رقمنة النصوص المخطوطة.. بين الدوافع والإكراهات

رفقة أومزدي


إنّ عملية الرقمنة جزء لا يتجرأ من ثقافة مجتمعاتنا المعاصرة؛ إذ بدأت تتسرب إلى مختلف مناحي الحياة، فلا نكاد نجد حيزاً من حياتنا المعاصرة إلا وقد وصلت إليه، وطبعته بطابعها، وشكّلته وفق خصوصيتها، بل إنّ هذه الرقمنة قد امتدت أيضاً إلى النتاج الإنساني السابق لعصرنا، فعمدت إلى تغيير صورته النموذجية الأساسية، وأعطته صيغة رقمية جديدة. ونتيجة لعملية الرقمنة هذه أضحى لدينا صيغتان للنتاج التراثي السابق لعصرنا، صيغة نموذجية تراثية، محفوظة ورقياً، وصيغة جديدة رقمية، سهلة التداول، ومنتشرة بين مختلف المهتمين بها، فالرقمنة لا تلغي الصورة الأولية، بل تحافظ عليها، وتخفف حجم الضرر الذي قد تتعرض له نتيجة للعملية التداولية المستمرة لها.
 


وعملية رقمنة التراث الإنساني ليست عملية اعتباطية غير منظمة، بل هي عملية مخطط لها، وتمتلك استراتيجيات وأدوات خاصة لإظهار النتاج الخاضع للرقمنة وفق صيغة رقمية نموذجية، وقد كانت عملية الرقمنة وما زالت محط اهتمام، فعُمل على فهم خطواتها ونقد آلياتها، وتقديم نسق من الرؤى الجديدة لتطويرها وجعلها أقرب ما يكون إلى صفة الكمال.

أولاً: في مفهوم رقمنة المخطوطات

"إنّ الرقمنة هي عملية أخذ عنصر مادي، مثل: الكتاب، أو المخطوط، أو الصورة، وعمل نسخة رقمية له1؛ أو بمعنى آخر هي عملية "تحويل المحتوى الفكري المتاح على وسيط فيزيائي تقليدي، مثل: المقالات، والدوريات، والكتب، والمخطوطات، والخرائط إلى شكل رقمي"2. وبالتالي فإنّ رقمنة المخطوطات هي آلية منهجية لنقل النص المخطوط من صيغته الأولية، الخام، الموضوعة من الناسخ، والتي هي، في الغالب، صيغة مادية فيزيائية إلى صيغة حداثية رقمية.

ثانياً: في دوافع رقمنة المخطوطات

لكلّ فعل إنساني منهجي دوافع خاصة تكمن خلفه وتوجهه، ورقمنة المخطوطات من أبرز الأفعال الإنسانية ذات البعد القيمي المنهجي، لذلك لا بدّ أن نعي أبرز الدوافع الكامنة خلفها:

حماية المخطوط:
إنّ المخطوط عنصر تراثي، أثري؛ إذْ ينتمي إلى التراث الإنساني المادي، الذي لا يمكن تعويضه في حال فقدانه، لذلك وجب الحفاظ على المخطوط وحمايته من التلف الذي قد يتعرض له في حال سوء الاستخدام، وذلك من خلال تحويله إلى صيغة رقمية في متناول جميع المهتمين به، "فبتوافر النسخ الرقمية يقل الطلب على النسخ الأصلية للمخطوط، الأمر الذي يجنبها التمزيق أو التلف بسبب تكرار تداولها، كما يوفر لها حماية من التعرض لاختلاف العوامل الطبيعية المصاحبة لنقلها من أماكن حفظها إلى أماكن الاطلاع عليها وقراءتها، بما في ذلك التعرض للغبار، والأتربة، والحرارة، والرطوبة، إضافة إلى ذلك فهو يوفر نسخاً إضافية من المخطوط بديلة عن نسخه الأصلية في حال تعرضها للتلف أو الضياع"3.

تداول المخطوط ونقله إلى الفضاء العمومي:
إنّ المخطوط عنصر محجوب عموماً، ذو تداول ضئيل، وذلك بسبب قيمته التاريخية التراثية التي لا تُعوض، لذلك فإنّ رقمنته ونقله إلى الفضاء العمومي يشكل قيمة تداولية مهمة له؛ إذ يغدو في محط تناول عدد كبير من المتلقين، فيكتشفون جمالياته وآلياته الخاصة في نقل المعرفة.

إذ لا يمكن استمرار حجب هذا الإرث الإنساني وتغييبه عن أعين المتلقين، بسبب الخوف من إمكانية تعرضه لتلف، فكان لا بُدّ من الرقمنة، المُشكِّلة بديلا حداثياً للنص المخطوط، يحفظ سيميائيته وجماليته ويقدمها بصورة حداثية رقمية.

استمرارية القيمة المعرفية الإنسانية:
إنّ الأخطار المحدقة بالبشرية كثيرة، وتأتي أحياناً بصورة مفاجئة، غير متوقعة، وهذه الأخطار لا تدمر الإنسان فحسب، بل تدمر أيضاً منتوجاته التي أفرزها على امتداد تاريخه؛ لذلك وجب التفكير في الحفاظ على هذه المنتوجات ورقمنتها ونشرها في أماكن مختلفة، فهذا التوزع الرقمي يمكن أن يحفظ المعرفي وفق صيغة ما إذا ما حلت كارثة، وبالتالي يحمي التراكم المعرفي الإنساني القادر على إعادة بناء الحضارة الإنسانية إذا ما تعرضت لكارثة كبرى، "فحتى لو قدر لنا أن نفقد ما توفر من معارف وخبرات شخصية فإنّه يمكن لحضارتنا أن تظل محتفظة بمقوماتها إذا أمكننا الحفاظ على المكتبات والمخطوطات"4.
 

ثالثاً: منهجية رقمنة المخطوطات

إنّ المنهج، عموماً، هو طريقة العمل المُتبعة لضبط نتاج ما ضبطاً علمياً، وفق آليات منهجية خاصة، تؤدي إلى نتائج مثمرة. ولرقمنة المخطوطات منهج محدد، قائم على آلية خاصة بالعمل، نابعة من أهداف محددة، وموصلة إلى نتائج عدة، وهذا الآلية المنهجية قائمة على التالي:

1. وضع خطة للرقمنة:
قبل البدء بتنفيذ عملية الرقمنة لا بُدّ من وضع خطة متكاملة لهذه العميلة، ويجب أن تهتم هذه الخطة بعدة عناصر: حدود عملية الرقمنة، والسياق المكاني الذي ستجري فيه الرقمنة، والطاقم الذي سيقوم بهذه العملية، والأدوات المستخدمة في الرقمنة، والميزانية والخطة الزمنية.

أ- حدود عملية الرقمنة:
لكلّ عملية منهجية حدود خاصة، وعملية رقمنة المخطوطات لا بدّ لها من حدود مادية، فالمخطوطات المنتشرة في أنحاء العالم هائلة، لذلك لا بُدّ من تحديد المخطوطات التي ستُرقمن، وعملية التحديد ستركز على: القيمة التاريخية للمخطوط، والبعد الجمالي والمعرفي للمخطوط، وقلة نسخه، وندرة تداوله.

كما لا بدّ أيضاً من تحديد عدد المخطوطات التي ستُرقمن، ومعرفة قدرة الميزانية المحددة على تغطية تكاليف رقمنتها، إذْ لا نفع من رقمنة عدد كبير من المخطوطات بطريقة غير متقنة، بل لا بدّ من تحديد عدد مقبول متوافق مع الإمكانيات، ورقمنته بصورة احترافية.

ب- السياق المكاني للرقمنة:
إنّ عملية الرقمنة لا بدّ لها أن تجري في مكان محدد، له شروط خاصة، ومن أبرز هذه الشروط أن يكون المكان آمناً؛ أي أنّ احتمال تعرضه للكوارث الطبيعية والبشرية قليل، ولا بُدّ له من أن يكون مكاناً نموذجياً، صحياً، خالياً من الرطوبة والحرارة الشديدة، وذلك لأن المخطوط عنصر حساس، يمكن أن يتعرض لتلف أثناء عملية الرقمنة، إن كانت لا تجري في مكان أقرب إلى المثالية. إذْ لا بد من أن نعامل المخطوط أثناء رقمنته معاملة العنصر الأثري، فنوفر له بيئية مكانية نموذجية.

ج- الطاقم الذي سيقوم بعملية الرقمنة:
لا بدّ من توفير كادر عمل نموذجي مختص للقيام بهذه العملية، وهذا الطاقم من المحبذ أن يكون فيه علماء في الترميم، ومختصون في التعامل مع أجهزة الرقمنة.

د- الأدوات المستخدمة في الرقمنة:
لرقمنة المخطوطات لا بدّ من إيجاد أدوات مناسبة تكفل تحقق هذه العملية، ويمكننا أن نجمل هذه الأدوات بما يلي:
◅ جهاز الماسح الضوئي:
وهو جهاز يقوم بتحويل أي شكل من أشكال البيانات المتوفرة في الوثيقة التي يقوم بمسحها من خلال نقاط الضوء المنبعثة منه، تمهيداً لمعالجتها عن طريق الحاسوب من خلال برنامج التعرف الضوئي على الحروف، ومن ثم تحويلها إلى إشارات رقمية.

◅ الكميرات الرقمية:
 وهي التي تلتقط الصورة الرقمية دون استخدام الفيلم، ويمكن تحميل الصور وتخزينها على جهاز الكومبيوتر.

◅ أجهزة الكومبيوتر ولواحقه:
يجب أن تحتوي أجهزة الكمبيوتر على المواصفات المطلوبة لعملية الرقمنة، مثل: المعالج الكبير، ومساحة التخزين العالية بالإضافة إلى اللواحق، مثل: الطابعة الملونة وغير الملونة والأقراص.

◅ برامج التقاط الصور:
والتي تتاح غالباً مع جهاز الماسح الضوئي، وهناك عدد من أجهزة الهاتف المحمول ذات القدرة التصويرية الممتازة، مثل الآيفون.

◅ برامج تحرير الصور:
 والتي تقوم بتحرير الصور الملتقطة وتحسينها لتظهر وفق أفضل صورة نموذجية ممكنة.

◅ برنامج التعرف الضوئي على الحروف:
وهو يحول صور الصفحات إلى نصوص كاملة، ومن ثم يحلل صورة النص للضوء والأماكن المعتمة من أجل تحديد كلّ حرف أبجدي، ولهذا الجهاز عدة أنواع، مثل: اليدوي والمسطح والعلوي"5.

هـ ـ الميزانية والخطة الزمنية:
إنّ من أهم عناصر نجاح خطة الرقمنة وضع ميزانية مدروسة، تنسجم مع عدد المخطوطات التي ينبغي رقمنتها، وإن كانت هذه الميزانية أقل من اللازم فإن عملية الرقمنة ستتأثر، ولن تظهر وفق الصورة النموذجية المطلوبة. وإن كانت أكثر من المطلوب فإن هذا سيؤدي إلى الإسراف.

أضف إلى ذلك؛ أنّه لا بد من وضع خطة زمنية مدروسة لإنهاء مشروع الرقمنة، فمن غير الممكن ترك الإطار الزمني مفتوحاً، ونحن نتعامل مع عناصر تراثية أثرية حساسة.

2.  مرحلة صيانة المخطوط:
إنّ المخطوطات لا تكون، غالباً، وفق حالة نموذجية مثالية؛ إذ قد تكون متعرضة لتلف ما، أو تمزيق، أو فقدان لبعض أجزائها، وهنا لا بُدّ لنا قبل البدء بعملية الرقمنة صيانة هذه المخطوطات التالفة، وإظهارها بمظهر أقل تلفاً، وتجدر الإشارة إلى أن عملية الترميم هي في الغالب عملية يدوية، وتأخد فترة زمنية لا بأس بها، وهي أقرب إلى وظيفة عالم ترميم الآثار.

 وبهذه الخطوة لا نكون قد قرّبنا المخطوط من عملية الرقمنة بل نكون أيضاً قد قربنا النص المخطوط من الصيغة النموذجية التي ينبغي أن يكون عليها.

3.  تنفيذ عملية الرقمنة:
في هذه المرحلة يكون السياق العام لتنفيذ الرقمنة جاهزاً، من المكان والأدوات، وصيانة المخطوطات. ويمكن أن تتم الرقمنة وفق آليتين: الرقمنة النصية، ورقمنة الصورة؛ ففي الرقمنة النصية يُنقل نص المخطوطة لغوياً دون حفظ البنية الشكلية للمخطوط وفق صيغة رقمية، أما في رقمنة الصورة، فيُرقمن المخطوط كما هو محتفظاً بسياقاته الشكلية الخاصة.

وتجدر الإشارة إلى أن المخطوط العربي له صيغة شكلية متفردة لذلك من المحبذ رقمنته وفق آلية الصورة الرقمية للحفاظ قدر الإمكان على بنيته السيميائية.

4. معالجة المخطوطات المرقمنة:
تأتي هذه المرحلة بعد الانتهاء من مرحلة الرقمنة، وتقوم في أساسها على تحسين صيغة المخطوط المرقمن، وإظهاره بهيئة أكثر دقة ووضوحاً باستخدام وسائط وبرامج خاصة.

5. مراقبة عملية الرقمنة:
لهذه العملية موظف خاص مهمته مراقبة جودة عملية الرقمنة، ومقارنة المخطوط المرقمن مع النسخة الأم التي تعرضت للرقمنة.

6. التنظيم والإتاحة:
بعد الانتهاء من العمليات السابقة لا بدّ من فهرست هذه المخطوطات وضبطها، وإتاحتها عبر وسائط رقمية، مثل الإنترنيت والأقراص المضغوطة لتصبح في متناول جميع المهتمين بها.

7. التقييم:
هذه المرحلة هي المرحلة النهائية من مشروع الرقمنة؛ إذ لا بدّ من بيان الصعوبات التي واجهت المشروع، وكيفية التغلب عليها، ونتائجه، وأخطائه، وهدف هذا التقييم وضع خلاصة تجربة المشروع في متناول المؤسسات الأخرى التي ستقوم بعمليات رقمنة مشابهة أو مماثلة.

وتجدر الإشارة إلى أن عملية الرقمنة عملية دقيقة وصعبة، ولا يمكن أن يقوم بها إلا جهاز مؤسساتي يمتلك الأدوات والإمكانيات والميزانية المناسبة لتنفيذها، وبالتالي من واجب الجمعيات والمؤسسات المهتمة بتراثنا المخطوط الضغط المدروس على مؤسسات الدولة للقيام بعمليات رقمنة مستمرة.
 

رابعاً: الصعوبات التي تواجه عملية الرقمنة

تتلخص هذه الصعوبات في الآتي:

ـ عدم تحديد موارد مالية كافية لعملية الرقمنة، وهذا نابع من الجهل بأهمية المخطوط التراثي وقيمته.

- وجود بعض المخطوطات النادرة التي يمتلكها أشخاص محددون يصعب الوصول إليهم، وإقناعهم بضرورة استعارة المخطوط لرقمنته.

- توزع المخطوطات العربية في مختلف أنحاء العالم الأمر الذي يُعثّر نقلها لمكان الترقيم.

- تلف بعض المخطوطات تلفاً كبيراً مما يصعب عملية ترميمها وترقيمها بعد ذلك.

خامساً: نتائج الرقمنة

- ضرورة إتاحة التراث الإنساني المخطوط، المحجوب عن التداول للشريحة العمومية من خلال عملية رقمنة مدروسة.

- التأكيد على دور المؤسسات المنظمة، والجمعيات الضاغطة عليها في عملية الرقمنة.

- توضيح دور رقمنة المخطوطات في الإحياء الفيزيائي للمخطوط المرقمن، فهي ليست عملية رقمنة فحسب، بل هي أيضاً عملية صيانة فاعلة.

- إن عملية الرقمنة الأمثل لتراثنا المخطوط هي رقمنة الصورة؛ إذ لها القدرة على حفظه.

 وعليه؛ فما من شك أن عملية الرقمنة هي عملية مفيدة أيضاً لكل من محقق المخطوطات والكوديكولوجي؛ إذ يصبح النتاج المخطوط متاحاً بسهولة للمحقق الراغب بتحقيقه؛ أضف إلى ذلك أنها مهمة للكوديكولوجي الذي تقدم له الرقمنة؛ المخطوط بصيغة جمالية نموذجية.

 


الهوامش: 1- جيتشاود دوري وآخرون، مقدمة أمانة المكتبات، مجموعة النيل العربية، القاهرة، 2009، ص: 142.2- أحمد، أحمد فرج، دراسات في تحليل وتصميم مصادر المعلومات الرقمية، مكتبة الملك فهد، الرياض، 2009، ص: 23.3- منال القيسي، ورقة عمل مقدمة لندوة المخطوطات في الوطن العربي (الواقع والتحديات والآفاق). سلطنة عمان، 2010، ص: 3-5.4- قاسم عاطف السيد، حفظ المعرفة في العالم الرقمي، دار الثقافة العلمية، مصر، 2007، ص: 17.5- أبا الحبيب حمزة، إشكاليات رقمنة المخطوطات في الجزائر، رسالة ماجستير في جامعة وهران، الجزائر، 2015، ص: 51-52.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها