سيريالية الجوهر وجوهر السريالية

سمير رافع.. وتاريخه الفني

عبد السلام فاروق

توفي عام 2004 تاركاً عدداً هائلاً من اللوحات، بمثابة كنز ملأ جنبات وأركان قاعة بيكاسو بالزمالك، التي استضافت مئات اللوحات للفنان التشكيلي سمير رافع.. هو فنان من مواليد 1926، شهدت طفولته عهداً ملكياً مليئاً بالتحديات والمصاعب والرؤى، والأحداث السياسية المضطربة، وكانت فورة الثورة التي تشكلت في أبناء جيل ثورة 52 ما تزال تملأ صدره الصاخب، فأودعها ريشته التي تجلت فيها قدراته ورؤاه.


استهل رافع خطواته الفنية بتأليف كتاب عن تاريخ الفن، وتحدث عن مقابلات مع كبار الفنانين العالميين، مثل سلفادور دالي، وبابلو بيكاسو، وخوان ميرو، وجياكوميتي ودي كيركو، وغيرهم من أبرز فناني القرن العشرين. وتعاطف مع الثورة الجزائرية، وانطلق للجزائر مع وفود الفنانين والأدباء والصحفيين، التي ساندت الرئيس الجزائري أحمد بن بلّة. وانتقل في الخمسينيات لفرنسا، وظل على إخلاصه لقضاياه وعالمه الفني حتى وفاته عام 2004 تاركاً وراءه نحو ألف لوحة، وأكثر من ثلاثة آلاف رسم.
 

خطوات في الطريق الطويل

تخرَّج رافع في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1948 من قسم الزخرفة، وتم ابتعاثه إلى فرنسا للدراسة في الخمسينيات، فنال درجة الدكتوراه في تاريخ الفن من جامعة السوربون. كان سمير رافع يمثل المرحلة التالية لجيل الرواد المعروفين أمثال سعيد وناجى وكامل وعياد، وله لوحات شهدت بواكير انفعالات مرحلة الصبا أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، ثم لوحات فترة النضج والعنفوان الفني خلال الأربعينيات، والتي تميزت بخصوبة إنتاجه لأعمال ذات ملامح سريالية بألوان موحدة وموحية، اختلطت فيها الكائنات داخل كتل لونية، وتموجات خطية متحركة ذات دلالات مقروءة لدى متذوقيها، تلك هي المرحلة الأولى من عتبات الرحلة الفنية للمبدع الطليعي سمير رافع، بينما شملت لوحات المرحلة الثانية أعمالاً أنجزها عام 1948، وتبدو ملامح هذه الأعمال أشد تألقاً رغم انتمائها للمدرسة السريالية، إلا أن ألوانها وخطوطها كانت أكثر قوة واستحواذاً للعيون. أما الأعمال التي جاءت بعد ذلك، خاصة بعد سنة 1949 تجلَّت فيها انفعالاته الوطنية الخاصة بالواقع المصرى قبيل ثورة يوليو، بينما امتلأت لوحات فترة غربته بمشاهداته لباريس، تلك الفتاة الجميلة التي لا تهرم مهما بدت في لوحاته التكعيبية منهكة، وقد فعل فيها الزمن ما فعل.
 

قالوا عنه!

سمير رافع هو أحد أعمدة الفن التشكيلي المصري رغم غيابه عن مصر واغترابه في فرنسا.. إلا أنه ما انفك يرسم ويبدع، ويجوب أنحاء باريس يصادق الفنانين العالميين والمصريين، ويحتك بهم ويكتب الدراسات النقدية عنهم.. فصاحَب جورج حنين ورمسيس يونان، وحسن التلمساني، والتقى ببيكاسو الفنان الأسباني المقيم في باريس. كان "رافع" منغلقاً على نفسه طيلة الوقت.. يرسم ويكتب بعيداً عن فضول الآخرين. ليس له إلا قلة من الأصدقاء والمعارف، ورغم هذا كان دقيقاً للغاية؛ يسجل كل ما يحدث له ولأصدقائة في ملفات خاصة ويوميات يكتبها بدأب وحرص، فلا تفوته شاردة ولا واردة إلا ويسجلها.

كان سمير رافع أحد مؤسسي جماعة الفن والحرية عام 1939، التي أرّخ لها الفنان عز الدين نجيب قائلاً: كان واضحاً من بيانات الجماعة ومقالاتها ومنشوراتها المتعاقبة، أنّ قضية التمرد والثورة التي تكمن في نفوس أعضائها أكبر بكثير من قضية الفن والثقافة المجردة. امتدت ثورتهم على مساحة عريضة من الفن إلى الأخلاق، ومن الفلسفة إلى السياسة، ومن التصدي للبيروقراطية إلى التصدي للدكتاتورية.. وتحدثت مجلة (الفن الحر) التي كان يُشرف عليها جورج حنين عن أفكار تلك الجماعة الطليعية، ومنهم رمسيس يونان، وكامل التلمساني وفؤاد كامل، ومجموعة أخرى من الفنانين بلغوا سبعاً وثلاثين فناناً، وكيف أنهم يشجعون الإبداع المنطلق الحر من أي قيود.

وتحدث عنهم الناقد د. لويس عوض، وكان صديقاً لأكثرهم: "كانوا طوال الوقت يتحدثون الفرنسية، لا الفرنسية البزرميط التي اكتسبها المصريون من الشوام؛ بل فرنسية المثقفين في باريس، فرنسية الكتب. وكانوا يُجيدون الإنجليزية المثقفة. وكانوا يُتقنون العربية ولهم فيها أساليب. ولم أكن أرى شيئاً على المصاطب أو على الأرض أو فى الأركان إلاّ ديوانـاً لرامبو، أو أندريه بريتون أو أراجون، أو رواية أو بحثاً عن حضارة الأنكا والأرتيك والزنوج". إذن؛ كان رافع ينتمي لفئة خاصة جداً من الفنانين الذين شهدوا انتفاضة الفكر السريالي والشعر الرمزي، وأدب الفئات المهمشة والإنسانية التي تبحث عن إنسانيتها المفقودة.
 

سيريالية الجوهر.. وجوهر السيريالية

دخلت السيريالية التشكيلية مصر منذ الثلاثينيات على يد مجموعة الفنانين المتمردين، الذين ارتبطوا في تاريخ الفن المصري باسم الجماعة التي كونوها "الفن والحرية" التي رسمت بريشتها الواقع الشعبي برموزه وأساطيره وطقوسه، وانتمى سمير رافع أيضاً لجماعة الفن المصري المعاصر التي أسسها الفيلسوف حسين يوسف أمين نهاية الأربعينيات، مستقطباً مجموعة من الشباب الموهوبين الذين تبناهم، وعلى رأسهم عبد الهادي الجزار، وحامد ندا وسمير رافع. ولا ريب أن المذهب السيريالى بغوصه في أبعاد اللاوعي الإنساني، واكتشاف دهاليز العقل الباطن الفرويدي عندما تنضح به ريشة المبدع، فهي تنضح بآلام وأحلام وفضاءات وانفعالات بِكر خالصة من شوائب عالم الواقع الفوضوي، تلك رؤية السيريالية في بعدها الإنساني الذي يُردّ المرء لفطرته الأولى، ويرد الانفعالات لجوهرها النقي.

يُعد سمير رافع من أوائل النخبة الطليعية التي لونت الواقع التشكيلي المصري في الجيل الثاني للرواد بألوان ثورية متفردة، وتعتبر أعماله من كلاسيكيات الفن المصري الحديث، ولوحاته التي أبدعها في مصر وفرنسا هي قطع من التاريخ، شاهدة على أحداث وأفكار وتجارب وخبرات فنان رأى بعين السياسة مرة، وبعين الجمال مرات.

وبرغم تدهور حال الفن التشكيلي في بلاد العرب، ما جعل المعارض تغص بلوحات مختلطة لعدد من الفنانين، فلا يكاد رواد المعرض يتذكرون مبدعي تلك اللوحات وأسماءهم. بينما ارتقى اسم سمير رافع في معرض مكتمل ضم روائع لوحاته التي خطفت الأبصار، وأعادت مشاهديها لأزمان من الفن الثائر الراقي الرافض لكل ما هو جامد وتقليدي.


فنان جاد به الزمان

الفنان سمير رافع نابغة من نوابغ الجيل التشكيلي الثاني الرائد في مصر والعالم العربي، وقد حظي بشهرة عالمية في باريس التي عاش بها نحو نصف قرن، وتعرف خلالها على عدد كبير من الفنانين العالميين، على رأسهم رائد الفن التشكيلي السريالي الإسباني بابلو بيكاسو.

وقبل وفاته قضى رافع سنوات مهمة من حياته في إبداع ساهم في إنضاجه العلم والحلم، والاغتراب حتى بات واحداً من أبرز الفنانين في العالم، بعد أن بدأ في عرض إبداعاته في الثلاثينيات من القرن الماضي، واستطاع أن يحصل وقتذاك على جائزة صالون القاهرة عن لوحته "القواقع"... ولفت أنظار النقاد والفنانين له كفنان شاب يبغي تحقيق طموحات واسعة في الحركة التشكيلية المصرية.

هكذا لجأ رافع في إبداعه ولوحاته التشكيلية إلى التركيز على الجوهر بدلاً من التجاوب مع قشور الظاهر وقناع الزيف الذي يكسو الواقع، متخذاً طريق الحلم واللاوعي الإنساني منبعاً يستقي منه رؤاه الإبداعية؛ ليدخل بذلك تاريخ الحركة المصرية التشكيلية كأحد أوائل الفنانين الرمزيين، بعد أن أظهرت أعماله تأثره بالتكعيبية والتأثيرية والسريالية، والرمزية والتجريدية، في مزيج لوني وفكري يعكس فلسفته في الحياة ونظرته للفن.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها