التعدد اللغوي.. حاجة اجتماعية أم ترف فكري؟

عماد الفزازي

يقسم الباحثون مفهوم التعدد اللغوي إلى نوعين: التعدد على المستوى الفردي، والتعدد على المستوى الجماعي. أما النوع الأول؛ فيلاحظ أنه لا يطرح إشكالاً كبيراً؛ ذلك أن الفرد كلما كان متعدد اللغات كانت حظوظ الارتقاء بوضعه الاجتماعي أوفر. أما الثاني فتختلف المواقف بصدده؛ بين رافض له، ومطالب به.

وتتباين الآراء في موضوع التعددية اللغوية، بين من يعتبرها ظاهرة سوسيولسانية إيجابية، وتجلّ من تجليات الديمقراطية، بما تتيحه للأقليات اللغوية والإثنية من إمكانات استعمال لغاتها وصيانتها وحفظها من الانقراض، وتعزيز الشعور بالانتماء للوطن المحتضن لهوية متعددة الروافد، وبين من يرى في الدعوة إلى ترسيم التعددية اللغوية دعوة إلى التشرذم والانقسام، ونشوب الصراعات بين الجماعات اللغوية المختلفة داخل المجتمع.

ومن أصحاب الرأي الرافض للتعددية اللغوية على المستوى الرسمي، يقترح الباحث اللساني محمد الأوراغي نموذجاً يسميه بـ''التفرد اللغوي المتفتح''، والذي يتشكل محتواه من العربية بصفتها لغة وطنية؛ وهي التي تكون مؤهلة، دون سواها من اللهجات المحلية واللغات القبَلية، لأداء الوظائف الاجتماعية الخمس؛ الوظيفة التعبدية، ووظيفة التثقيف الوطني، ووظيفة الانسجام الاجتماعي، ووظيفة الاندماج النطاقي، ووظيفة التواصل الدولي. وثانياً لغات أجنبية عالمة، تعلمها فرض كفاية".

ونجد مثل هذا الرأي يتردد عند الباحث عبد العلي الودغيري، الذي يرى أنه لا خلاف في أن التعدد الذي يكون على مستوى الأفراد هو الأكثر جدوى ومنفعة والأقل ضرراً من غيره، فالفرد كلما زاد عدد اللغات التي يتقنها، زاد نفعه ونمت معرفته، واتسعت آفاقه، وهو نوع اختياري غير ملزم. أما التعدد على مستوى المؤسسة، فإنه يرفضه. إن الدولة ينبغي، في نظره، أن تقرر لغة مشتركة لا يمكن لأي شخص التواصل مع غيره من أبناء مجتمعه بدونها؛ فالناس، في تقديره، مهما عدّدوا وأكثروا من اكتساب اللغات، لا بد لهم من هذه الأداة اللغوية المشتركة. وينتهي إلى أن في هذا الوضع لا يكون التعدد متناقضاً أو متنافياً مع وجود لغة جامعة موحّدة. ويؤكد على أن هذا هو المفهوم السليم للعبارة التي أصبحت متداولة: التنوع داخل الوحدة.

وينبه الودغيري إلى أن التعدد، حتى على المستوى الفردي، فإنه لا يجدي نفعاً؛ بدليل أن ''الغالب في الشخص الذي يستعمل عدداً من الألسنة أنه قد لا يتقن أيّ واحد منها إتقاناً جيداً متعمقاً''. مما يجعلنا، بحسب رأيه، في التعليم المعاصر القائم على الثنائية والتعددية أمام وضع يتخرج فيه التلميذ من المؤسسة التعليمية الثانوية أو الجامعية، وهو لا يتقن لغته الوطنية، ولا أية لغة أخرى إتقاناً جيداً.

وفي المقابل يحاجج أنصار الدعوة إلى التعددية اللغوية بوصفها واقعاً قائماً ينبغي ترسيمه، بما ذهب إليه الباحث محمد المدلاوي؛ إذ يشير إلى أن ''مبدأ التعددية، باعتباره واقعاً قائماً تم اليوم استيعابه في الوعي الجمعي على مستويات السياسة والفكر والثقافة، ويتعين تكريسه وحمايته بالنص المرجعي الأعلى كواقع وكمقصد من المقاصد في ذات الوقت؛ مع التنصيص ضمن تلك المقاصد على العمل على ترقية وتأهيل اللغتين الوطنيتين (العربية والأمازيغية) لاحتلال المواقع اللائقة بكل منهما، باعتبارها لغة وطنية، وعمقاً ثقافياً حضارياً تاريخياً، وأداة من أدوات تدعيم الشخصية المغربية''.

ويرى الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري أن النموذجين السابقين معاً، قد أثبتا قصورهما عن تدبير التعدد اللغوي تدبيراً ناجعاً؛ سواء الرأي القائل بتعددية غير معقلنة، تُعلي من شأن اللغات الأجنبية وتمكن لها على حساب اللغات الوطنية، والتي ينتج عنها ما يشبه ''الفوضى اللغوية''، أو الرأي الداعي إلى أحادية لغوية منغلقة، والمتمثل في نموذج التعريب الشامل الذي دعت إليه الحركة الوطنية، والذي يهدف إلى أن تصبح اللغة العربية لغة التعليم شبه الوحيدة في مختلف المراحل، من دون أن تعطي أهمية كبيرة للتعلم باللغات الأجنبية المتقدمة، أو للتنوع الهوّي المعقول.

ويقترح الفاسي بدلاً من ذلك، ما يسميه بـ''النموذج اللغوي ثلاثي الأبعاد''، والذي يتكامل فيه التماسك والتنوع والتعدد، بحيث يعطي أهمية كبيرة للغة العربية في التعليم، وتصبح لغة التعليم الشاملة، في التعليم الأساسي الإجباري، وفي التعليم التأهيلي والعالي، تتركّبُ في مجزوءات أو مكونات (Modules)، متفاعلة مع لغتين أجنبيتين داعمتين في التعليم التأهيلي والعالي، بحسب اختيارات الطالب وقدراته، وبحسب التخصص الذي يلجه. ويتيح هذا النموذج -حسب الفاسي- دوراً مهماً للغة (أو لغات) الهوية غير العربية؛ حيث يمكن اقتراح مجزوءات لغوية ذات هوية مركبة، عربية وأمازيغية مثلاً، تهدف إلى الحفاظ على هوية الأقلية وهوية الأغلبية في الوقت نفسه. ويشير إلى أن من مزايا هذا النموذج الثلاثي يحرص على التماسك والوحدة، وفي الوقت نفسه يسمح بهامش من التفرد المعقول والمشروع في إطار تعددي تنوعي وطني. وهو يقرّ بأهمية لغة الهوية، اللغة العربية، في التعليم والتربية، لكنه يقبل أن يترك دوراً مهماً ومقبولاً للغات الأجنبية في مجالات الاختصاص والتقانة، تأكيداً للاندماج في الكونية، من دون أن تغيّب اللغة العربية عن هذه المجالات، أو تقصى منها. ويطبع هذا النموذج الذي اقترحه الفاسي، في نظره، صفات التراكمية والإغنائية والتماسكية والتضامنية.

ولقد عرفت مسألة التعددية اللغوية نقاشات واسعة، بين الداعم لها، والرافض لها، ولكلا الفريقين حججه وبراهينه، ومن تلك الحجج التي تقدم للدفاع عن، أو الاعتراض على، التعددية اللغوية المفتوحة على اللغات كلها، نسُوق ما يلي:
- الحجة الأخلاقية: يتداولها المحامون ومنظّرو السياسة واللسانيون المجتمعيون، فإذا ما عورضت التعددية على أساس أنها لا تستحق أن تكون هدفاً مجتمعياً أو سياسة مجدية، فإن الحجة الأخلاقية، المبنية على حقوق الإنسان قد تُثني عن ذلك.
- الحجة الجدوى: حتى لو اعتبرت التعددية صحيحة أخلاقياً، وتبناها الخطاب السياسي والقانوني، فقد تُرفض باعتبار الجدوى، وقوانين الدينامية اللغوية التي تجعل المجهودات من أجل المحافظة على التنوع اللغوي غير فاعلة، باعتبار أن مآل بعض اللغات الموت على كل حال.
- حجة إتلاف موارد نادرة: ومفادها أن رصد موارد نادرة لدعم التنوع اللغوي هو بمنزلة إنفاق في غير محله، أولى أن يتجه إلى الصحة أو التعليم أو النقل، بمعنى أن الاعتراض يسائل نجاعة الرصد.
- التوزيع العادل: ويتعلق بمدى اقتسام عبء المصاريف التي يتطلبها دعم التنوع اللغوي بصفة عادلة. وقد يرفض التعدد لأنه يؤدي إلى إعادة توزيع لا مبرر له.

وخلاصة القول إن التعددية اللغوية، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، لم تعد خياراً شخصياً أو ضرباً من الترف الفكري، بل أصبحت حاجة ملحة، وسمة مميزة لعالم اليوم. لاسيما بعد الهيمنة الواسعة لوسائل التواصل الاجتماعي، والتطور التقني الهائل؛ بحيث صار العالم قرية صغيرة، تنتفي فيها الفوارق بين الناس، وتنسجم فيها اللغات والألسن. ومن ثمّ، تغدو أيّ دعوة معارضة للتعددية اللغوية دعوة للتقوقع والتأخر عن ركب الحضارة المتسارع. كما أن قيم الأخوة الإنسانية؛ من تسامح وتعايش وتضامن وتنوع ثقافي، تقتضي بالضرورة فسح المجال أمام جميع الناس للتعبير عن أفكارهم، ومعتقداتهم، وهوياتهم بلغاتهم الأمّ. وعلاوة على كل ما سبق، إن التعددية معطى واقعي، وسمة في الطبيعة القائمة، منذ الأزل، على تنوع الألوان واختلاف الأصوات.. وهو الأمر الذي يضفي على الحياة معنىً وجمالاً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها