القِيمُ في أدبِ الأمثالِ الشعرية

دراسة بلاغية ثقافية

د. الناصر ظاهري


نشأتْ قراءاتٌ متنوعةٌ تبحثُ شعريةَ الخطابِ الأدبيّ وما به يحقق أدبيته باعتباره نشاطًا لغويا يمتِعُ ويُقْنِعُ في آنٍ، ويتراءى أنّى يكنْ جنسهُ الذي ينخرطُ فيه واقعةً ثقافيةً موصولةً بأهلِ الإبداعِ، فيشغَلُ نظامُهُ البيانيُّ في إخراجِ المعاني وطرائقُ تصْويره النقّادَ والبلاغيينَ، وقد عكفوا على تصنيفِ هذا المُنْجَزِ الفنيّ إلى أجناسٍ خطابيةٍ مضبوطة، ترتدّ قسمتهُ المألوفَةُ عامةً إلى المنظومِ والمنثورِ. بيد أنّ المثَلَ الشعريّ في الأدبِ العربيّ القديمِ يعدُّ جِنْسًا مخصوصًا بما حازَ من سماتٍ تؤهّلهُ سواء ما اتّصَلَ بنظامهِ التركيبيّ وبمواضعهِ وأسلوبهِ في التعبيرِ والتصويرِ فضلا عن وظيفتهِ، فيضحي لونًا تواصليّا ناجعًا. بالإضافةِ إلى طبيعتهِ تداولِهِ فإنّه يُزاحِمَ بنظامهِ البيانيّ الأشعَارَ والأراجِيزَ عند العربِ القدامَى في جَمعِهِ بينَ خَصَائِصِ النَّثْرِ والشِّعْرِ.
 

وبسببٍ من ذلك، تنافسَ الخطباءُ في تَحْصِيلِهِ واستثمارهِ في تفاعلاتهم إن حاجُّوا خصوما أو سعوا إلى حملِ المخاطَبِ على الإذعانِ إلى أطروحاتهم وآرائهم، وشغفَ ببلاغتهِ الأخيارُ والعُقَلاَءُ من أهلِ الفصاحة وغيرهما. وهو يدلُّ على صلتهِ المتينةِ بِدَلالةِ الانتقالِ الثقافيّ الذي شهدتهُ الحضارةُ العربيةُ من طورِ المشافهةِ إلى مرحلةِ التدوينِ وما صحبهُ من بروزِ أشكالٍ وخفوتِ أخرى، كلّ ذلك محكومٌ بنسقٍ مضمرٍ في المنحى الثقافيّ العامِ. فكان هذا التنازعُ بين جنسَيْ المنظومِ والمنثورِ دافعًا إلى التفكيرِ من وجهةٍ نظرٍ ثقافيةٍ في إعادةِ مساءلةِ القضيةِ، فقد يومِئُ المثلُ إلى دلالةِ المشابهةِ. وممّا يعزّزُ ذلك ما ذكرهُ أهل النقدِ والبلاغةِ في شأنِ تعريفِهِ والوُقُوفِ عِنْدَ خَصائصِهِ الفنيّةِ والشَّكليّةِ التي تميزهُ مُقَارنَةً بِغَيْرِهِ من الأجناسِ الأدبيّةِ الأُخْرى. ونؤثِرُ في هذه الدراسةِ الموسومةِ بـ"القيَمُ في الأمثالِ الشعرية العربية القديمة، دراسة بلاغيةٍ ثقافية" مقاربةَ هذا الجنسِ الأدبيّ واستجلاءِ أهمّ سماتهِ النّوعيةِ ورصدِ طرائقِ منشئيهِ في بناءِ المعاني. وَعلى هذا النحو، فإنّنا عازمون على تدبّرِ مصنّفاتِ اللغويين ومتونِ النّقدِ العربيّ القديمةِ للظفرِ بالسماتِ الجامعةِ المانعةِ للأمثالِ الشعريةِ. ونعقّبُ هذا الجهدَ بالبحثِ في طرائقِ ضاربِ المثلِ العربيّ القديمِ في بناءِ المعنى الدائرِ في فلكِ القيمِ الأخلاقية من خلالِ الاستعانَةِ بآليةِ الاستعَارةِ الإدراكيّةِ.

1. الأمثال الشعريةُ:

يُدْركُ دارسُ التّراثِ الأدبيّ العربيّ هيمنةَ فنّ الشّعْر، فقد أعلوا من منزلةِ الشاعرِ بوصفهِ أميرَ بيانٍ، وماثلوا دوره بالحكيمِ الساحرِ الذي يَرى ما لا نرى، وجعلوا أشعارَهُ مجمعَ آدابِ العربِ وقيمهم وسجّلَ أيّامهم فضلا عن كونهِ مصدرَ علومهم. ويستوقفنا المدلولُ اللغويُّ لعبارة الشّعر، فهي مشتقة من الجذر الثلاثيّ (ش، ع، ر)، وقيل: شعر يشعرُ شعورًا أي علِمَ، ومن هنا جاءت عبارة ليت شعري التي تعني ليتني كنت أعلمُ، وشعُرَ بكذا بمعنى إذا درى وفطنَ لهُ. ولذلك، يعلّلُ قدامة بن جعفرٍ وجه التسميةِ بقوله: "والشاعرُ من شعر يشعُر شعرا.. وإنّما سمّيَ شاعرا لأنّه يشعرُ من معاني القولِ وإصابةِ الوصفِ بما لا يشعُرُ به غيْرُه"1. ولعلّ هذا البعدَ الخلاّقَ في الشعر لاقترانه بالوعيِ والكشفِ هو ما حدَا بالعربِ إلى الاحتفاءِ بهِ، وقد أحاط أبو هلالٍ العسكري بوظيفة الشعر بوصفه مصدر العلم والمعرفةِ بقوله: "وكذلك لا نعرفُ أنسابَ العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلاّ من جملةِ أشعارها، فالشعر ديوانُ العرب"2، وأضاف قائلاً إنّهُ: "خزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها"3.

ولمْ يشُذَّ النقاد المحدثونَ عن هذا التصوّرِ، بل أجمعوا على اعتباره مصدرَ معرفةٍ يختزل فكراً أُشْرِبَ القيمَ الأخلاقية، وقد ذكر جابر عصفور في كتابه" الصورة الفنية هذا الرأي بقوله إنّ الشعرَ "ديوان العربِ، عليه يعتمدون، وبِهِ يحكمونَ، وبحكمهِ يرتضونَ حتّى صار الشاعرُ بمنزلةِ الحاكمِ"4. وعلى هذا النحو، لم يغفلْ أهلُ البلاغةِ والنّقدِ عن سائرِ الأجناسِ الأدبية الأخرى وإن استغرقَ شأنُ الشعرِ أساسا جهدهم، فإنّهم أحاطوا علما بالمنثورِ سواءً ما اتّصلَ بالخُطبِ أو الحكمِ أو الأمثالِ البليغةِ. وتطالعنا مصنّفاتٌ نقديةٌ أولتْ عنايةً بأدبِ الأمثالِ، وبحثتْ ماهيتهُ وحدوده التي تميزه عن الأنواعِ المجاورةِ كالحكمِ والوصايا على سبيل المثال، ونزعت طائفةٌ أخرى إلى تتبّعِ وظائفهِ وأثره في المخاطبَ باعتباره رسالةً تحملُ رؤيةَ المرسلِ إلى ذاتهِ وإلى الوجودِ من حولهِ، وتجلي حقيقةَ الآدميّ بوصفهِ كائنا ناطقا عاقلا يستثمرُ اللغةَ وكلّ وسائطِ التّواصل مع الآخرِ، وبأمثاله التي يضربُ يسعى إلى الإبانةِ والبيانِ وإلى الفهم والإفهامِ. وبسبب من ذلك، يكونُ الإنسانَ محتاجًا في إنشاءِ أقاويله المثليةِ إلى موردٍ ينهلُ منه وإلى أسلوب يتّبِعهُ وإلى رصيدٍ لغويّ يغنيهِ وإلى مقامٍ يراعيه شرط التزامهِ طريقةً محكمةً في بناء المثلِ موجزًا مكثّفًا، فيكونُ خطابهُ أعلقَ ببلاغةِ النّدرةِ قالبا وأدنى إلى وقْعِ الشعرِ عبر آلية السجعِ، فالمثل هو "القولُ السّائرُ المشبَّهُ مضربهُ بموردهِ"5. وأنّى يكن من أمرِ، فقد عرّفَ المثلُ بكونه صنفًا من أصنافِ القولِ المنثورِ يتفرّد بالسياق الذي قيلَ فيه أوّل مرّةٍ ويلازمُه مضربٌ بمثابةِ السياقِ الذي يُعَادُ فيه إنتاجُه وتوظيفُه. إنّه مُنجزٌ فنّي جسّد "ما تراضاهُ الخاصةُ والعامةُ في لفظه ومعناه حتى ابتذلوه في ما بينهم، وفاهوا به في السرّاءِ والضرّاءِ، واستدرّوا به المُتمنّعَ من الدرِّ، وتوصّلوا به إلى المطالبِ القصيةِ، وتفرّجوا به عن الكُربِ المُكْرِبَةِ، وهو من أبلغِ الحكمةِ؛ لأنّ النّاسَ لا يجتمعونَ على مقصّرٍ أو ناقصٍ في الجودةِ أو غير مبالغِ في بلوغ المدى في النّفاسَة"6. ويعرّفُ المثلُ الشعري بكونهِ كلاما حِكَميّا بليغًا مُوجَزًا، يُصاغُ في قالبٍ شعريّ، مزيّتُهُ سهولَةُ الحفظ، ويُؤْتى بهِ للدّلالة على موقف أو تجربةٍ إنسانيةٍ شائعة. وغالبًا ما تحمل هذه الأمثال عِبَرًا أخلاقية أو حكمًا راسخةً عبْر الأجيال تمثّل خلاصةَ تجارب في الحياةِ.

2. التنازعُ بين المنظُومِ والمنثُورِ:

حريّ بنا أن نشيرَ إلى أنّ الأمثالَ الشعريةَ في الخطابِ الأدبيّ عند العربِ هي جنسٌ من أجناسِ الكتابةِ الفنيةِ جمعتْ من الخصائصِ الشكليةِ والمضامين العميقةِ ما يجعلها جنسًا وسطًا، جسّد إلى حدٍّ بعيدٍ حالةً منَ التردّدِ بينَ سلطةِ الشعرِ بأقاويلهِ الموزونة والمقفّاة الموغلةِ في التخييلٍ وبينَ صرامةِ الكتابةِ النثريةِ. فيضحي المثلُ الشعريُّ علامةَ قوّةٍ وشاعريةٍ، فهي مكمنُ طرافةِ القصيدةِ، وتستحيلُ خاصيةً تثيرُ الاستحسانَ والدهشةَ والإعجابَ لأنّها تمثّل وجها من وجوه الإعجازِ، فقد ذكر العكبريّ عند شرحه ديوان المتنبيّ مستندا إلى رأي الثعالبيّ: "وقد أجمع الحذّاقُ بمعرفةِ الشعرِ والنقدِ أنّ لأبي الطيب نوادر لمْ تأْتِ في شعرِ غيرهِ وهي ممّا تخرق العقولَ"7. وإذا أنعمنا النّظرَ بدقّةٍ في الأمثالِ الشعرية التي لقيت استحسانا ألفيناها تنزعُ إلى الاشتراك في جملةٍ من الخصائصِ لعلّ أولاها أنّها جاءتْ من حيثُ الصياغةُ تراكيب بسيطة تنتشرُ على مساحة صدر البيتِ أو عجزه، فيجريها الخطيبُ مقاطعَ من الكلامِ تامة قائمةً بذاتها، قابلة لأن تنتزع من القصيدةِ التي تحتضنها، ولا يختلّ مبناها أو معناها. ونراها خاليةً تماما من التوشيةِ البلاغيّةِ. ولمّا كانت هذه الأمثالُ الشعريةُ على هذا النحو من وضوحِ الدلالة على معانيهاِ وبساطةِ التركيبِ فإنّها "صارت قابلةً لأن تعلقَ بالأذهانِ، فَيَسُرَ حِفْظُهَا وأمكنَ التّمثُّلُ بها في المحاورةِ والمُرَاسَلةِ"8. وممّا جاءَ أعجازا لأبيات قول المتنبيّ:
لَيْسَ التّكَحُّلُ في العينيْنِ كَالكُحْلِ. أو قوله: مَا كُلُّ دَامٍ جَبِينُهُ عَابدُ.

وممّا جاء أبياتا كاملةً:
إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ مَلَكْتَهُ .. وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرّدَا.

أمّا جملةُ معانيها فتدورُ غالبًا حول حقائقَ بسيطةٍ من قبيل البديهياتِ الشائعةِ التي تتعلّقُ بالسّلوكِ الفرديّ الفاضلِ أخلاقيّا وبحتمية الموتِ والفناءِ والتحذير من فتنةِ الدنيا وبكلّ وجوه صراعِ الذّاتِ المفردةِ ضدّ الآخرِ وضدّ الحدودِ التي تعيقُ العيشَ السّعيدَ، يقول المتنبيّ في بيتٍ شعريّ حقيقةَ الحياةِ التي يرى ما يسرّ قومًا إلاّ بسوءٍ يلحقُ آخرينَ، وكأنّ القولَ تذكيرٌ بحقيقة ثابتةٍ تختزلُ في عجزِ البيتِ الذي صيغَ في هيئةِ مثلٍ شعريّ محكومٍ بمبدأ التقابلِ:
بِذَا قَضَتِ الأيّامُ مَا بَيْنَ أهْلِهَا .. مَصَائِبُ قَوْمٍ ضدَّ قَوْمٍ فَوائدُ

وهكذا، استثمر الشاعرُ المثل ليدلّ به على ملابسة جميع الأحوال المماثلة لمضمونها، فالمرءُ إنْ وجدَ نفسهُ في وضعٍ يقاربُ معاني أبيات الأمثالِ والحكمِ تمثّلَ بهِ عظةً واعتبارا أو تسليةً واصطبارا. وبدلك، سميّ المثل "مثلا لأنّه ماثلٌ لخاطرِ الإنسانِ أبدا يتأسّى به، يعظُ ويأمر ويزجرُ"9. ويحسنُ بنا القولُ إنّ الأمثالَ الشعريةَ إنّما هي جنسٌ سائلٌ أقربَ إلى النثرِ المنظومِ يفتكُّ من النظمِ خصيصةَ الوزنِ حتّى يكونَ موقّعا مؤثّرا، فيلتقطهُ السّامعُ ويطربُ إليه، يؤتى به في مواضعَ مختلفةٍ من أبياتِ القصيدةِ، وفضلهُ أنّه يوضّحُ المُنْبَهِمَ ويفتحُ المُغْلَقَ، وبهِ يصَوّرُ المعنى في الذهنِ ويُكْشَفُ المعمّى عند اللّبْسِ، وبه يقعُ الأمرُ في النّفْسِ حُسْنَ مَوْقِعٍ.. وبه يقعُ إقناعُ الخَصْمِ وقطعُ تشوّفِ المعترضِ"10. ويخصّص الحسن اليوسي الفصل الرابعَ من كتابه زهر الأكم لِلمَثَلِ الشِّعْرِيّ، فيراهُ نوعًا من الكلامِ لهُ خُصُوصيَّةٌ تواصليّةٌ بسببٍ من نظمهِ، إذ يقول: "وهو يكون نثرا تارةً، وذلك أكثرهُ، وقد يكونُ نظمًا. فإنّ المثلَ وإن كان سائِرًا، لكنّه إذا نُظِمَ كان أَسْيَرَ له وأسهل على اللّسانِ وأحسنَ"11. ومنْ هنا يتبيّنُ للدارسِ أنّ المثلَ الشعريّ السائرَ في كلامِ العربِ كثيرٌ نظمًا ونثْرًا، وأفضله أوجزهُ، يوسمُ بكونهِ شرودًا لا يردُّ. ثم قالوا: "والمثلُ إنّما وزنَ في الشعرِ ليكون أشردَ له وأخفَّ للنطقِ بهِ، فمتى لمْ يتزنْ كان الإتيانُ به قريبًا من تركه"12. وقد يرتحلُ في القصيدة، فيحلُّ بيتا كاملا، أو قد يقَعُ نصفَ بيتٍ أو ربُعَهُ أو نحو ذلك من الأجزاءِ في القصيدةِ. وقد يورِدُ الشاعرُ في البيتِ الواحد مثليْن حتى خمسة أو ستّة من قبيل ما قال ابن رشيق13:
خُذِ العفْوَ وَأْبَ الضّيمَ واَجْتَنِبِ الأَذَى .. وَأَغْضِ تَسُدْ وَارْفقْ تَنَلْ واسْخُ تُحْمَدِ

ومما يلفت الانتباهَ أنّ البيتَ الشعريّ بشطريْهِ قامَ على استدعاءِ الأمثالِ الشعريةِ في صياغةٍ متوازنةٍ توزعتْ بين ثلاثةِ أمثالٍ في الصدرِ يضارعها نفسُ الكمّ في العجزِ، وهي تختزلُ القيمَ الأخلاقيةَ المحمودة في الثقافة العربيةِ وآدابها من قبيل العفوِ والإباءِ والعدلِ والرفق والجودِ. وهي أعلقَ بالطلبِ وتعليله ممّا يجلي الدور التأديبيّ للمثلِ في أدبِ العربِ.

3. القيمُ الأخلاقيةُ مدرَكًا ذهنيّا في أدبِ الأمثالِ:

يتوقُ المرءُ بناءً على التّصوّرِ الإيمانيّ طمُوحًا إلى بلوغِ السّعادةِ في الدارينِ، فلا يشقى إن سلك سبيلَ الهدى والرّشاد، فأمضى حياتهُ في طاعةٍ لربّه، ساعيا إلى العملِ في حياته. بيد أنّ ذلك الأمرَ يجعلهُ متقلّبًا بين حاليْنِ بين سعةٍ وضيقٍ، وذاك ما يلزمهُ بوجوبِ الاستقامة حتّى يفلحَ. وقد جرى على ألسنتهم المثل الشعري نظمه المتنبيّ:
وكلّ مكانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طيّبُ14

فقد أحاطَ بتأسيسِ تصّوّرٍ يعتبرُ الانتقالَ صفةً تلازمُ الحياةَ. وقد صدر عن تصوّر ذهني أساسه "العزُّ نَباتٌ"، وهي استعارةٌ تصوّريةٌ تخضعُ إلى خطاطةٍ ذهنية أساسها إسقاطُ سماتِ النباتِ على قيمةِ العزِّ المجرّدةِ. وقد تراءت الاستعارةُ وفق هذا التصوّر المعرفيّ التجريبيّ وسيلة لتصوّر شيء من خلال شيء آخر. فأولى أن ينفقَ الآدميّ حياتهُ يطلبُ العزَّ، ويهجرُ كلّ مكانٍ قبيحٍ. وإنْ ننظُرْ بتأَنٍّ إلى مدوّنةِ الأمثالِ الشعريةِ السائرةِ نُدْركْ بيسْرٍ أنّها أقوالٌ استعاريةٌ في جوهرها صدرتْ عن تمثّلاتٍ ذهنيةٍ لقيمٍ مجرّدة تكشف طبيعةَ فهمٍ مخصوصٍ لتلكم المفاهيم، فقد اتّضحَ لنا أنّ الآدميَّ كما ينفقُ أموالهُ في قضاءِ مآربه؛ فإنّه بذاتِ القدرِ يوظّفُ معطى المالِ وما يحفّ به من متصوّراتٍ حتّى يحقّقَ مقصده التواصليّ، فقد أدركَ على سبيلِ المثالِ حقيقةَ صعوبةِ تحصيلِ المالِ وجمعه على سبيلِ المثالِ، فتمثّل هذه الحقيقةَ، ومن هنا يمكننا القولُ إنّ الأمثالَ الشعريةَ تحمل إلى السّامعِ معانيَ مقامةً أساسا على قيمٍ أخلاقيةٍ وسلوكية فاضلة، فضلا عن كونها حقائق شائعة بين النّاسِ يخرجها الخطيبُ الإخراجَ الذي يزيد صلتها بالمخاطبِ، ويحثّه على التمسّكِ بها أو يجعلها ماثلةً في الأذهانِ محرّكةً للوجدانِ، فيتبناها القارئُ لأنها تبدو له حقائق أبدية أخرجت في لبوسٍ مفارقٍ. وهكذا، فليس المثلُ الشعريّ الذي يدرجهُ الناظمُ في قصيدتهِ عبْئاً يثقل كاهل الخطابِ بل يستوي عنصرًا يسهمُ في بناءِ هويّةِ المتكلّمِ بوصفهِ قد خبر الحياة، فكانت صدى لمكتسبات تجربته أو لتجارب أخرى مشابهةٍ، فيرسمُ ضاربُ الأمثالِ لنفسه صورة القدوة التي يتوجّب التّأسّي بمذهبها في الحياة، وهي مسلك من مسالكِ الحجاجِ الذي يسهمُ في خلقِ القيمِ الناجعةِ أو الفاضلةِ للسلوكِ الاجتماعيّ. ولعلّ حيازتها تشبِعُ في نفسه رغبةً في أن يحييَ وظيفةَ الشاعرِ الحكيمِ، وأن يكونَ ذاتًا مُبينة، تحيا مجازا ببلاغةِ القيمِ والمُثُلِ، فتبني لنفسها صورةً خطابيّةً تُنْحتُ نحْتًا، وتهبها الحَيَاةَ داخلَ نصِّ المثلِ. وتستثمرُ الأمثالُ المتداولةُ القيمَ في بناءِ استعاراتٍ تصوّرية، وتُبْنَى المعاني الأخلاقيةُ ذهنيّا في تفاعلٍ مع معطياتِ الثقافةِ المتّسعةِ، وهي تصوُّراتٌ تُضيفُ إلى جلالِ القيمِ جمالَ الكلمِ مذاقا آخرَ عند سكّها الأمثالَ البليغةَ.

الخاتمة:

آلَ بنَا النظرُ بتأنٍّ إلى حقيقة التنازع بين المنظوم والمنثورِ من الأقوالِ المثليةِ، وقد انتبهنا إلى أمرٍ أساسهُ أنّ هذه الأمثالَ شكّلتْ جنسًا من أجناسِ الكتابةِ التي تقتبسُ من الشعرِ الوزنَ، وتحلّ في تضاعيفِ القصائدِ، فتنتحي من الصدرِ أو العجزِ أو البيت كلّه موضعا. وقادنا النّظرُ إلى دلالاتها، فألفيناها وعاءً قيميّا في غالبها. تميّزتْ بِسماتٍ نوعيةٍ شكلا ومضمونا، فكانت كلاما موزونا موقّعا موجزا مكثّفًا، يتراءى مُثْقَلًا بِصُوَرٍ اِسْتعاريةٍ، ولم تكن إلاّ تعبيرا عن جملةِ التصوّراتِ العرفانية التي نظر من خلالها الآدميُّ إلى ذاتهِ وإلى العالمِ والوجودِ عامةَ من حوله منْ منظورٍ مخصوصٍ أخرجَ كلّ مفهومٍ مجرّدٍ من تجريديته، وخلع عليه لبوسًا حسّيّا حتّى يضحي سَلِسًا مأنوسا يرَاهُ السّامعُ مرأى العينِ.
 


الهوامش: 1- قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص: 77.2- كتاب الصناعتين، أبو هلال العسكريّ، ص:  144.3- نفسه، ص: 144.4- جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، ص: 329.5- زهر الأكم في الأمثال والحكم، الحسن اليوسي، ص: 20.6- ديوان الأدب، ابن إبراهيم الفارابي اللغوي، ج1، ص: 72.7- ابن الشجري، ما لم ينشر من الأمالي الشجرية، مجلة المورد، عدد: 3.8- حسين الواد، المتنبيّ والتجربة الجمالية، ص: 324.9- ابن رشيق، العمدة، ج2، ص: 280.10- زهر الأكم، ص: 31.11- نفسه،ج1، ص: 52.12- نفسه.13- نفسه، ج1، ص: 52.14- ديوان المتنبّي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها