أولريش "كلاسيكية فايمار" ووجه آخر للحياة

أجرى الحوار: إليزابيث فون تادين Elisabeth von Thadden

ترجمة: شيرين ماهر


نعيش أوقاتًا عصيبة تسبب لنا الكثير من الانزعاج. وفي محاولة لتخفيف حدة هذا التوتر والوصول لآليات إيجابية تساعدنا على التكيف مع الواقع الراهن، يقدم موقع "Die Zeit" الألماني سلسلة حوارية بعنوان "فيمَ تفكر"؟ والتي تطرح تساؤلات على كبار العلماء والأصوات المؤثرة في الحياة العامة بشأن ما يعتقدونه أولوية في التفكير.. ضيف هذه الحلقة "أولريش جروبر"، الكاتب والصحفي الألماني صاحب العديد من المؤلفات عن "تاريخ الاستدامة". في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "لغة الثقة/ Die Sprache der Zuversicht"، يدعو "جروبر" إلى ضرورة التشبث بأن تستمر الحياة على الكوكب، وأن نتبنى رؤية أقل قتامة حول المستقبل، مستنداً في دعوته إلى ما تعلمه من "كلاسيكية فايمار" الموسيقية. يمضي "جروبر" في كتابه عبر جولة فلسفية داخل أروقة اللغة، مُحتفياً بالسحر الكامن وراء الكلمات، كاشفاً أن الاستدامة تولد دائماً من رحم الأزمات وليست الأزمات التي تُهدد الاستدامة، مُستحضراً رموزاً تاريخية تمنح المستقبل بُعداً جديداً في مواجهة تحديات عصرنا الحالي.



 

 سيد "جروبر" فيم تفكر الآن؟

يزعجني بشدة أن المجتمعات باتت تهمل، بل أوشكت أن تَفقد، أحد أهم الموارد التي تحتاجها، بشكل عاجل.. لا أقصد موارد الطاقة وما غير ذلك؛ وإنما أقصد مورداً لا يقل في أهميته عن الموارد الطبيعية الأخرى. فهو مورد روحي، بالأحرى، معه ننطفئ أو تبقى جذوة الأمل مشتعلة داخلنا. أتحدث عن "الثقة" في الحياة، في قوانين الكون، في قدرة البشر على التكيف مع المجال الحيوي المحيط بنا.. تعد "الثقة" هنا، وفي مثل هذه الظروف، بمثابة مصدر هائل للطاقة في حياة الإنسان، ودافع قوي لبقائه قادرًا على التصرف والمراوغة وعدم الاستسلام. لطالما امتلك عصرنا الحديث - إيماناً فتياً بالمستقبل. ولكن بات الكثيرون يفقدون هذه الثقة جراء الأزمات المتتالية، وخصوصاً الأزمات الطبيعية كأزمة المناخ وتداعيات ظاهرة الاحتباس الحراري، علاوة على الحرب وسيناريوهاتها.

● لماذا نحتاج إلى أفكار للمستقبل أو الثقة فيه حتى نتمكن من التصرف؟ أليست الحقائق التي نعيشها في الحاضر كافية لتكون قوة دافعة؟

الاحتباس الحراري وموجات الجفاف أو الفيضانات وحرائق الغابات تمثل، بلا شك، حقائق صارخة. ولكن قدرة الطبيعة على تعديل مسارها هي أيضاً حقيقة واقعة. بمعنى أشمل، هناك قوة متجددة للأرض وفق مفهوم *Gaia. هذه أيضاً حقيقة واقعة. كذلك الحرب، ليست مجرد حقيقة فجة أمام أعيننا، فحسب، بل إنها تمنح الناس القدرة على التعاطف والشعور بقيمة وأهمية السلام، فالتوق إلى السلام هو أيضاً جزء من الواقع. إذا نقبنا في الواقع سنجد أيضاً نقاطاً إيجابية يمكن الاتكاء عليها، وليست بمعزل عما نحياه ونمر به.. هكذا تعمل مفاهيم الاستدامة. وعندما أدعو الأفراد إلى التحلي بمزيد من الثقة، لا أقصد هنا، أن يغلق المرء عينيه بسذاجة ويدير ظهره للأهوال، بل أعني أن ينظر المرء للواقع بصورة أكثر رحابة لخلق مساحة من الاحتمالات الإيجابية الموجودة، بالفعل، حولنا. ومهما كانت نسبتها، فهي، في النهاية، حقائق وليست هراءً. ما نشعر به حالياً، إنما هو تجريد للحاضر من حيوية الاحتمالات المستقبلية.

● كيف ترى الأمر مختلفًا عندما يتم توجيه التفكير نحو المستقبل؟ خاصة وأن هناك من يرتابون من الحديث عن "الثقة" ويعتبرونها تخلق عالمًا مزيفًا لإبقاء الأفراد مشغولين.

لا أغامر بمفهوم "الثقة" ولا أجعله مَخلباً، بل أجده أكثر اتساقاً مع فهم أبعاد ما يحدث. كما يساعدنا على وضع تصورات منطقية ومتوازنة للمستقبل دون تهويل أو تهوين. فعلى سبيل المثال، نتصرف بنجاح عندما لا نقاتل ضد شيء ما، وإنما عندما ندافع عن قضية مشتركة أو تصور للحياة المستقبلية. ربما حديثي عن الثقة، في مثل هذه الأجواء، يبدو استفزازياً للبعض. لكن بالنظر إلى الكلمة ذاتها، سنجدها تقول الكثير عن مفهوم أكثر شمولية: إنها تدور حول المنظور ذاته، حول علاقة جامِعة بشأن عالم تكتِمل فيه رؤية الأخطار بالتوازي مع فرص النجاة. فمن المؤكد أن المحيط الحيوي يعمل ككائن حي مستقل.. ومَن يظن أن الأرض "مفعولاً به"، وليس "فاعلاً" قد جانبه الصواب.. هذا النشاط الكوني له بُعد شديد الرسوخ، تتولد عنه الثقة التي أتحدث عنها. إنه يسمح لنا نحن البشر برؤية كوكبنا الأزرق من الخارج، في وضعية "المراقب".

● ولكن هناك بعض الأدلة على أن البشر سيختفون قريبًا من تاريخ الكوكب؛ لأنهم دمروا مكانتهم الثقافية خلال عصر الأنثروبوسين (العصر الجيولوجي البشري) الذي بدأ بظهور الإنسان. المحيط الحيوي يعمل بشكل جيد بدوننا. في ظل هذه الظروف، ماذا يعني أن ترى أنه لا زال هناك فرصة لإنقاذ البشرية؟

الثقة في صلاح الخلق أو في منظومة التطور هي فرضية أساسية، ولا بد أن تظل حاضرة في كل المحاولات والتصورات التي نضعها. وانطلاقاً من هذه الثقة، ينبثق الرأي القائل بأن "الأرض تستمر في الدوران، والحياة لا تتوقف". على هذا النحو، فقط، يمكن للمرء أن يرى البشر يمتلكون موهبة فريدة لدمج أنفسهم في الواقع المعيش على سطح الأرض. لا يمكن إنكار أن هذا يولد، بدوره، ردود فعل عكسية. ولكن مواصلة الحفاظ على قدرتنا على الانتماء للكوكب والاعتناء بهذه الصلة التي تربطنا، بعناية، بالمحيط الحيوي؛ إنما هي غريزة يمتلكها الجنس البشري بجدارة.

● عندما تتحدث عن صلاح الخلق، تستخدم كلمات ومصطلحات مستمدة من العصر الكلاسيكي الألماني، في عام 1800. لقد تلاشت واندثرت هذه المفاهيم الآن؟

الوقت لا يلتهم الموروث.. إنه جزء من تراثنا الثقافي، واستعادته وحشد مفاهيمه، مرة أخرى، بمثابة فرصة حقيقية علينا التمسك بها. تنتمي هذه اللغة ومصطلحاتها إلى "عصر الإمبراطورية الألمانية القديمة".. لا أتحدث عن أفكار يراها البعض كالقطع الأثرية التي لا يليق بها سوى العرض في المتاحف، لكنني أطوف حول الحقبة ذاتها، باعتبارها نقطة مرجعية لأبحاث المناخ: إنه الوقت الذي بدأت فيه حداثتنا المُدمِرة، مع بداية انطلاق العصر الأحفوري لاقتصاديات النمو الرأسمالي. وفي الوقت نفسه، كان كل من عصر الرومانسية الأوروبية والفلسفة المثالية يعترضان بشدة على انجرافات الحداثة ويتنبآن بتأثيراتها السلبية. وخلال هذه الحقبة، تم وضع تصميمات وتصورات مختلفة حول الحداثة، يمكننا أن نعيد بعثها الآن ونجعلها مثمرة وقابلة للتطبيق.

● كيف يبدو هذا الشكل الحداثي المختلف الذي تتحدث عنه؟

ينتمي هذا الشكل، في الأساس، إلى النمط الحداثي الكلاسيكي. وهو مزيج من علم البيئة والتفكير الموجه نحو الطبيعة وفلسفة الإنسانية.. أنصحك بالسير والتجول عبر حديقة "Ilm Park" في فايمار.. هناك في هذا المكان، تحديداً، ستجد روح العصر الكلاسيكي متجسدة بقوة. على امتداد النهر، عبر المروج الخضراء، حيث تفضي مجموعات من الأشجار السامقة إلى الحديقة الرومانسية، بجوار منزل أديب ألمانيا الأشهر يوهان فولفجانج غوته. اتبع المسار عبر الباب الأمامي حتى النهاية. أمام السياج، بجانب جذع شجرة الزيزفون المتدلية، يقف تمثال بارتفاع الكتف، صممه "غوته" - بنفسه- عام 1777، وأقامه في هذا الموقع تحدياً. التمثال عبارة عن كتلة من الحجر الرملي تستريح على الأرض؛ تميل قليلاً، فتبدو كما الكرة العائمة: إنه "حجر الحظ السعيد"- كما نُطلِق عليه. التمثال عبارة عن شكلين هندسيين تحتضنهما ربوة خضراء صغيرة. يجسد متوازي المستطيلات النزعة إلى الأرض والجاذبية، فيما تشير الكرة إلى قوة التغيير المستمر. هناك رمزية قوية في هذا النُصب: الثابت والمتحرك يتكاملان وينسجمان بصورة مركبة ومتكاملة أيضاً. يمثل لي هذا النصب رمزاً قوياً ومعبراً عن نظام إيكولوجي مرن ودالاً على التنمية المستدامة. لا يوجد مكان آخر تتقارب فيه روح كلاسيكيات فايمار كما هو الحال في تلك الحديقة التاريخية بجوار متحف العصر الرومانسي، الذي جرى تدشينه بالقرب من مسقط رأس الراحل يوهان فولفجانج غوته.

● هل هناك شطرة شعرية أو قرينة لفظية تُعبر عما تعنيه؟ وهل يمكن أن يكون ذلك سنداً مَعمولاً به في الوقت الحاضر؟

"مهما كان الوضع، فالحياة جيدة"... هي شطرة من قصيدة "The Bridegroom " لأديبنا الشهير يوهان فولفجانج غوته. فكرة أن الحياة جيدة، مهما كانت العقبات، فكرة تنتمي للعصر الكلاسيكي. وقد تم تطبيقها، على سبيل المثال، في الحرص على استدامة الغابات في السنوات التي كان فيها غوته وزيراً.. أؤمن بأن التراث الثقافي ليس كتاب وصفات، بل بوصلة نسترشد بها عند الأزمات. ويمكن الشعور بأن هذا التراث بمثابة مصدر للطاقة وبث الإرادة. لم يكن تطور سكان العالم، يلوح في الأفق، في عام 1800، وبالطبع علينا أن نضع ذلك في الاعتبار. لكن الثقة الواعية وغير الساذجة في نظام الكون وإيقاع منظومته، ستجعلنا نرى إمكانات وفرص لا تزال متاحة في هذا الواقع، مهما بلغت قتامته.

● بهذا المنظور ووفق دعوتك، كيف يمكن للثقة أن تجعلنا نرى فرصة في ظل الحرب الآنية؟

الحرب، التي تكاد تجبرنا على أن تكون لدينا رؤية عدمية، لا تخلو أيضاً من البدائل. الصراعات هي نتاج التفكير الجيوسياسي الامبريالي. ولكن على مدار الخمسين عامًا الماضية، أو نحو ذلك، ظهرت مجموعة متنوعة من خيارات سياسة الأرض، على حد تعبير عالم البيئة الشهير، برونو لاتور، التي تعارض فكرة عدم وجود بدائل. إن سياسة الاستدامة للأمم المتحدة بأهدافها للتنمية المستدامة هي تعبير عن ذلك، وهي فكرة جديدة تاريخيًا. إنها أحد البدائل المطروحة على طاولة الحداثة. لو نظرنا إلى تجربة الوقوف على الهاوية، سنجدها تخلق مستوى عالميًا من المعاناة يؤدي أيضًا إلى رغبة مضادة في الابتعاد عن حافة هذه الهاوية. ومن ثمة، لا بد ألا نفقد امتياز الحياة مهما كانت الظروف.. لا بد أن نتمسك بأن نكون جزءًا من كوكبنا الأزرق الصالح للحياة.. التخلي عن الثقة في هذه الفكرة والإيمان بها؛ إنما هو أول درجة في سلم الفناء البشري.

 


* "جايا/ Gaia": هي إلهة الأرض في الأساطير اليونانية، أم الحياة، على غرار الآلهة "تيرا" في الأساطير الرومانية. ويرمَز لها بالأرض والأشجار والنباتات وغيرها من مكونات الأرض، وتقول الأسطورة: أن "جايا" تتمتع بقوة خارقة تجعلها تتحكم بالصخور والرياح والنباتات وغيرها من الظواهر الكونية على الأرض. وفي العلم الحديث، يستخدم مصطلح "Gaia" لوصف الأرض ككائن حي معقد البنية، من الصعب التكهن بآلية عمله ومفاجأته.
 
المصدر

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها