الطفل العربي ضمن دائرة اهتمام الأمن اللغوي

كتاب "الرصيد اللغوي لمسموع الطفل العربي من الفصيحة"

د. علاء عبد المنعم إبراهيم



 

تكشف زيادة النسب الكمية والكيفية للندوات والمؤتمرات والمنتوجات البحثية، التي تقارب مفهوم "الأمن اللغوي" في العقد الأخير؛ أن ثمة وعيًا عربيًا بأهمية الأمن اللغوي في سبيله إلى التشكُّل، وهو ما يفتح نافذة التفاؤل من نواح عدة أبرزها أنه يثبت تجاوزنا مرحلة الواقع المشحون بمظاهر التباكي على وضع اللغة العربية، والمتنبئ بمستقبلها المظلم، والمبالغة في تقمص دور العراف المتنبئ بمستقبلها المظلم، ويبرهن أننا صرنا نتحلى بجسارةِ مُمارسةِ النقد الذاتيّ، وإخضاعِ بعض ثوابتنا للمُساءلات التأمُّليّة المُنتِجة، ومُراجعتها بغية تعزيز الإيجابيات ومعالجة السلبيات، غير مكتفين بالانكفاء على الذات، أو الوقوع في أسر التعاطي مع آلياتٍ تحليلية ممتاحة من ماضٍ مرغوب يشبعُ تطلُّعات آنية، أو من واقعٍ افتراضيٍّ يؤول إلى ماضٍ مُلتبسٍ، ويبرهن كذلك على إدراك مُتبصِّر بالعلاقة الضرورية بين الأمن القومي، وبين الأمن اللغوي في ضوء التحديات التي تواجهها المجتمعات العربية وهويتها الآن، حيث تتضارب المفاهيم والقيم والأنساق الثقافية بفضل مفهوم العولمة، وما ولده من صراعات اتخذت من الغزو اللغوي أدوات، توظفها كلُّ ثقافة بغية الانتصار في منازعاتها الضارية مع الثقافات الأخرى.



ويمكن الجزم أن هذا الوعي المأمول لن يتشكل سوى بالالتفات إلى الطفل العربي وأمنه اللغوي، وأن الممارسات الإجرائية المترجمة لهذا الوعي ستظل غير فعّالة إذا لم تتوجه صوب الواقع اللغوي، والتعبيري للطفل العربي وما يعترية من نواقص، وما يواجهه من تحديات.

ويمثل كتاب "الرصيد اللغوي المسموع.. قائمة معجمية لرصيد مسموع الطفل العربي من الفصيحة بناء على مدوّنة محوسبة" -الصادر في ثلاثة أجزاء- أحدث المنتوجات العلمية الجادة المعنية بلغة الطفل، وما يتعالق بها من أمن لغوي ذي نوازع آنية ومستقبلية، والمُتذرِّعة بأدوات العلم وإجراءاته، والمُستثمرة للطاقات الهائلة للثورة الرقمية ومكتسباتها، التي عمل عليها فريق بحثي -بقيادة د. محمود العشيري الأستاذ بجامعتي جورج تاون ودار العلوم- استطاع الانفتاح على المدارس العالمية في هذا السياق، واستيعاب النظريات اللسانية الحديثة، وفهمها وتطبيقها في مجال معالجة المشكلات التي تكتنف عملية الرصد والجمع والتصنيف... وهو أمر لا غنى عنه باعتباره ممارسة يلجأ إليها كلُّ عقل يتغيَّا الارتقاءَ والتطور، دون أن يتحوَّل التحديث إلى حداثة مُستنسخة تستعير النتائج.

يتخذ هذا العمل البحثي -بالإضافة إلى أنه مشروع منجز- الدراما المتلفزةَ الموجَّهة للطفل العربي باللغة العربية المعاصرة (الفصيحة) مادةً له، بهدف إنتاج رصيد لغوي لمسموع الطفل العربي من الفصيحة، فيحدد المفردات الأكثر تداولاً وشيوعاً في مسموع الطفل من الفصيحة طبقاً لسُلَّم الكثافة الكمية، وهو ما يعد إنجازًا فريدًا في العربية يدعم كفاءة الطفل اللغوية، ويمكن استثماره مع أرصدة أخرى لبناء قائمة رصيد موسع للطفل العربي من إنتاجه ومقروئه ومسموعه عند فئات عمرية مختلفة، يُبنى عليها ما يقدَّم له من مادة أدبية وتعليمية، بوصفها تقدم المفردات الأيسر منالاً والأقرب إلى ذهنه ووعيه.
 

لغة الدراما التلفزيونية... مِن رحلة الكنز إلى كنز الرحلة

يتأسَّس العملُ على وعيٍ عميق بأن ما يسمعه الطفلُ في سنوات عمره الأولى يؤثر تأثيرًا كبيرًا على طبيعة مُعجمه اللغوي ومهاراته التركيبية، سواء على مستوى الفهم أو التلقي أو على مستوى إنتاج اللغة، ولما كانت لغة الدراما التليفزيونية هي الرفيق الذي يصاحب الطفل في رحلته التي يخوضها، منذ مرحلة ما قبل المدرسة إلى ما بعدها، أصبح الكنز (الرصيد اللغوي) كامناً في خطوات سيره مع هذا الرفيق، ومتغلغلاً في مسموعه وأرصدته التي تنبني عبر هذه البوابة المشرعة، والحوار الضمني الشفيف بينهما.

إن أبرز النقاط المضيئة في هذا المنجز البحثي، هو الالتفات المثير إلى الدور الذي يمكن أن تقوم به الدراما التلفزيونية في أن يأنس الطفل بالفصحى -وهو شرط أولي يحدّده د. المسدي للنهضة اللغوية- دور تؤديه على نحو خلّاق عبر موضوعات وسياقات لا حصر لها، ربما بما لا يقاربه فصل دراسي، حيث تبني الدراما قاعدة الاستقبال بقوة ورصانة، ويتبقى على المؤسسات التعليمية والتربوية والترفيهية، والأُسر أيضاً أن تقتنص هذا التأسيس لتنقله إلى حيز التفعيل والاستخدام.

يكشف المشروع أن الدراما التلفزيونية تعين الطفلَ العربي على اكتساب أصوات العربية الفصيحة كما ينطقها مؤدون من مجتمعه، وأيضاً كما ينطق بها ممثلون/مؤدون مختلفون من العالم العربي، فيعتاد الاستماع إلى الكثير من الأفونات العربية، أو العديد من الصور الأفونية للفونيم الواحد، كذلك تسهم الدراما التلفزيونية في إكساب الطفل "النحو" بمفهومه الكلي؛ أي القدرة على إقامة التركيب وبناء الجملة على نحو مفهوم، وكذلك تدعم رصيده المفرداتي بحيث يستطيع أن يجد دوالاً فصيحة لما يحيط به من أشياء وأحداث وموضوعات وعلاقات.

ولعل من أهم مميزات اكتساب الطفل للغة عبر الدراما التلفزيونية -كما يوضّح العمل- هي اكتسابه لها غير منفصلة عن السياق الاجتماعي لاستخدامها، على خلاف سياقات تعليم اللغة التي غالبًا ما تفتقر إلى سياق طبيعي حقيقي، بما يكسبه قدرة تفسيرية على فهم اللغة واستيعابها بوصفها مكونًا تواصليًا.

كذلك تقوم الدراما التلفزيونية على نحو ما بتوفير وسط من "الانغماس اللغوي"، ولو على نحو جزئي لا توفره الأسرة، ولا الأنظمة التعليمية غالباً في ظل تعليم أجنبي يتزايد يوماً بعد يومٍ.

تشكلت لغة الدراما التلفزيونية التي اعتمدها المشروع من مواد مسجلة من ثمان فضائيات عربية، من خمس دول عربية هي قطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية ولبنان، كما تمثلها فضائيات براعم وأجيال وماجد وسي إن عربية، وmbc 3، وسبيستون، وسمسم، وطه. ويعضد هذا التنوع الجغرافي المتسع موثوقية الرصيد المستخلص من تلك المواد.
 

الرصيد اللغوي ومدونته المحوسبة

يمثل الطبيعة المسموعة للرصيد المتغيّا، جمعه عبر هذا المشروع أبرز إيجابيات العمل وعناصر قوتهن، حيث يكاد يقتصر الرصيد اللغوي العربي المتوافر حاليًا على المدونات المكتوبة، وقلما امتد إلى النصوص المسموعة، ويوضح المشروع ما يقصده بـ"رصيد مسموع الطفل العربي من الفصيحة" بتلك الثروة اللفظية التي يكتسبها الطفل، ويمكن أن يفهمها أو على الأقل يستوعبها عند مرحلة عمرية محددة، فهي مخزون الكلمات والتعبيرات المتكون في ذهنه مكونة معجمه الذهني.

ويحدد العمل هدفَه في الوصول إلى قوائم متدرجة، تقدم أكثر الكلمات شيوعًا في مسموع هذا الطفل من العربية الفصيحة، بناء على مدونة لغوية محوسبة، تكون مادة لمعالجة مسموع الطفل العربي في مرحلة ما قبل المدرسة، وسنيه الأولى من الفصحى المعاصرة، مرحلة التعرض الأوليّ للعربية الفصيحة، التي تسبق مباشرة البدء في مقاربة العربية الفصحى عبر مراحل التعليم النظامي، وهذا عبر أهم ملكات التحصيل "السماع"، بالإضافة إلى الصور المتحركة في عصر الصورة، وهذا لغايات لغوية وتربوية وتعليمية وإبداعية.

كما عمد المشروع إلى إعداد مدونة محوسبة (Corpus)، من خلال وسائل اتصال سمعية ومرئية/بصرية، وبناء عليها أمكنه إعداد قائمة بالمفردات الفصيحة الشائعة في حياة الطفل العربي، وهو ما يمكن البناء عليه لتحقيق جملة من الأهداف منها:
• التأليف للطفل، باستثمار مخرجات المدونة من مفردات وتراكيب في مجال التأليف الإبداعي للطفل العربي، بما يتناسب مع نموه العقلي والإدراكي.
• الإسهام في تصنيف كتب الأطفال القائمة، ورفع كفاءة ما هو مطروح من معايير.
• تصميم المناهج للمراحل العمرية المختلفة.
• تطوير مهارات القراءة، حيث تكشف البحوث اللسانية المعملية/ المخبرية أن التعرف على الكلمات المتواترة أسرع بكثير من التعرف على الكلمات غير المتواترة.
• المساعدة في درس اكتساب اللغة بعامة لدى الطفل، وسيعين ذلك بالضرورة على تمكين الطفل من البناء على معرفته المكتسبة بالضرورة ورصيده المسموع.
• تمثيل المعجم الذهني للطفل، حيث يمكن القول إن التوصل إلى قائمة مُبينة لرصيد مسموع الطفل العربي من الفصيح، قد يكون من وسائل مقاربة الجوانب المعجمية الذهنية للطفل العربي، عند هذه المرحلة من القرن الحادي والعشرين، ومناقشة بعض قضايا اكتساب الثروة اللفظية وتوليد استعمالاتها.

فيما يتعلق بمادة المدونة يحدد المشروع أنها نصوص أصلية مسموعة مرئية، جمعت وحولت إلى نصوص مكتوبة بتفريغها على أيدي فريق من اللغويين، وقد جمعت المادة عشوائياً على نحو منظم عن طريق تسجيل أسبوعين كاملين، غير متوازيين لما يبث من برامج موجهة للأطفال عند المرحلة المحددة، من ثمان فضائيات عربية، تبث كل برامجها أو جلها، وأحياناً قليلة بعضها بالعربية الفصحى، حيث سُجل حوالي 1907 فيديو أو حلقة من مسلسل درامي، مدة كل حلقة حوالي 20 دقيقة في المتوسط، وتم هذا طوال ساعات البث اليومي لهذه الفضائيات، وتم فرزُ المادة لاستبعاد ما لم يكن منها مقدماً بالعربية الفصيحة، وحذف التكرار، ثم أُفرزت المادة مرة ثانية لاستبعاد ما لا ينطبق عليه شروط الدراما التي تقدم للطفل في هذا العمر، في عملية ضبط لجودة العينة بعد أن كان تسجيلها قد تم وفقاً للشروط المعتمدة لدى هذه الفضائيات، في مادتها التي تقدمها لهذه المرحلة العمرية، وقد آلت المادة بعد تطبيق الشروط الأكثر تشدداً من حيث المحتوى الفكري والمضموني المناسب للطفل عند هذه المرحلة العمرية، بناء على عدد من الدراسات التربوية والثقافية إلى 782 مادة درامية.

ولعل هذا التفاوت اللافت بين ما سُجِّل واعتُمد بعد التدقيق، يفسره مبدئياً التفاوت في الاهتمام بتقديم محتوى بالفصحى، يوجه للطفل العربي عند هذه المرحلة سواء أكان عربياً أم معرّباً.

بقى أن نشير إلى أن أهمية هذا العمل فضلاً عن جدته، تأتي من كونه يرصد مسموع الطفل العربي في مقابل الأعمال الكثيرة التي كانت تهدف إلى رصد منطوقه، فهو من جهة دراسة وصفية دقيقة لجانب مهم من جوانب البيئة اللغوية للطفل، لرصد الفرق بين المسموع والمنطوق، ومن جانب آخر يعد رصداً لما قد يدخل في التكوين الذهني للطفل العربي عند مرحلة ما قبل المدرسة وحتى تسع سنوات، ومن ثم ييسر درسه، إضافة إلى تقديم رصد لما يقدّم للطفل للسانيين والتربويين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها