يسلم جسدَه المنهك إلى الفراش؛ كيْ ينعمَ بقسطٍ من الرَّاحة بعد يومٍ شاقّ طويلٍ. تقتحم الغرفة بوجهٍ عابسٍ، تتقيَّأ المنغّصاتِ جملةً واحدةً، تُحْكِمُ شدَّ الخناق حول رقبته. يصرخ بضيقٍ في وجهِها: ماذا عساي أنْ أفعلَ؟! أأسلمُه إلى الموتِ بيدي؟! تصرخ بتحدٍ: إذنْ، لا فائدةَ من الكلام، عليكَ أنْ تختار. تزفر بحرقةٍ، وتشيح بوجهِها عنْه، وتغادر الغرفة غاضبةً. يفرُّ النَّوم من عينيه، يغادر فراشه، يوقظ جَمَلَه الَّذي أناخَه منذُ قليلٍ في مربدِ روحه بعدَ أنْ مَنَّاه بقسطٍ من الرَّاحةِ الكاذبةِ، يرمقه الجَمَلُ باشمئزازٍ. يطرح أحماله على السّنام، يوغلان سويًّا في دربهما المعتاد؛ تتصل رحلةُ النَّهارِ المضنية برحلةِ اللَّيل والأرق.
(1)
يخرج من منزله عقب شجاره مع زوجته، يجتاز الطَّريق المظلم الفاصل بين قريته والحقول. نسيم الثَّانية صباحاً رقيقٌ يضرب وجهَه الغارق في الوجومِ. يسند ظهره إلى جذع إحدى الأشجار، تموج الخواطر في ذهنه، لمْ يكدْ يتنفَّسُ الصُّعداء بعد نجاحه في الوفاءِ بآخرِ أقساط تجهيزِ أخواتِه البناتِ للزواجِ خلال الأعوام الخمسة الماضية، حتَّى تدهورتْ صحة والده؛ فخاصمته المسرات، ولم تمنحه الأيَّام وقتاً لالتقاط الأنفاس. وجد نفسه مضطراً إلى الرَّكض في متاهةٍ جديدةٍ. حاول أن يوازن بين كفتي الميزانِ، لكنَّ محاولاتِه باءتْ بالفشل؛ فهو مجرد صاحب صنعةٍ، يأتيه رزقُه كفافاً مثل زخات المطر المفاجئة، الَّتي سرعان ما تنقطع. فكيف له أنْ يقيم الوزن بالقسطِ بينَ نفقاتِ علاجِ أبيه الباهظة، ونفقات زوجتِه الَّتي لا تقنع، ونفقات أولاده الَّتي لا تنتهي؟! سنواتٌ خمسٌ من الرَّكض بين ردهات المستشفياتِ ومراكز التَّحاليل وعيادات الأطباء كانتْ كافيةً لالتهام كلّ ما يصل إلى يديه من مالٍ أولًا بأول. ولمَّا أعجزته الحاجة، طرق جميع الأبواب؛ طلباً للاقتراضِ؛ فأُوصِدَتْ جميعُها في وجهِه. ولمَّا ضاق عليه الخناق، أدمن عادة الانسحاب من الفراش، واستغلال نوم زوجته الثَّقيل، والصُّعود إلى سطح منزله القديم، وإطالة النَّظر إلى السَّماء، والبكاء بحرقةٍ دون أن يشعر به أحدٌ. يسمع، فجأةً أنَّات جمله، فينتبه من شروده، يرمق النُّجوم البعيدة، يمدُّ يديه نحوها، يقبض على حفنة من الهواءِ، يمدّد جسده المنهك على العشب، يغمض عينيه، ويغلبه نومٌ خاصم أجفانه منذ يومين، ولا يوقظه سوى ندى الصُّبح، الذي تساقط على وجهه من أغصان الشَّجرة، ينهض من مكانه متثاقلًا، ويقطع الطَّريق عائداً إلى بيته شارد الذّهن. يدخل غرفةَ أبيه، يراه مستغرقاً في نومِه؛ فلا يرغب في إيقاظه، وبينما هو يرتدُّ على أطراف أصابعه، يتفاجأ بأصغر أبنائه يبكي بكاءً حارًّا، يخبره الصَّغير بأنَّ أمَّه قد جمعتْ ملابسها، وغادرتْ المنزل إلى بيت أبيها منذ الصَّباح الباكر، ويخبره أيضاً بأنّه بكى طويلًا، وتوسَّل إليها، لكنَّها أصرَّت على الرَّحيل. يستمع إلى صغيره بإنصاتٍ، لكنَّه يلوذ بالصَّمت. يدخل غرفة نومه، يحدَّق ملياً إلى صورة زفافه المعلَّقة علَى الجدار؛ يشعر بمرارة الخذلان. يلتفت إلى أولادِه الثَّلاثة، الَّذين تسمّروا أمام باب الغرفة، يتقدَّم نحوهم، يطوَّقهم بذراعيه، يمسحُ بكفّه دموعهم المنهمرة.
(2)
يهمس الطَّبيبُ في أذنه بأنَّ (الغرغرينا) سرتْ في ساقِ أبيه الأخرى، وأنَّه لا بدَّ من بترٍ جديدٍ؛ يزلزله الخبر، يزيح السّتار بيد مرتعشة؛ يستقبله أبوه الممدَّد فوق سريرِ الفحص بنظرات قلقة مشبَّعة بعلامات الاستفهام؛ لكنَّه يتصنَّع الابتسام، ويحمل أباه برفقٍ، ويجلسه على كرسيه المتحرّك؛ فيسلمهم المصعد إلى مدخل العمارة الشَّاهقة، يدفع الكرسيّ بصمتٍ وشرودٍ إلى الشَّارع الصَّاخب، حيث يستقلان إحدى سيارات الأجرة إلى مركزِ الجراحةِ، وهناك ينهى إجراءات التَّسكينِ؛ فيخبره موظفُ الاستقبال بأنَّ عملية البترِ ستجرى في صباح الغدّ، ويطالبه بدفع نصف تكاليف الجراحة على الفورِ. يترجَّى الموظف أن يمهله بضع ساعاتٍ؛ حتَّى يدبر المبلغ المطلوب، وبعد نقاشٍ طويلٍ يوافق الموظف على مضضٍ.
(3)
يغادر مركز الجراحة بخطواتٍ طائشةٍ. يشعر بأنَّ الأحمال المطروحة فوق ظهره أشدُّ ثقلًا هذه المرَّة من أيّ وقتٍ مضى. يصغي إلى أنَّات جمله خائر القوى، يرمق اللافتات ووجوه العابرين بعينين غائمتين، يعبر الشَّارع مذهولًا، ولا ينتبه إلى سباب السَّائقِ الذي داس مكابح سيارته، فجأةً متفادياً دهسه. يقف حائراً على الرصيف المقابل، ولا يدري إلى أين يذهب، وماذا يفعل، وكيف يدبر المال المطلوب. يمحصُ فِكَرَه المُشَوَّش؛ فتطرأ على ذهنِه فكرةُ بيع أثاثِ منزلِه، ولكن سرعان ما تمثل زوجته أمامه؛ فيتذكَّر عاقبة تبديد المنقولات، ويحدّث نفسه قائلًا: ماذا لو لجأت إلى القضاء، ماذا لو زُجَّ بي في السّجن؟! حتمًا سيموتُ أولادي جوعاً، وسيموتُ أبي مغموماً. يقلّب حجر النَّرد على جميع وجوهه؛ فيطرد الفكرة من رأسه، ويعود يستجدي فِكَرًا أخرى؛ يتذكَّر ورشته، الَّتي لا يملك سواها؛ فيهزُّ رأسه بأسًى ومرارةٍ، ويمضي في طريقه.
(4)
بعد لَيٍّ ومساومة لم يشأ صاحب البيت، الذي تقع الورشة في طابقه الأرضيّ أن يفوّت الفرصة، ويصرُّ على بخس الورشة إلى نصف الثَّمن بعد علمه بضائقة البائع الجالس أمامه بلا حولٍ أو طولٍ. يلقي صاحب البيت على الطَّاولة مبلغًا كمقدم شراءٍ. يرمق البائع المُكْرَه المال بحسرةٍ؛ لكنّه لا يملك إلا إتمام البيع، وتوقيع العقد. يتناول المبلغ، ويغادر المكان بقدمين منهكتين، يتوجَّه إلى مركزِ الجراحة، ويسدّد تكاليف عملية البتر؛ ويسترعي انتباهه تبدُّل ملامح الموظف الصَّارمة إلى ملامح أخرى وادعة، وتبدُّل نبرته الخشنة المتعالية إلى نبرة أخرى لطيفة مهذَّبة؛ ترتسم على وجهه ابتسامةٌ ساخرةٌ، سرعان ما تتبدَّد؛ فيعود إلى وجومه المعتاد. يعطي الموظف ظهره، ويستقل المصعد، ويتوجَّه إلى غرفة أبيه. يفتح الباب؛ فيتفاجأ بأنَّ أباه يقف على كلتا قدميه، ويتحرَّك في الغرفة بخفَّةٍ ونشاطٍ، كأنَّما لم يصبه ضررٌ قَطُّ، يحدّق إلى وجه أبيه؛ يراه منيراً كقنديلٍ شفافٍ. وبينما هو في ذهوله، يقتحم أولاده الثَّلاثة الغرفة؛ فتتضاعف دهشته؛ إذ يبصر ثلاثتهم يحملون بين أيديهم ملابس جديدةً: جلباباً ناصعاً بين يدي ابنه الأصغر، وشالًا أبيض بين يدي ابنه الأوسط، وعمامةً خضراء بين يدي ابنه الأكبر. يدفع أولاده ما بأيديهم إلى جدّهم؛ فيبدّل ملابسه بسرعةٍ؛ ويتحوَّل في لمح البصر إلى شابّ في ليلة عرسه. لا يضيعون وقتاً، ويغادرون جميعاً مركز الجراحة، عائدين إلى بيتهم، يقطعون الطَّريق، يتقدَّمهم جَمَلٌ، لا تكاد أخفافه تلامس الأرض. يواصلون المسير بخفَّةٍ، فتغنّي السَّماء من فوقهم، وتبرق الأرض من تحتهم، وتضيء حول موكبهم هالات النُّور.