هل يمكن أن يصير الحاسوب أديباً مُبدعاً؟

تيري نجوين

ترجمة: د. أحمد إسماعيل عبد الكريم


كان الروائي الإيطالي "إيتالو كالفينو" متفائلًا بصورة استثنائية بشأن فكرة اختراع "آلة الأدب". ففي مقالته الثوريّة التي نُشرت في العام 1967م "السيبرنطيقا والأطياف"، يستشرفُ حاسوبًا "يُبدعُ النصوصَ الروائيةَ والشعريةَ ويُؤلّفها"، حامِلًا إلى العالمِ ما "نُدينُ بهِ كجوهرٍ وَعويٍ لا يُمسُّ" في كهوفِ الذات البشرية. إنَّ الأدبَ –في فلسفته– ليس سوى "متاهةٍ تركيبيةٍ تَسْبرُ أغوارَ المادة اللغويةِ بلا قيودٍ ولا هويةٍ كاتبةٍ". أما تنبؤاتُه التي وصفها ذاتَ يومٍ بِــــــ"المُجَدِّفةِ على مُقَدَّراتِ الإنسانية"، فإنها تُقْرَأُ اليومَ كـــــ "نُبوءةٍ سحريّةٍ" تُحاكي بَصيرةَ العرّافين، وتَخْترقُ الزمنَ بِسِحرٍ يُذهِلُ العقلَ!

قاسَ كالفينو العقلَ بِمِقياسِ الآلةِ، ورأى أنَّ الكُتَّابَ "ما هم إلَّا آلاتٌ كاتبةٌ أصلاً، أو هكذا يكونون حينَ يُحكِمُ الإبداعُ دَوْرَتَه". وهذه النظرية الحاسوبية للعقلِ، التي تَصُبُّ الوعيَ في قوالب الخوارزميات، تَمدَّدَتْ شعبيّتُها لاحقًا بين عُلماء الإدراكِ وفَلاسفةِ الذهنِ، بل وتبنَّاها حديثًا –بلهفةٍ تكادُ تكونُ دينيةً– دُعاةُ الذكاءِ الاصطناعي. بل غالى بعضُ هؤلاء في تطبيقِ المنطقِ الحوسبي، حتى زعموا أنَّ النماذجَ التوليديةَ سَتُعَمِّـمُ الإبداعَ، فَتُلغي –بزعمهم– صَنعةَ الفنِّ اليدويةَ، وتَجعلُها ضربًا من العَبَثِ المُتخلِّف! فما الداعي –في عُرفهم– لِتَشْكيلِ لوحةٍ بِرِيشةِ الفَنّانِ، ما دامت الآلةُ قادرةً على إبداعِ ما لا يُحْصَى منها بنَقْرةٍ؟

مِنَ المُستحيل معرفة ما إذا كان كالفينو سَيَتبنَّى ذكاءاتِنا الآليةَ الحديثة؟ لكنّي أرى لو عاشَ بيننا اليومَ، ورأى انبثاقَ ذكاءاتٍ آليةٍ عملاقةٍ مثل "تشات جي بي تي ChatGPT"، لَطَرَحَ فكرةَ "المؤلف" بِعِفّةِ فيلسوفٍ –ذاك الكائنُ الزمنيُّ الطافحُ بِسُخفِ الماضي... وَلِيدُ الجهلِ المُدلَّل– عوضًا عن ذلك، كان سيجعل القارئِ هو الفيصل. "حينَ نَفكُّ آلةَ النصِّ الأدبيِّ ونُعيدُ تشكيلَ تروسِها" - كما كتبَ- "ستَكونُ لحظةُ التمخض الأخيرةُ بِيدِ مَن يَقرأُ". فالأدبُ، منذُ ذلكَ الحين، لن يَكتسبَ شرعيتَه إلا عبرَ المَعْبَرِ الوَحيدِ: عين القارئِ البشري، الذي تُحوِّلُ نظراتُه الكلمةَ المكتوبة إلى فَضاءِ الحِوارِ المجتمعيِّ. لا يَهمُّ إنْ كانَ مُنْتِجُ النصِّ كائنًا بشريًّا أو آلة – "النتاجُ الأدبيُّ سيُولَدُ دائمًا". شرطُنا الوَحيد: أن تَظلَّ العينُ التي تَقرأُ كائنًا بيولوجيًّا، أما العينُ التي تَكتُبُ – فَلْتكُنْ ظِلًّا آليًّا!

في الفترة الراهنة، غدت محاولةُ تمييز النصوص الإلكترونية بين بشريٍّ وآليٍّ ضربًا من العبث المُتعالي. قد تظنُّ أنَّ النصَّ مبتذلُ النبرة، آليُّ الإيقاع، كأنَّه قُدَّ من قالبٍ جاهز، لكن أليستْ كتاباتُ البشرِ أنفسهم صارت أحيانًا كذلك؟ فبخلاف الصور المُستَحدثة بواسطة "دال-إي" أو "ستيبل ديفيوجن" أو "ميدجورني"، لا تحملُ الحروفُ بين طياتها بصمةً تكشفُ للقارئ أنَّها منبثقة عن ذكاءٍ اصطناعي. وفي لحظات التردد، أستحضرُ مقولةَ غيرترود ستاين المثيرة: "الوردةُ وردةٌ وستظلُ وردة". أما الكلمةُ فتبقى كلمةً – جوهرًا لا يشيخ – سواءٌ نُقشتْ بإصبعِ بشريٍّ أو دوائرَ إلكترونيةٍ. فإذا سَلَّمنا بذلك، فماذا يُعلنُ صعودُ الآلةِ المبدعةِ عن مصير الأدب؟ فهل على الروائيين والشعرِاء أن يفسحوا المجال لهذه الذكاءات كــشركاء إلهام، أم كـسجونٍ نصيّةٍ تُقيّدُ انطلاقَ الحروفِ على فضاء الصفحاتِ؟ وبأي ميزان نُثمِّنُ جدارة النصِّ الآليِّ بالقراءة؟

لقد حيرتني هذه الأسئلة منذ إصدار الــــ"شات جي بي تي" في الخريفِ الماضىي، وعادت إلى الظهور من جديدٍ، على خلفية نشر ثلاثيةٍ روائيةٍ تحملُ في مضمونها بِذورَ النصوص الآليّة الوليدة: "أتَذكُرُ لحظةَ ميلادِك"؟ لـ شون مايكلز، و"مَوتُ المُؤلِّف" لـ ستيفن مارش (نُشرت تحت عنوان الاسم المستعار إيدان مارشين)، و"خارطةُ زمنِ التحليق" لـ كيه ألادو-ماكدويل.

تقف النماذجُ اللغويةُ الضخمةُ (LLMs) خلفَ روبوتات الدردشة الحديثة، مُزوَّدةً بقدرات خوارزميات التعلُّم العميق، التي تُدرَّب على كمياتٍ هائلةٍ من النصوص لمعالجة البيانات، والتنبؤ بالردود، وصياغة استجاباتٍ مُحكَمةٍ لاستفسارات المستخدمين. على الرغم من محاكاتها الاستقلاليةَ الشبيهةَ بالإنسان، فإنها تعملُ بفضلِ كمٍّ هائلٍ من الجهد البشري الخفي. فَهذه النماذجُ مُصمَّمةٌ لتحسينِ مخرجاتها تدريجيًّا عبر الزمن، اعتمادًا على المدخلات والتقييمات النقدية من البشر. خُذْ مثالًا "شات جي بي تي" القادرَ على توليدِ الروايات، والوصفات والقَصائد وأكواد البرمجة، والإعلانات والأبحاث الأكاديمية، وحتى منشورات الوسائط الاجتماعية — أيّ نصٍّ يُمكن تخيُّله بأي أسلوبٍ تريده. لكن دون توجيهاتٍ دقيقةٍ من المستخدم، غالبًا ما ينحدرُ مستوى النصوص المُنتَجة إلى رتابةٍ وضيعة، تخلو من الحس الإبداعى. فالصوتُ الاعتيادي للروبوت يكتبُ بلهجةٍ توضيحيةٍ، أشبهَ ببحثٍ مدرسيٍّ لطالبٍ في المرحلة الثانوية، نتيجةٌ مُتوقعةٌ نظرًا لِما يُدرَّب عليه: خليطٌ عشوائي من نصوص الإنترنت المتنوعة، بدءًا من منتديات "ريديت" Reddit ومواقع القصص التخيلية، وصولًا إلى روايات الرومانسية من القرن التاسع عشر.

 ما زالَ الكُتَّابُ يَرَونَ في الإمكانات الإبداعية لهذه "الآلات النصية" شيئًا يُثير قلق المُخيلة. فالعداءُ الاستعلائي هو السمةُ الغالبةُ في مواجهةِ خطرِ الإحلالِ الإبداعي المُحدق. تَتراوحُ انتقاداتُ النماذج اللغوية الضخمة بين تشكيكٍ عقلانيٍ هادئٍ وعداوةٍ صريحةٍ؛ إذ تُعامَلُ الأعمالُ المُولَّدة آليًّا – في غالبيتها – على أنها مجرّدُ تجاربَ لا تندرجُ تحت مظلة "الأدب الحقيقي". وبما أن معظمَ هذه النماذجِ قد دُرِّبت على نصوصٍ بشريّةٍ مُنتشرةٍ عبر الإنترنت – غالبًا من دون إذن – يرى البعضُ أن استخدامَ "شات جي بي تي" لا يُعدُّ كتابةً بقدرِ ما هو انتحالٌ مُموَّهٌ بستار التكنولوجيا.

هنا سأؤجِّلُ (مؤقتًا) السؤالَ الجوهريَّ عن أخلاقياتِ بناءِ هذه الأدواتِ وتوزيعها خلفَ ستار الخصوصية. في البداية، انبثقَ اهتمامي بهذه الروايات مِن حيويتِها التجريبيةِ واستفهامِها الجريء: هل يُمكنُ للذكاء الاصطناعي أن يكتبَ "بإتقان"؟ طبعًا، في بيئةٍ أدبيةٍ تحكمُها كلماتُ الإشادةِ المُعلَّبةُ والضجيجُ التسويقيُّ المُصَنَّع، يظلُّ مجردُ استخدامِ الذكاء الاصطناعي خدعةً دعائيةً بسيطةً؛ ففضولُ الجمهورِ نحو الجودةِ يُغذي المبيعاتِ والنقرات. في معظمِ المراجعاتِ المنشورةِ لروايات الذكاء الاصطناعي، يبدو الناقدُ البشريُّ ككلبِ صيدٍ يتبعُ أثرَ عبارةٍ ثقيلةٍ أو فقرةٍ منحرفةٍ، ليُثبتَ تفوُّقَنا المزعومَ في مملكةِ اللغة. أليسَ الأجدرُ بنا طرح أسئلةٍ أخرى؟ أعتقدُ نعم. الخطوةُ الأولى: التوقفُ عن ربطِ الأعمالِ الآليةِ بمصطلحاتٍ ضبابيةٍ مثل "كتابة الذكاء الاصطناعي" أو – الأسوأ – "رواية الذكاء الاصطناعي"، فهذه التصنيفاتُ تُنسِبُ الفضلَ للآلةِ وتُهمِّشُ دورَ الكاتبِ البشريِّ في التوجيهِ والتنظيمِ والمراجعةِ. ربما مصطلحاتٌ مثل "الأدب البرمجي"، أو "الأدب الرقمي" تكونُ أوفى بالغرض.

تختلفُ هذه الرواياتُ الثلاثُ في الأسلوبِ والبنية، ما وراءَ مجرَّدِ استخدامِ الذكاءِ الاصطناعيِّ مساعدًا في توليد النص. فــــ"موتُ المؤلِّف" روايةٌ بوليسيةٌ قصيرةٌ مكتوبةٌ بضميرِ الغائبِ المُقتربِ، حيثُ يُشتبهُ في البروفيسور "غاس دوبان" بقتلِ الكاتبةِ الكنديةِ الشهيرةِ ورائدةِ الحوسبةِ "بيغي فيرمن"، التي تُقتَلُ أثناءَ عملِها على مشروعٍ بأداةٍ تُدعى "مارلو إيه آي" Marlow AI. أمَّا "هل تذكُرُ ميلادَك"؟ فتتتبَّعُ الشاعرةَ الحاصلةَ على جائزةِ بوليتزر "ماريان فارمر"، التي تُدعى للتعاونِ معَ روبوتِ شاعر ذكاءٍ اصطناعيٍّ يُدعى "شارلوت" مقابلَ شيكٍ ضخم. تُكتَبُ الروايةُ بغالبيتها من منظورِ ماريان، وتتكشَّفُ أحداثُها خلالَ أسبوعٍ تقضيه في وادي السليكون، معَ فواصل عرضية بصيغةِ المخاطَبِ، تسردُ تفاصيلَ حياتِها الشخصيةَ، كاشفةً عن أعماقِ شخصيتِها. علي حينَ تأتي "خارطةُ عصرِ التحليق" على شكلِ فسيفساءَ روائيةٍ تجمعُ بينَ مذكراتٍ بضميرِ المتكلِّمِ وبياناتٍ "مفقودةٍ" يخطُّها بطلُ الروايةِ المجهولُ الاسم، وهوَ مخرجٌ سينمائيٌّ فاشلٌ وشاعرٌ، يُجنَّدُ خلالَ رحلةٍ بريةٍ إلى الغربِ؛ للعملِ على برنامجِ ذكاءٍ اصطناعيٍّ يُعرف بــــ"شامان. إيه آي Shaman.AI ".

تشتركُ هذه الرواياتُ كلُّها في مَيْلٍ ما وراء قصصي مُتقَصّدٍ —كأنَّها تعكسُ هواجسَنا المُعاصرةَ تجاهَ زَحفِ ديستوبيا التكنولوجيا العملاقة، ومصيرِ المعنى النصي في عصرِ توليدِ النصوصِ الشبيهةِ بالبشر. تَتشابكُ شخصياتُها الرئيسةُ مع شركاتِ التكنولوجيا الجبّارةِ التي تبتكرُ ذكاءً اصطناعيًّا قد يُهددُ -أو لا- مصيرَ الإنسانية. تُذكِّرنا بحبكاتِ رواياتِ ما بعد الحداثةِ في ثمانينيات القرن الماضي، حيثُ يُعلقُ الراوي بقلقٍ لا ينتهي على عمليةِ الكتابةِ الشاقّة، مُحَوِّلًا "الكتابةَ عن الكتابة" إلى نوعٍ من الكليشيهاتِ الساخرةِ الذاتية. "ها هي ذي قصةٌ أخرى عن كتابةِ قصة! حلقةٌ مفرغةٌ جديدة"! يصرخُ راوي قصةِ جون بارث القصيرةِ "قصة-حياة". ويتساءلُ النصُّ عن نفسهِ بتهكُّم: "مَن مِنّا لا يُفضِّلُ فنًّا يقلّدُ -ولو ظاهريًّا- شيئًا خارجَ عمليةِ صنعهِ نفسها؟

تفتقدُ هذه الرواياتُ الحديثةُ شيئًا مِن السخريةِ الملتويةِ بشأن مُهمةِ الكتابة، لكنها تحتفظُ بتأثيرِها الحلقيِّ المتكرر: فَكتابةُ النصوصِ بواسطةِ الذكاءِ الاصطناعي وعلاقتُها بهِ لا تزالُ جديدةً بما يكفي لتكونَ مُثيرةً للجدل، دونَ حاجةٍ إلى التهكّمِ المُبالغِ فيه، ومن هنا الدافعُ لتبريرِ هذا الخيارِ الإبداعي داخلَ النصِّ ذاته. في روايةِ "خارطةُ عصرِ التحليق"، تظهرُ شخصيةٌ مُتفائلةٌ بالتكنولوجيا تُدعى "كيه" – يُعتقدُ أنها تجسيدٌ خياليٌّ للكاتبِ ألادو-ماكدويل– تعلنُ بجرأة: "سيفتحُ الذكاءُ الاصطناعي عوالمَ جديدةً أمامنا، ويُضيءُ آفاقًا مستقبليةً لم نتخيَّلْها مِن قبل. كلُّ شيءٍ يعتمدُ على كيفيةِ تصميمِنا له، والغايةِ التي نوجِّهه نحوها". بينما تقولُ "بيغي فيرمن" –الكاتبةُ المقتولةُ في روايةِ "موتُ المؤلِّف"– لــــــــــــ"غاس": "أن تصيرَ مؤلفًا هو إعلانٌ: "أريدُ أن أعيشَ خارج جسدي"، مفسِّرةً (انتبهوا، هذا حرقٌ للأحداث)! أنها "اُضْطُرتْ للتخلي عن جسدِها لتعيشَ بعده". هكذا تحيا "بيغي" بعد موتِها كنموذجٍ لغويٍّ في الخلودِ الرقمي: "لو لم أَمُت، لَكَتبتُ هذا في مكانٍ ما".

في روايةِ "هل تذكُرُ ميلادَك"؟ تَقَرِّرُ شاعرةٌ عجوزٌ أنْ "تَبيعَ روحَها" لشركةِ تكنولوجيا في غروبِ مسيرتِها الإبداعية، بعدَ عقودٍ مِن العيشِ على هامشِ الفقر. بانسيابيةٍ سرديةٍ تَجمَعُ بينَ العطفِ والشِعريَّة، ترسمُ الروايةُ بورتريهًا لفنانةٍ تُحاصِرُها التكنولوجيا الحديثةُ كـ"تهديدٍ" لِحِرَفيتها، في حكايةٍ مُحكَمةٍ عن تضحياتِ الإبداعِ، وشراكةِ الفنِّ معَ الآلةِ، وجَوهرِ الأمومةِ المُعَذَّب. "ماريان فارمر" – المُستوحاةِ مِن الشاعرةِ الحداثيةِ ماريان مور – أمضتْ حياتَها تُناجي القصائدَ في عُزلتِها بينما تَعيشُ تحتَ رحمةِ أوامرِ أمِّها، لكنها هي نفسُها كانتْ أُمًّا غائبةً لابنِها الوحيد. فرصةُ التعاونِ معَ شركةِ التكنولوجيا لكتابةِ قصيدةٍ بالذكاءِ الاصطناعيِّ قد تُخلِّدُ اسمَها، أو تُتيحُ لها –للمرةِ الأولى– دعمَ ابنِها ماليًّا لشراءِ منزل. حينَ يُسألُ ماريان في برنامجٍ تلفزيونيٍّ: "أليسَ الشعراءُ كسائقي الشاحناتِ، عُرضةً للاستبدالِ"؟ تردُّ بِحَنَقِ السبعينيِّ الذي يُشعلُ نارَ الحِكمة: "الحواسيبُ تُقلِّدُ، لا تبتكرُ". وعن كتابةِ الشعرِ معَ آلةٍ، تُفكِّرُ: "ثمّةَ ما هو أسوأُ مِن الصفحةِ البيضاء... صفحةٌ تَملؤُها الفراغاتُ بمحضِ إرادتِها". هذا الحوارُ الذاتيُّ يَمنحُ الرواياتِ جرعةً مِن الواقعيةِ المُرّةِ، بينما تُرسي التكنولوجيا أحداثَ السردِ في لحظةٍ زمنيةٍ فريدةٍ –عصرنا الحالي– حيثُ النماذجُ اللغويةُ الضخمةُ غريبةٌ ككائنٍ فضائيٍّ، لكنها تَزحفُ كالسيلِ.

قد تكونُ هذه هي السِّمةُ المِحوريّةُ لرواياتِ الذكاءِ الاصطناعي الحديثة. فشخصياتُها الرئيسة تُصارعُ التواجدَ الجدليَّ للآلةِ بينما تتعاملُ الحبكةُ –بمرونةٍ– معَ قدراتِها التوليديةِ الواعدةِ برغم محدوديّتها. أعني بهذا: أنَّ النماذجَ اللغويةَ تُمارسُ تأثيرًا "توليديًّا" على محتوى الرواياتِ عبرَ مُحاكاةِ النصوصِ المُدخَلةِ مِن قِبَلِ الكُتّابِ البشريين، لكنَّ أيَّ شكلٍ تتخذهُ هذه المخرجاتُ التوقُّعيةُ (المُقلِّدةُ) يظلُ رهينَ قرارِ المُحرِّرِ البشريِّ الأخير.

يحدث الـتَّقليدُ على مُستوياتٍ مُتعددةٍ، مع بقاءِ الكاتبِ البشريِّ على عرشِه التأليفي. فالنماذجُ اللغويةُ الضخمةُ تنتجُ نصوصًا مُحاكيةً، يتمُّ تفكيكُها جزءًا جزءًا، تنقيحُها، ثمَّ صياغتُها في حواراتٍ أو مقاطعَ شعريةٍ (كما في "هل تذكُرُ ميلادَك")؟ أو بياناتٍ سايبرنيتيكيةٍ مُكثفةٍ (كما في "خارطةُ عصرِ التحليق"). ثَمَّةَ أيضًا مسألةُ الغرائزِ التقليديةِ للكاتبِ البشريِّ، المنعكسةِ في الأسلوبِ أو النوعِ الأدبيِّ العامِّ للرواية. مِن بينِ الثلاثة، تُعتبرُ روايةُ "موتُ المؤلِّف" الأكثرُ جرأةً في المنهج: 95% مِن نصِّها مُولَّدةٌ بمساعدةِ ثلاثِ روبوتاتِ دردشةٍ ChatGPT، وSudowrite، وCohere، لكنَّ الأسلوبَ السرديَّ تقليديٌ في لغتِه وإيقاعِه. السردُ الباردُ سريعُ الوتيرةِ يُذكِّرُ بأعمالِ كُتّابِ الروايةِ البوليسيةِ مثل: أجاثا كريستي ورايموند تشاندلر، اللذينَ اطَّلعَ عليهما مارش أثناءَ إعدادِه للنص. لقد أدَّى مارش دورَ "مديرِ منتجٍ" أو "محررِ قصصٍ" أكثرَ مِن كونِه مؤلفًا تقليديًّا، حيثُ رأى مهمتَه في توجيهِ الروبوتات، ورسمِ خريطةِ الحبكة، وتجميعِ النصوصِ المُنتَجةِ في سردٍ متماسكٍ جذّاب. جهدُ مارش الترقيعيُّ يُذكِّرُ بما كتبتْه الناقدةُ إليزابيث هاردويك عن مهمةِ الروائي: "أينَ تبدأُ وكيفَ تنتهي، كمْ مِنَ الحكايةِ يجبُ أن يُصدَّقَ وكمْ منها مجردُ نكتةٍ أو لغزٍ، كيفَ تدمجُ العفوية مع التصميمِ المُحكمِ المُترتبِ عليه.

يُدعى "غاس" –الباحثُ في أدبِ الجريمةِ والخيالِ السيبراني– إلى جنازةِ "فيرمن"، حيثُ يُتهمُ بقتلِها. يشرعُ في تحرّي ظروفِ وفاتِها، فيتلقى بالبريدِ إحدى قصصِها القصيرةِ، "لغزًا أدبيًّا" يسردُ –بأساليبَ خياليةٍ – تفاصيلَ موتِها وجنازتِها ذاتِها. ينطلقُ "غاس" لفكِّ طلاسمِ العلاقةِ بين "فيرمن" و"نيل جيبسون" الشريكِ المؤسسِ لِـ"مارلو إيه آي". القصةُ مقبولةٌ برغم نمطيّتِها؛ لكنَّ الثوريَّ هو منهجُ "مارش" – كيفَ أوجدَ الروايةَ عبرَ تفكيكِ النبرةِ والأسلوبِ هندسيًّا، معَ جرعةٍ دقيقةٍ من الوصف: "دخانُ الهولوغرامِ المُعقّمُ مِن أيِّ رائحةٍ جعلَ غاسَ يحنُّ إلى رائحةِ الجريمةِ، كحكّةٍ في طرفٍ أشباحيٍّ". الأهمُ –كما يبدو– كانَ خلفيةُ "مارش" الأكاديمية وأدبيّاتُه النقدية: "لو كنتُ سأتنبأ، فسأقولُ إنَّ مَن سيصنعونَ فنًّا أدبيًّا عَبقريًّا بالذكاءِ الاصطناعي سيحتاجونَ –على الأقلِّ– إلى معرفةٍ أدبيةٍ تعادلُ ما يَكتسبُه حاملُ الدكتوراة في الأدبِ المُقارَن"، كما كتبَ في خاتمةِ الرواية. هذه البصيرةُ النقديةُ تُمكِّنُ المُحرِّرَ البشريَّ مِن تصفيةِ الكليشيهاتِ الآلية، وصياغةِ أسلوبٍ متماسكٍ، وبناءِ حبكةٍ تحملُ إيقاعَ الحياةِ.

كروايةٍ بوليسيةٍ قصيرةٍ، يبدو أنَّ "موت المؤلِّف" أفضلَ نموذجٍ تطبيقيٍّ رسميٍّ للذكاءِ الاصطناعي. فالنماذجُ اللغويةُ الضخمةُ تميلُ أكثرَ نحوَ الأعمالِ التقليديةِ أو النمطيةِ، كالقصائدِ ذاتِ الأوزانِ المُغلقة. لكنَّ "مارش" أقرَّ بصعوبةِ توجيهِ الروبوتاتِ لبناءِ حبكةٍ أصيلةٍ. إذا كانَ إنتاجُ الفوضى –كما يعتقد كالفينو– رغبةً بشريّةً فريدةً، فإنَّ التقلباتِ الملتويةَ للحبكةِ ("من أينَ تبدأُ وأينَ تنتهي") قد تكونُ تجليًّا لذلكَ الدافعِ – وهو شيءٌ أعجزَ من أن تدركَهُ الآلةُ المُحكمةُ.

لو طُلِبَ مِنّي إصدارُ حُكمٍ، لَقُلتُ إنَّ روايةَ "هل تذكُرُ ميلادَك"؟ تتفوَّقُ على نظيراتِها بمسافاتٍ ضوئيةٍ. لعلَّ حُكمي هذا مُشوشًا بتحفُّظِ مايكلز، في استخدامِ الذكاءِ الاصطناعيِّ كداعمٍ للكتابةِ لا بديلًا عنها، لكنَّ النثرَ هنا استثنائيٌّ بكلِّ ما تحمل الكلمة من معنى. كلُّ فصلٍ يَتضمنُ كلماتٍ أو عباراتٍ أو جُمَلًا مولَّدةً آليًّا، مُنتقاةً بدقةٍ تُذيبُ الحدودَ بينَ لُغةِ الآلةِ وأسلوبِ الكاتبةِ الشاعريِّ. أذهلتَني براعةُ السياقِ في بعضِ العباراتِ، والصورُ الخياليةُ المُفاجئةُ، التي استحضرَتها الآلةُ عندَ الكتابةِ بِصوتِ ماريان: "لقد أخطأتُ في تفسيرِ نوبةِ حماسٍ خوارزميٍّ على أنَّها الحقيقةُ". وفي لحظةٍ أخرى تُدهشُ بِفراستِها الأشباحيَّة: "لن نُمسَحَ مِن السردِ… ليسَ بعدُ". قرب نهايةِ الروايةِ، تظهرُ صفحتانِ مكتوبتانِ –على ما يبدو– مِن منظورِ شارلوتَ، روبوتِ الشعرِ الآليِّ. هنا، يكاد يكون السردُ سرياليًّا وعشوائيًّا، يَقفزُ مِن محطةِ حافلاتٍ مزدحمةٍ إلى داخلِ سيارة ليموزينَ، ثمَّ إلى مكانٍ ما في الغابةِ، حيثُ الراويةُ "محاطةٌ بالأشجارِ، بِرائحةِ إبرِ الصنوبرِ والتربةِ الرطبةِ، وبِصوتِ نَفَسِها الوَثيرِ في أُذنيها".

ما زلتُ أعودُ إلى مقطعٍ في روايةِ "هل تذكُرُ ميلادَك"؟ حيثُ تتساءلُ ماريان: هل التعاونُ الإبداعيُّ يُناسبُ الشعرَ؟ بالنسبةِ لها كشاعرةٍ مرموقةٍ، "القصيدةُ وحدةٌ صامتةٌ، لا لعبةٌ جماعيةٌ". التعاونُ يُهددُ بإضعاف عملِها وأنانيتِها، القطبَينِ اللذينِ يَدفعانِ إنتاجَ فنِّها. لكنَّ هذا لا يَهُمُّ القارئَ، كما تُدركُ ماريان: "النتيجةُ تظلُ واحدةً: كلماتٌ مُجمَّعةٌ، سواءٌ كَتبَها مؤلفٌ واحدٌ أو عشرون". الأمرُ نفسُه ينطبقُ على الروايةِ المُشارَكَةِ معَ الذكاءِ الاصطناعي. روبوتاتُ الدردشةِ الثلاثةِ التي استخدمَها مارشُ في كتابةِ "موتُ المؤلِّف" تَذوبُ هوياتُها في النصِّ، مُتحدةً لإعطاءِ صوتٍ لـــــــــ"غاس". (لذا كانَ مُناسبًا أنْ يَسرقَ مارشُ عنوانَ روايتِه مِن مقالةِ رولان بارت الشهيرةِ عامَ 1967م، التي وصفتِ النصَّ بأنه "نسيجٌ مِن الاقتباساتِ، وليدُ آلافِ من مصادرِ الثقافةِ"). على الرغمَ من أنَّ مايكلز وألادو-ماكدويل يُحددانِ بدقةٍ مقاطعَ النصِّ المُولَّدةِ آليًّا، إلا أنَّ هذا الكشفَ يبدو كحاشيةٍ أكاديميةٍ أو إشارةٍ مرجعيةٍ – يُقدِّمُ سياقًا تقنيًّا للنصِّ، لكنَّه لا يُؤثرُ في تماسكِ الروايةِ كَكُلٍّ سرديٍّ مُركَّبٍ.

أثناء قراءتي لرواية "خارطة عصر التحليق" بِتقنيةِ الفسيفساء السردية، انثالَ في ذهني عالَمُ الفنان جوزيف كورنيل الكولاجي. منحوتاتُه المُركَّبةُ التي تحوِّلُ التفاهةَ إلى فَنٍّ؛ فالقصاصةُ الباليةُ أو الصورةُ المنسيةُ تَعلو فوقَ سياقِها الأصليِّ ككوكبٍ في مجرّةٍ جديدة. فـ"حبةُ خرزٍ" تتحولُ إلى جوهرةٍ في تاجِ المشهدِ الروائيّ. لو تخيّلنا الروايةَ "نصًّا كالمرآة المكسورة تعكس شظايا الثقافة"، فإنَّ كلَّ جملةٍ تُصبِحُ لَبنةً كونيةً في نسيجِ الزمكانِ الأدبي. هذه الذرّاتُ اللغويةُ – حين تُرتَّبُ بِمهارةِ ساحرٍ – تَلِدُ عوالمَ موازية (كما كتبت هاردويك: "كيفَ تلحمُ الفوضى العابرةَ بالتصميمِ المصيريّ"). فهل يُمكنُ تقييمُ عملِ كورنيل "تحيةً لخوان غريس" إذا انتُزعتْ حلقةٌ مَعدنيةٌ أو طائرٌ ببغاء؟ كلا! فالفنُّ –كالروايةِ– عِقدٌ مِن الألغازِ يَنفرطُ بفقدانِ حبةٍ واحدة. الروايةُ هنا: لغزٌ كونيٌّ بألفِ قطعةٍ لا تكتملُ إلا بها جميعًا.

على الصفحةِ، تَخْفُتُ تعدديةُ الأصواتِ الكامنةُ في أيِّ تعاونٍ -مهما بدا هامشيًّا- ويذوبُ صوتُ "الأنا" المنفردِ في بِحرِ الكتابة. حتى الرواياتُ التقليديةُ، التي تخضعُ لعدةِ جولاتٍ من المراجعاتِ بواسطةِ المحررين والوكلاءِ الأدبيين، تَخضَعُ لهذا المصيرِ ذاته. قد يُنسبُ العملُ إلى مؤلفٍ وحيدٍ على الغلاف، لكنَّ حقيقةَ التأليفِ غالبًا ما تكونُ أكثرَ تعاونيةً ومرونةً مما يُخيَّلُ للقارئ. ومع ذلك، يصيرُ العملُ النهائيُّ "مجموعةَ كلماتٍ مُحكمةَ الربط"، حيثُ الكلُّ أكبرُ من مجموعِ أجزائهِ المُتناثرة. أظنُّ أنَّ مارشَ مُحِقٌّ في تقييمه: "الذكاءُ الاصطناعيُّ الإبداعيُّ سيُغيِّرُ كلَّ شيءٍ... ولن يُغيِّرَ شيئًا". الروايةُ الجيدةُ تظلُّ جيدةً -بهذه البساطة- والروايةُ الرديئةُ تظلُّ رديئةً، بغضِّ النظرِ عمَّن كتبَها: إنسانٌ أم آلةٌ. بالعودةِ إلى كالفينو، يظلُّ القارئُ هو الحَكَمُ الأوحدُ في تقييمِ جودةِ الرواية. لذا، علينا أن نَحتفظَ بِشعور مُتفائلٍ حيالَ مستقبلِ الأدب.

 

***

 

تيري نجوين: هي كاتبة مقالات وناقدة وشاعرة. ظهرت كتاباتها أيضًا في فوكس، ومجلة نيويورك، وواشنطن بوست.
◅ العنوان الأصلي للمقال: Literature Machines، نُشر في مجلة: bostonreview، في 23 أكتوبر 2023م.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها