء أحمر أكبر حجماً، وتلف الجمل أشرطة تحمل نواقيس كثيرة، تصدر عنها موسيقى بحركة الجمل.

المحمل محفوف بالجنود المسلحين، والأمراء، تميزهم تيجانهم وأزياءهم وحملهم صولجانات القيادة، وخلف المحمل يبدو أمير الحج، بتاجه، ولباسه المميز بلونه الزاهي وزخارفه، وحلية فرسه.

الجزء الأعلى من اللوحة يمثل مقدمة الركب، الذي يقوده أمير الحج "عبيدي باشا"، الذي ميزه الرسام برأسه الضخم المهيب، الذي لا يتناسب مع حجم الجسد، ولكنه ليدل على الرئاسة والقيادة، وأهمية المكانة الاجتماعية، ويليه في الأجزاء السفلى من الرسم بقية الركب، وفي السطر الثالث، رسم الفنان "تختروان" أنيقاً، محمولاً بين جملين مترادفين، لا يقلان زينة عن جمل المحمل، ولعل "التخت روان" كان مخصصاً لاستراحة أمير الحج. يتوزع في الأسطر الأربعة الجنود الذين يخفرون الركب والمحمل ويحرسونه، وهم من فرسان الانكشارية من فرق ورتب شتى، يتسلحون بالبنادق والسيوف.

واقعية المدرسة العربية

إن الحج لأهميته كان موضوعاً لكتابات المؤرخين والرحالة والأدباء، وتشخيص الرسامين المسلمين أيضاً، إلا أن الركب والمحمل، لكونهما عرسين بشريين كبيرين، وموكبين ضخمين بما يضمانه من حجاج وجند وأمراء، وما يستعينان به من إبل وخيول، وما يصاحبهما من مظاهر احتفالية ضخمة، لم يجرؤ على تشخيصه سوى القليل جداً من الفنانين المسلمين الفطاحل.

ولعل بمقارنة الرسمين، الممثلين للمدرستين العربية والهندية المغولية، وعلى الرغم من اشتراكهما في عدة خصائص؛ فإن رسم الواسطي يبدو أنه أقرب إلى الواقع، وأكثر دقة في التعبير، وإحاطة بموضوعه، فرسوم الواسطي تبدو عليها التلقائية في نقل الواقع كما هو، دون تصنع، والوجوه الدائرية للأشخاص، تبدو أكثر وِدّاً ومرونة وألفة، وهذا ما أضفى على رسومه حيوية ومسحة جمالية فائقة، جعلها تنفرد بها، في حقل التراث الفني العربي والإسلامي.

إن المدرسة العربية، التي تبلورت في النصف الأول من القرن السابع الهجري، تدين في تطورها للواسطي، فهو الذي يحوز فضل الريادة الفنية، وأخرج الرسم من وظيفته التعليمية الضيقة إلى وظيفة فنية تعبيرية وتوثيقية اجتماعية هامة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها