ابنُ عوف.. مؤسس أول مدرسة علمية في مصر

حسام نور الدين

قائل هذه الجملة هو السلطان صلاح الدين الأيوبي، عندما خاطب كاتب إنشائه العماد الأصفهاني، فأمر بتجهيز موكبه من منطقة (عمود السواري) بالإسكندرية، التي خيم بها خيمته الحمراء، بدهليزها الأحمر، والمِيضأة الحمراء، كما هو المعتاد في مراسم أسفاره، ثم بدأ تحرك السلطان، مرتدياً على رأسه قلنسوته الفخيمة، بينما الأمراء وأعيان الدولة يرتدون الطاقية الأيوبية المعروفة (بالكلاو)، بلونها الأصفر(شعار الدولة الأيوبية)، ينسدل منها ذوائب شَعرهم، ويغطي صدورهم الطيلسان الوقور.
 

وهكذا يخترق الناصر صلاح الدين دروب المدينة، ناظراً إلى العمارات التي مهدها، والأسوار التي جددها، مشيراً عليها لولديه الطفلين (الأفضل علي، والعزيز عثمان) اللذين حرص أن يصحبهما معه في زيارته التاريخية، ثم يلتم أهل الثغر المحروس، لرؤية موكب السلطان، تدور نظراتهم تجاه الموكب بالحرس، والحشم، والبيارق، والأبواق، والكوسات (الصنوج النحاسية)، لايعرف أحد منهم أين يتجه مسير صلاح الدين؟ وما محطته التي اختارها في أرض المدينة؟ بينما تعدو في خفة ورشاقة الخيول المُطَهَّمة، والمُزدانة بالسروج السلطانية المُذْهَّبة، تمس حوافرها الأرض مساً، بوقعها المسموع اللطيف، وسط طراوة نسمات الإسكندرية، ويتهافت ناس وراء ناس، من هنا وهناك، يقتربون بحذر من محيط الموكب وهو يعطف عطفته إلى شارع (المحجة) الشهير، فتتهادى تدريجياً حركة الخيول، ويخف إيقاع خطو قوائمها، ثم تطلق صهللة صادحة، تسمعها الآذان في وجل، لاسيما مع إشارة حازمة من قائد (الطبلخانة)، فينفجر ضرب الطبول، ويُجلل رنين الكوسات، وتصدح فرقة الزَمْر بالنغمات الحماسية، في حين ترتفع الفوانيس والمشاعل، فيبدأ السلطان في النزول، حيث تطل طلعته للأعين على جانب الطريق، إذ تتقدم قدماه في تؤدة، يليه ولداه، ورفقاؤه الكبار، نحو مقر الإمام/ أبي الطاهر بن عوف الإسكندراني.

فلماذا يذهب السلطان صلاح الدين بنفسه له؟ وبرفقة زمرته، وطفليه؟ وما حكاية هذا المكان مقر الزيارة؟ ثم... من يكون الإمام/ أبو الطاهر بن عوف الإسكندراني؟

طبيعة الزيارة.. وحكاية المكان

يحكي لنا العماد الأصفهاني الذي رافق صلاح الدين في زيارته، أن السلطان قد أمضى العشر الأواخر من شهر شوال في عام (577 هجرية)، ليسمع ويدرس مع ابنيه شرح الموطأ (أول مصنف جمع الأحاديث النبوية، والفقه معاً) للإمام مالك، برواية الشيخ الطرطوشي، على يد إمام المالكية الأول وقتها أبي الطاهر بن عوف (إسماعيل بن مكي بن عيسى بن عوف الزهري الإسكندراني، من نسب الصحابي المبشر بالجنة عبد الرحمن بن عوف)، وذلك في المدرسة الحافظية، وهي أول مدرسة أنشئت بالإسكندرية الإسلامية، بل في مصر كلها، حيث كان التصور السائد أن أول مدرسة أنشئت في مصر قاطبة، كانت على يد صلاح الدين الأيوبي (المدرسة الناصرية) في عام (566ه)، عندما كان وزيراً للخليفة الفاطمي/ العاضد، لتتولى تدريس المذهب الشافعي، أسوة بمدارس الشام التي أقامها نور الدين محمود بن زنكي، لنشر المذهب السُني، ودحر المذهب الشيعي، وقبل مدارس الشام كانت البداية أولاً من مدارس الوزير السلجوقي/ نظام الملك في بغداد، فمن وقتها (بالقرن الخامس الهجري) عرف العصر الإسلامي مُسَمى المدرسة، بعدما كان الجامع هو المكان المتعارف عليه، لتدريس العلوم الشرعية وغيرها.

وقد عَقّب المقريزي بعد إنشاء المدرسة الناصرية بالفسطاط، مؤكداً أن: "المدرسة الناصرية هي أول مدرسة عملت بديار مصر".

لكن؛ جاء المؤرخ ابن خلكان، ليوثق في الجزء الثاني من كتابه الذائع (وَفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان) تاريخ إنشاء مدرسة بالإسكندرية قبلها، على يد الوزير السُني العادل/ أبي الحسن بن السلار وزير الخليفة الظافر الفاطمي.

وهنا يأتي دور المؤرخ المعاصر د. جمال الدين الشيال في كتابه القيّم (أعلام الإسكندرية في العصر الإسلامي- 1965)، فيوثق لقطة تاريخية فارقة، يصحح بها المعلومة الشائعة، عند المؤرخين القدامي، قائلاً:

"ومن الممكن أن يقال -اعتماداً على نص ابن خلكان هذا- أن ابن السلار، لا صلاح الدين، هو أول من أوجد المدارس بديار مصر، وأن الإسكندرية هي أول مدينة مصرية عرفت المدارس... ونحن نقول: إن قول ابن خلكان ما يزال يحتاج –كما احتاج قول المقريزي- إلى تحقيق وتصحيح. حقيقة أن الإسكندرية كانت أول مدينة عرفت المدارس، ولكن مدرسة الحافظ السلفي لم تكن أول مدرسة أنشئت في الإسكندرية؛ وإنما سبقتها مدرسة أخرى، هي المدرسة الحافظية التي أنشاها رضوان بن ولخشي – وزير الخليفة الحافظ الفاطمي- للفقيه المالكي/ أبي الطاهر ابن عوف، وقد بُنيت هذه المدرسة الحافظية قبل المدرسة السلفية، باثنتي عشرة سنة، فقد بُنيت الأولى في 532 هجرية (1137- 1138 ميلادية)، وبُنيت الثانية في 544 هجرية (1149 ميلادية)".

وقد اطمأن الدكتور جمال الدين الشيال للنتيجة التي توصل إليها، بعدما قرأ عبارة المقريزي في كتابه (اتعاظ الحنفا) في حوادث سنة 532 هجرية، حيث قال: "وفيها بنى الوزير رضوان المدرسة المعروفة في ثغر الإسكندرية، وجعل في تدريسها الفقيه/ أبا الطاهر بن عوف".

نص قرار إنشاء المدرسة

وقرار إنشاء المدرسة منصوص عليه في سجل رسمي، لن تجده سوى في كتاب (صبح الأعشى) للقلقشندي، حيث يذكر أن المدرسة سُميت بالحافظية نسبة إلى الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله، ولكن بعد شهرة مُدرسها الإمام ابن عوف، عُرفت بالمدرسة (العوفية). ونمضي في متابعة السطور المهمة في سجل إنشاء المدرسة، حيث نجد أنه قد نَصَّ على مكان بناء المدرسة، بشارع (المحجة)، الذي نعرف من الدكتور الشيال في كتابه، أن هذا الشارع في الإسكندرية الفاطمية هو -على الأرجح- (شارع فؤاد) في وقتنا الحالي. وقد نص سجل الإنشاء للمدرسة، على إسناد التقدمة في المدرسة (أي الإشراف عليها) للفقيه الرشيد جمال الفقهاء/ أبي الطاهر، مخاطباً إياه بقوله:

"لنفاذك واطلاعك، وقوتك في الفقه واستضلاعك؛ ولأنك الصدر في علوم الشريعة، والحال منها في المنزلة الرفيعة، والمشعل الذي اجتمع له الأصول والفروع، ومن إذا اختلف في المسائل والنوازل كان إليه فيها الرجوع، هذا مع ما أنت عليه من الورع والتقوى".

كما نجد في السجل تنبيهاً واضحاً، بأن تكون المدرسة سكناً للطلاب، ومحلاً لكافتهم، وتُصرف لهم مؤونتهم وكل ما يقيم أودهم، ويعينهم على التفرغ للدراسة من (عيش وغلة)، وأن يُطلق هذا كله من ديوان الخليفة.

توابع زيارة صلاح الدين الأيوبي للمدرسة

وقد صارت المدرسة الحافظية بعدها، موئلاً مأمولاً لراغبي العلم، لأكثر من 35 عاماً من آخر سنوات عمر الدولة الفاطمية، التي سقطت رسمياً عام 1174 ميلادية، ثم علا صيت المدرسة، وذاع أمرها أضعافاً في الدولة الأيوبية، ما جعل السلطان صلاح الدين يرحل إليها، مع ولديه ليقضي عشرة أيام كاملة، للتعلم على يد مُدرسها الأول/ ابن عوف، الذي نظنه كان يقلب صفحات الموطأ، بأنامل قلبه، يساوره حنينه لأيام صباه، عندما كان يجلس تلميذاً مُنصتاً في حلقات دروس مُعلمهِ العظيم، وربيبهِ، وزوج خالته، الإمام العلم/ أبو بكر الطُرطُوشي، لكن كنا نتمنى ألا يكتفي المؤرخ/ الأصفهاني بكلمات شحيحة جداً عن تلك الزيارة، فليتنا عرفنا منه كيف كان حال السلطان وقت الدرس، وما الذي دار من حوارات بينه وبين الإمام/ ابن عوف في المدرسة، وكيف كانت جلستهما، وهكذا... بمثل ماعرفنا عن وقائع وتفصيلات زيارة مشابهة، لهارون الرشيد مع ابنيه الصغيرين (الأمين والمأمون)، إلى منزل إمام دار الهجرة/ مالك بن أنس، بالمدينة المنورة، ليسمع منه كتابه (الموطأ)، ويقرأه عليه.

وقد كانت زيارة صلاح الدين العلمية، سبباً لعلو مكانة الإمام الفقية عنده، فقد كان يرجع إليه في الأمور الفقهية العويصة، ويستشيره في أمور الدولة، وقد رَوىَ خليل الصفدي في كتابه (نَكْتُ الهِمْيان في نُكَت العُميان) واقعة تؤكد العلاقة المتينة بين صلاح الدين والإمام، عندما أرسل له رسالة يستفتيه في جواز تولي الأعمى منصب القاضي، وهو ما أجازه ابن عوف، على خلاف رأي جمهرة الفقهاء -حيث لا تشترط المالكية أن يكون القاضي مبصراً، فسلامة بصر القاضي عندهم هو فقط في مرتبة (الواجب غير المشروط)- وبالفعل أخذ السلطان برأيه.

كما لا حظ الإمام، لكونه من أهل الإسكندرية، أن هناك ضريبةً تُفرض وقتها على بعض تجارة الفرنج عند الميناء الشرقية، فأراد بنظرته الاجتماعية، ومعايشته لواقع الحال، ولحفظ مكانة العلماء من غلبة الاحتياج، أن يطلب من السلطان منح عائد تلك الضريبة، لفقهاء الثغر، وبالفعل نفذ صلاح الدين طلب ابن عوف، وجعله وقفاً للفقهاء، وذريتهم بعدهم، بإشراف ناظر، وشهود.

مناقب الأسرة العوفية

قضى ابن عوف أغلب عمره الذي بلغ 96 سنةً (485 هجرية- 1092 م/ 581 هجرية- 1185م) في إعلاء بنيان العلم الشرعي بالإسكندرية، ودرس على يديه في مدرسته المالكية كبار العلماء فيما بعد، منهم الفقيه أبو العز المقترح، مع أنه كان شافعياً.

ولم يكن شيخنا أبو الطاهر(رحمه الله) متفرغاً للتدريس فحسب، بل ترك مصنفات مهمة منها (تذكرة التفكير في أصول الدين)، ونذكر له أنه انتفض غاضباً لدينهِ، فوضع سن قلمه في محبرته، ليرد على رجل قد تنصر، وألف كتاباً سماه (الفاضح)، ظناً منه أنه يفضح فيه تناقض أحكام الشريعة الإسلامية، وتضارب أقوال الرسول (عليه الصلاة والسلام)، فقرع الإمام/ أبو الطاهر بأدلته العلمية جهل هذا المدعي، وتخرصاته، وتحريفه المفضوح لنصوص الأحاديث الشريفة.

ولم ينته تأثير المدرسة العوفية بعد وفاة صاحبها، بل امتد علمها في طلابه، وفي ذريته وأحفاده، وأحفاد أحفاده، فعُرف بيته بأنه (بيت الدين والعلم)، حيث صار ابنه (مكي) فقيهاً مالكياً مرموقاً، يقوم بإلقاء الدروس الفقهية، بما تعلمه من أبيه الإمام، وفي مدرسته العريقة نفسها، وله مصنفات عالية المكانة، كذلك الأمر مع أخيه عبد الوهاب الفقيه المالكي، أما أختهما زينب فقد عُرفت بلقب (الشيخة الصالحة الأصيلة)، فهي المُحَدثة غزيرة العلم التي يقصدها محبو العلم، وأكمل الأحفاد رسالة جدهم في علوم الفقه المالكي، حتي كان آخر من عرفه التاريخ من سلالة هذه العائلة هو مُحَدث الإسكندرية الشهير عبد الرحمن بن مكي بن عوف الإسكندراني، الذي تُوفي في 757 هجرية/ 1356 ميلادية، ثم اختفى أثر الأسرة العوفية، بعد قرنين ونصف تقريباً، لكن عاش وما يزال علم الإمام/ ابن عوف، وستظل مدينته مَدِينة له، مع أساتذته، وأقرانه، بترسيخ مذهب أهل السُنة في وجدان، ووعي أهلها، خاصةً في عصر الدولة الفاطمية الشيعية، وتبقى مدرسته أول مدرسة نظامية في مصر، سجل المؤرخون أثرها العلمي الباذخ، بسطور مضيئة، في موسوعات الحضارة الإسلامية.


المراجع
• فائزة محمد عزت، سيبان حسن علي، المواكب السلطانية في مصر الأيوبية، مجلة جامعة زاخو، المجلد: 3، عدد: 1، 2015.
• د. جمال الدين الشيال، أعلام الإسكندرية في العصر الإسلامي، 1965.
• د. هشام عطية السيسي، الأسر العلمية بالإسكندرية ودورها الثقافي -خلال العصرين الأيوبي والمملوكي، مجلة كلية الآداب– عدد: 14، مارس 2020.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها