في زمنٍ باتت فيه الأسعار تحلّق نحو السماء بسرعة صاروخ ناسا، دون التفكير حتى في التوقف لالتقاط الأنفاس، وسط بردٍ قارسٍ جعل القشعريرة نمط حياة، وكأن الجميع يعيش تجربة تجميد مجانية في القطب الشمالي، وجد أبو العبد نفسه أمام معضلة وجودية: كيف يحصل على الدفء دون أن تحترق محفظته؟
المدفأة كانت الحل الواضح، لكن منظرها كان كمن يلتهم النقود أسرع من استهلاكها للوقود! وكأنها تقول له: "أهلاً بك في نادي مفلسي الشتاء! أنت لست جديراً بهذا المستوى من الترف يا عزيزي"!
في غرفته البائسة، التي بدت أشبه بمجمّد طبيعي يحمل تحذيراً ضمنياً: "درجة حرارة تحت الصفر.. ادخل على مسؤوليتك"، والتي تفوقت على ثلاجات السوبرماركت في حفظ البرودة وكأنها تسعى للفوز بلقب "أفضل مستودع لتخزين الخضروات الشتوية"، راح أبو العبد يستنفر ما تبقى من خلايا دماغه الراكدة، بحثاً عن حلّ يقيه التجمد دون أن يذيب مدخراته. فكّر، ثم أعاد التفكير، لكن عبثاً! حتى جاءه الإلهام أخيراً، وبطريقة لم تخطر له على بال، وأين؟ في أكثر الأماكن غرابةً… عندما حضر عزاء أحد أصدقائه القدامى!
في ذلك اليوم، وبينما كان أبو العبد يرتشف فنجان القهوة المُرّة بخشوعٍ مُتكلّف، باغتته لحظة تنوير لا تقلّ أهمية عن اكتشاف الكهرباء، لكن بدلاً من أن تأتيه على هيئة تفاحة تسقط من السماء، تجلّت في سحابة بخارٍ عطّرت المكان برائحة البن. كانت القهوة ساخنة، وبالطبع مجانية، والمدفأة تعمل بكل حماسة وكأنها في منافسة مع شمس تموز، أما المعزون فكانوا يرددون عبارات الرثاء بحزن آلي وكأنهم يقرأون نصاً من مسرحية مملة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التدقيق في هوية أي معزٍّ.
"مهلاً… لماذا أستنزف مدخراتي على القهوة والتدفئة، بينما يمكنني الاستمتاع بهما مجاناً"؟ تساءل في نفسه، وأخذ رشفةً بطيئة كأنه يتذوق مشروباً فاخراً في أحد مقاهي النخبة.
ومنذ تلك اللحظة، تحوّل أبو العبد إلى صيّاد نعوات محترف، يتابعها بشغف محلّل اقتصادي يراقب مؤشرات البورصة، وكأنها فرص استثمارية لا تعوّض في سوق الدفء المجاني! يمعن النظر في كل نعوة وكأنه عالم آثار يدرس مخطوطة نادرة، ويزن خياراته بدقة لا تقلّ عن حنكة مضارب في وول ستريت:
"ممم… عزاء في قاعة فاخرة؟ هذا يعني قهوة راقية تُسكب كما لو كانت نخباً ملكياً! لكن المكان بعيد… لا بأس، فنجان كريم ومدفأة متّقدة يستحقان العناء، حتى لو اضطررتُ لشقّ طريقي عبر العواصف الثلجية"!
ومن حسن حظه أن المدينة شهدت خلال العقد الأخير طفرة غير مسبوقة في الوفيات، وكأن عزرائيل قرر تعويض إجازاته المتراكمة بانطلاقة حماسية كأنه في سباق ماراثون! أما الأسباب؟ فحدّث ولا حرج: الفقر، والقهر، والاعتقال، والأمراض، والعدوان الإسرائيلي والتركي الذي بات روتيناً يومياً كالتقنين الكهربائي.
كان الوضع مأساوياً للجميع… إلا لأبي العبد، الذي رآه "موسماً ذهبياً"! ففرص القهوة الساخنة والدفء المجاني أصبحت أكثر ندرةً من فرصة مصادفة مسؤول يعاني من وخزة ضمير!
كل صباح، كان يخرج من منزله، يلفّ معطفه حول جسده، وقد رسم على وجهه ملامح الحزن العميق بإتقانٍ يحسده عليه أبرع ممثلي التراجيديا الإغريقية. فالمهمة تتطلب أداءً مقنعاً، والمقاعد القريبة من المدفأة تُحجز فقط لمن أتقن دوره بإخلاص!
أما أسلحته الفتّاكة، فكانت ترسانة من العبارات الجاهزة، مصمّمة بعناية لضمان مقعد في الصف الأول، مثل:
- "الله يرحمه، كان رجلاً من خيرة الرجال!" (حتى وإن لم يكن يعرف اسمه ولا حتى صفته)!
- "خسارة لا تُعوّض… الله يعوضكم بالصبر والسلوان"! (عبارة سحرية، تصلح لكل المناسبات الحزينة، من فقدان قريب إلى فقدان شاحن الهاتف)!
- "الحياة قصيرة، لكن الحزن طويل… كم سأفتقدك أيها الغالي"! (عبارة عاطفية تصلح كتعزية، سواء كان الفقيد إنساناً أو حتى قطاً ضاع)!
وهكذا، كان يجلس بكل وقار، يحتسي القهوة كأنه يتذوّق نبيذاً نادراً، ويرسل نظرات حزينة في كل الاتجاهات كأنه راهبٌ يتأمّل فناء الدنيا. ولإضفاء المزيد من المصداقية، كان يهزّ رأسه بأسى كل ثلاث دقائق ليؤكد للجميع أنه غارق في الحزن... بينما كان في الحقيقة غارقاً في الدفء والراحة، محققاً معادلته الميمونة: "دموع زائفة… مقابل قهوة حقيقية"!
لكن حتى أعظم الخطط، مهما بلغت من الدهاء، ومهما كانت محكمة، فقد تتعرض لحادث عرضي… ففي أحد الأيام، وبينما كان يحتسي قهوته المميزة في عزاءٍ فاخر، اقترب منه شابٌ من أهل الفقيد، يتفحصه بريبة وفضول قبل أن يسأله:
- "عمي، سامحني… بس كيف كنت تعرف والدي"؟
تجمّدت القهوة في حلق أبي العبد لوهلة، وشعر للحظة أن المدفأة لم تعد دافئة كما ينبغي، لكن خبرته الطويلة في "الفهلوة" جعلته يستعيد رباطة جأشه بسرعة، فعدّل من جلسته، نفث تنهيدة ثقيلة، ثم قال بثقة مبالغ فيها:
- "يا بني… العلاقة بين البشر لا تُقاس بالمصالح، بل بالقلوب! رحم الله والدك… كان رجلاً نبيلاً"!
كادت روح الفقيد تعود من قبرها، ليس حزناً على فراق الدنيا، بل لتتأكد إن كان هذا "المعزّي المخلص" يعرفها فعلاً! لكن الشاب المسكين تأثّر بشدة، فاغرورقت عيناه بالدموع، وأمسك بيد أبي العبد بحرارة، كأنهما رفيقا دربٍ فرّقتهما الأقدار، ثم التفت إلى الخدم قائلاً بحزن:
- "قدّموا لهذا الرجل الطيّب ضيافتنا كاملة"!
وبينما كان أبو العبد يضع كيس "الملبّس" في جيب معطفه كأنه كنز ثمين، رفع رأسه إلى السماء هامساً بامتنان:
- "دام عطاؤك يا كريم"!
ذات مساء، بينما كان يجلس في عزاءٍ فاخر، يحتسي قهوته للمرة الثانية، ويفكر في خطة للاستحواذ على كيس "الملبّس" الإضافي، دخل رجلٌ طويلٌ يرتدي عباءة سوداء، وجلس بجانبه مباشرةً محدّقاً فيه بنظرة ثاقبة وكأنه يفكّ شيفرة سرية.
- "أبو العبد، أليس كذلك"؟ قال الرجل بصوت عميق ومريب.
- "نعم... كيف تعرفني"؟ أجاب أبو العبد بقلق.
- "لقد سمعت كثيراً عنك... في الواقع، أنا ممثل عن «لجنة العزاءات المحلية»، ونرغب في تكريمك".
- "تكرموني؟ على ماذا"؟ قال أبو العبد محاولاً إخفاء فضوله.
- لقد حققتَ رقماً قياسياً هذا الشتاء، متجاوزاً حاجز المئة عزاء! بل إنك في بعض الأيام كنتَ تنجز ثلاثة مجالس في اليوم الواحد، وهذا إنجاز غير مسبوق! لذلك، وبناءً على عطائك الاستثنائي، قررنا منحك "وسام العزاء الذهبي"... لكن بشرط: أن تحضر حفل التكريم بنفسك.
أبو العبد، الذي لم يفوّت فرصة في حياته، وافق دون تردد. وفي اليوم الموعود، توجه إلى المكان المحدد، غارقًا في خيالاته عن الحفل المرتقب. تصوّر نفسه واقفاً أمام الجمهور، يتلقى وسام العزاء الذهبي بكل فخر، وسط تصفيق حار ونظرات إعجاب تملأ القاعة.
لكنه، عند وصوله، وجد نفسه في قاعة فارغة، إلا من رجل وحيد يجلس قرب مدفأة مشتعلة.
تقدّم أبو العبد، مستغرباً:
- "أين الحفل؟" سأل أبو العبد بقلق.
- "الحفل هو أنت!" قال الرجل بابتسامة غريبة. "قررنا أن نكرمك بطريقة خاصة... تليق بمقامك"!
قبل أن يتمكن أبو العبد من الرد، انطفأت الأنوار فجأةً، ليجد نفسه محاطاً بمجموعة من الرجال الذين ارتدوا ملابس سوداء، وكأنهم خرجوا من فيلم رعب، وكانوا يرتّبون طقوس عزاء... ولكن له هو!
- "لقد قررنا تكريمك... ولكن على طريقتنا، بأن نجعلك الفقيد التالي"! تحدّث الرجال بصوتٍ واحد.
تجمدت الدماء في عروق أبي العبد، لكنه لم يملك فرصة للاعتراض، فقد قُدّم له فنجان قهوة ساخن وكيس ملبّس كما تُقدم للمعزين الحقيقيين. دفعوه بلطف ليجلس في المقعد الأقرب إلى المدفأة المشتعلة، كأنهم يمنحونه لحظاته الأخيرة من الدفء قبل أن يلتحق بمن سبقوه.
تقدّم الرجل الطويل، ذو الملامح الصارمة التي لا تعرف الابتسام، ونظر إلى أبي العبد، نظرة قاضٍ يستعد للنطق بالحكم النهائي، ثم قال بلهجة ساخرة:
- "دفء وقهوة؟ إذن قررتَ أن تحوّل مجالس العزاء إلى مقاهٍ مجانية؟ وماذا بعد؟ خدمة توصيل إلى باب بيتك؟! هذا هو آخر فنجان وآخر كيس ملبّس تحصل عليه في حياتك، لقد لاحظنا أنك تحضر دون معرفة الفقيد، وهذا يجب أن يتوقف إلى الأبد".
ازدادت قشعريرة أبي العبد، فرفع يديه في محاولة يائسة لاستدرار العطف وأجاب بصوتٍ حزين أقرب إلى البكاء:
- "يا جماعة، الله وكيلكم، من فقري المدقع! فنجان القهوة صار أغلى من كشف الطبيب، والمازوت صار يُشترى بدم القلب! ما كان أمامي غير هذا الحل... لَم يكن لي خيار آخر"!
قاطعه الرجل الطويل بضحكة باردة، ثم أشار إلى أحد الرجال الذي أخرج ورقة طويلة مطوية بعناية، وبدأ يقرأ:
- "حسناً، دعونا نستعرض سجلّك الحافل، أيها المعزّي المحترف! الأحد الماضي، عزاء الحاج أبو سعيد… جلست ثلاث ساعات وشربت خمسة فناجين. الإثنين، عزاء أم محمود… تناولت القهوة مع سبعة قطع ملبّس وأنت تروي حكايات لم تسمعها أم محمود نفسها! الثلاثاء، عزاء أبو فؤاد… أُغمي عليك بسبب التخمة بعد صحنين من الهريسة"!
بلع أبو العبد ريقه بصعوبة، في حين أكمل الرجل تلاوة قائمة طويلة من المآتم التي حضرها وكأنه عضو دائم في مجلس العزاء العالمي، ثم قال بنبرة حازمة:
- "والآن… جاء وقت العقاب المناسب! حكمت عليك "لجنة مكافحة المعزّين المزيفين" بالاختفاء التام من المشهد العزائي"!
نظر أبو العبد حوله بسرعة، باحثاً عن مخرج، لكنه وجد نفسه محاصَراً، ارتجف جسده كالعصفور المذعور الذي يحاول الهروب من فخ، وتمتم بتوسل:
- "أنا مستعد للتوبة! أقسم لكم يا جماعة، لن أشرب القهوة مجدداً إلا بدعوة رسمية، وبشهود، وموافقة خطية من أهل الفقيد"!
الرجل الطويل أومأ برأسه متفهماً، وقال:
- "العزاءات ليست مكاناً للاستغلال، سنعفيك هذه المرة من العقاب الذي تستحقه، نُحذرك للمرة الأخيرة أن تبتعد عن هذه «المهنة»، وإلا ستكون العواقب أشدّ مما تتخيل".
أبو العبد نظر إلى فنجان القهوة بين يديه، ثم إلى كيس الملبّس، وأخيراً إلى المدفأة المشتعلة. شعر للحظة بالندم، لكنه سرعان ما ابتسم في داخله، وغمغم بينه وبين نفسه: "على الأقل حصلت على آخر فنجان قهوة دافئة"!
خرج أبو العبد من بيت العزاء تلك الليلة، وهو يضع يديه في جيبه، يتلمس آخر ذرات الدفء العالقة في أطراف أصابعه.
كان الهواء البارد يصفع وجهه، لكن في داخله، كان هناك شيء مختلف… مزيج غريب من الخوف والراحة، وكأنه نجا بأعجوبة من حفلة إعدام.
وسرعان ما أدرك أن حياته القديمة قد انتهت. العزاءات باتت محرمة عليه، وحلمه بـ"اشتراك مفتوح في القهوة والملبّس" قد تبخّر رسمياً.
جلس على طرف الرصيف، مفكراً في البدائل، قبل أن تلمع في رأسه فكرة عبقرية:
"العزاءات انتهت… لكن العلاقات الاجتماعية لم تنتهِ"!
في اليوم التالي، بدأ أبو العبد فصلاً جديداً من حياته، وبدلاً من التسلل إلى الخيم وصالات العزاء، صار يطوف على بيوت الأصدقاء والمعارف، بوجه بشوش وأحاديث لا تنتهي.
- "صديقي العزيز! والله لك وحشة"!
- "يا جاري الطيب! كيف حال الأولاد؟ اشتقت لك ولمجلسك الجميل"!
-"خالتي الحنونة! والله، لا شيء يشبه قهوتك، حتى قهوة العزاء"!
بهذا الشكل، ضمن أبو العبد تدفئة مجانية، وأكواباً لا تُعدّ من القهوة، واستقبالاً مفعماً بالحفاوة. والأهم… أنه لم يعد مضطراً لسماع خطب التأبين المكررة، ولا لحفظ أسماء متوفين لا يعرف عنهم شيئاً!
وهكذا، انتهى الشتاء، ووجد أبو العبد نفسه يبتسم بسعادة، مردداً حكمته الجديدة:
"أحياناً، الدفء الحقيقي يأتي من الأصدقاء والأحباء… وليس من المدفأة فقط"!