أطلق عليه لقب: "سقراط الحقول"، و: "بودا الأرداش"، وأيضاً "زارع الأمل" هو بيير رابحي pierre rabhi المفكر والفيلسوف والشاعر، المدافع عن البيئة وعن ضرورة إنقاذ الأرض. رجل يقف على ضفتين ثقافيتين: الأولى هي الثقافة العربية الإسلامية، والثانية هي الثقافة المسيحية الأوروبية. ولد سنة 1938 في واحات تقع جنوب الجزائر لعائلة مزارعة فقيرة.
كان اسمه خلال هذه المرحلة التي عاشها كمسلم رابح رابحي، ثم بعد وفاة والدته في سن الخامسة، تبنته عائلة مسيحية كاثوليكية ذهبت به إلى فرنسا حيث تابع دراساته. يستقر حالياً بمنطقة الأرداش l’Ardèche الفرنسية، وهي منطقة تضم العديد من القرى التي يؤم إليها كل الهاربين من صخب الحضارة المعاصرة وتلوثها. أسس العديد من الجبهات والتنظيمات التي تدافع عن البيئة والفلاحة الطبيعية أهمها: "الحركة العالمية لأجل الأرض والإنسانية". ثم رابطة كوليبري. ألف حوالي 19 كتاباً منها: "الإيكولوجيا والروحانية"، و"الفلاحة الإيكولوجية، إيتيقا للحياة"، و"حصة الطائر الطنان، النوع البشري في مواجهة مصيره"، وغيرها من الكتب. إلا أن أشهر عمل له هو كتاب: "نحو البساطة السعيدة"، الذي لخص فيه أهم أفكاره وأطروحاته المعرفية التي وردت في الكتب السابقة. إن السؤال الأساسي الذي يهتم به بيير رابحي هو: أية كرة أرضية سنترك لأطفالنا، وأي أطفال سنترك للكرة الأرضية؟
البساطة السعيدة
يدعو بيير رابحي إلى ضرورة تأسيس نمط حياة جديد، يقوم أساساً على الاعتدال بدل الانسياق وراء الاستهلاك، وإلى التخفيض ما أمكن من تأثير الإنسان على الطبيعة. يسمي الكاتب هذا النمط الحياتي البديل، بالتقشف والاستقامة، أو كما يحمل عنوان كتابه "البساطة السعيدة" la sobriété heureuse إنها عبارة عن أسلوب حياة زهدي، يقوم على الاعتدال الطوعي. هكذا يوجه الكاتب سهام نقده في هذا الكتاب للنظام الرأسمالي، وللعولمة والمجتمعات المعاصرة. ففي عالم يقوم على الإفراط المتعاظم، وعلى الزيادة في الاستغلال اللاعقلاني للطبيعة، يصبح من الضروري للإنسان أن يغير طريقة عيشه؛ إذا ما أراد أن يضمن البقاء. في نظره ينبغي تجاوز النظام الاقتصادي القائم على العمل المتسلسل، والرفع من الإنتاجية وتشجيع الاستهلاك. فالبساطة السعيدة كما يشير بيير رابحي، هي موقف يحتج من خلاله الإنسان على هذه المجتمعات الغارقة في الاستهلاك. إنها حكمة قديمة نجدها متجذرة في كل التراثات الماضية تعتمد الزهد والتقشف، وهي قيمة أهدرتها الحداثة للأسف.
إن هذا معناه أن أطروحة بيير رابحي حول التعامل المعتدل والمسؤول مع خيرات الأرض، مستمدة أساساً من توصيف الوضع الكارثي الذي نعيشه اليوم، حيث أضحت الكرة الأرضية تعاني الأمرين من الاجتياح الكاسح الذي قام به الإنسان لها، جراء مشرورعه التقنوـ صناعي. يقول رابحي: "لا يمكننا أن نطبق على كوكب محدود طبيعياً، مبدأ اصطناعياً لا محدوداً" [ص: 97].
ويؤكد الكاتب دائماً أن الأرض ظلت لآلاف السنين، تقوم على نوع من التعامل والتضامن بين أنساقها البيئية، إلى أن جاء الإنسان في الدقائق الأخيرة من تاريخ الكون، لكي يقلب كل هذا التوازن ويقضي على التناغم الطبيعي. المطلوب إذن هو إعادة تنظيم الحضارة المعاصرة، وهو أمر ليس بالهين لأنه يتطلب ليس فقط القيام بإصلاحات ومراجعات سطحية، بل بإعادة النظر في الأسس التي قامت عليها هذه الحضارة منذ العصر الحديث، أي منذ الثورة الصناعية المتضافرة مع الثورة العقلانية. لقد تأسست هذه الحضارة على الربح الاقتصادي والسيطرة المادية على الطبيعة، في حين ينبغي تغيير ذلك نحو الاهتمام أكثر بالإنسان ومكانته في البيئة.
نحن إذن؛ مع بيير رابحي أمام لغة جديدة ومواقف فكرية غير معتادة، فإذا كان الجميع ينادي بضرورة الرفع من الإنتاجية والعناية بالوفرة، ها هو ذا فيلسوف ينادي بعكس ذلك تماماً.
إن نموذج التنمية الاقتصادية الذي يطرح نفسه باعتباره النموذج الوحيد والأوحد، هو بالضبط ما ينبغي بالضرورة تجاوزه لأنه النموذج الذي دفعنا نحو استنزاف الثروات السمكية، واجتثاث الغابات، وتهديم المجال البيئي بحثاً عن المعادن. هكذا يؤكد رابحي أن نموذج التنمية الاقتصادية يقدم نفسه باعتباره حلاً لمشاكل الإنسان، في حين وجب النظر إليه باعتباره هو المشكلة.
تجاوز الثنائية الضدية
من بين أهم الأسس التي ينبغي تجاوزها أيضاً فكرة الثنائية الضدية، التي ميزت تاريخ الإنسانية، حيث يتمركز الإنسان دائماً كخصم عنيد ليس فقط لأخيه الإنسان بل أيضاً للطبيعة. يمكن العودة بجذور هذه القطيعة بين الإنسان والطبيعة إلى الفلسفة الأنوارية، وبالضبط مع ديكارت الذي -كما هو معلوم- وضع حداً فاصلاً بين الجوهر المفكر أي الإنسان، والجوهر الممتد أي العالم. وجعل السيادة المطلقة للأول على الثاني. في نظر بيير رابحي علينا أن نتجاوز هذه الثنائية، وأن ننظر إلى أنفسنا كجزء لا يتجزأ من الطبيعة. يقول رابحي في إحدى مقابلاته: جاءتني يوماً ما صحفية تريد أن تكتب عن الماء فقلت لها: أنت هي الماء، أنت تريدين الكتابة عن نفسك. دائماً كان يتم النظر إلى الإنسان ككيان يقف في الضفة الأخرى مقابل الطبيعة، وقد آن الأوان لتجاوز ذلك. في نظر بيير رابحي ليس هناك نحن والطبيعة، بل نحن الطبيعة. بمعنى أننا جزءٌ لا يتجزأ من البيئة والمحيط الحيوي، الذي نعيش داخله، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننظر إلى أنفسنا كما تنادي بذلك الحضارة الصناعية ككائنات فوق الطبيعة.
من هنا يقول الكاتب ساخراً: "إننا نطرح العديد من الأسئلة حول: هل هناك حياة بعد الموت، غير أن السؤال الكبير لدي هو: هل هناك حياة قبل الموت". في نظره إذن نمط الوجود الذي نعيشه في الحضارة المعاصرة، لا يمت بأي صلة إلى الحياة ما دمنا نقوم بتخريب البيئة وتهديد حياة كل الكائنات فوق الأرض. إن الشعار الأساسي الذي يرفعه بيير رابحي في هذا السياق هو أنه علينا أن نمتلك: "وعياً بلا وعينا"، ومعناه أن البشرية لم تبلغ النضج المطلوب الذي يمكنها من تجاوز الصراع والعدوانية والحروب والأنانية. ثم يضيف مؤكداً: نحن لسنا أذكياء لأننا نصنع السلاح، بل لأننا نعرف موقعنا في الطبيعة، ونبني حضارة منسجمة معها تهتم بالحياة وتحافظ على دوامها. فأي مصير ينتظر البشرية إن لم تتمكن من إيجاد التوازنات الضرورية بين حاجياتها وإمكانات الطبيعة؟
الزراعة الإيكولوجية
لقد اعتمدت الزراعة المعاصرة بشكل أساسي على المواد الكيميائية، وهذا بطبيعة الحال لا يتناسب مع البيئة؛ لأنه يجعلها عقيمة بسبب قتل الكائنات الحية. إن الزراعة البيئية تعني أنه علينا أن نقوم بإعادة تشكيل الطبيعة، بالشكل الذي يضمن استمرار الحفاظ على البيئية عن طريق التشجير ومحاربة التصحر، والاهتمام بربط الفلاحة بتربية المواشي. خطورة الزراعة التي نقوم بها اليوم تكمن في اعتمادنا على فكرة الاستغلال اللاّمتناهي للثروات الطبيعية، وهو ما قاد إلى تخريب كل الأنظمة الطبيعية. من هنا الحاجة إلى الزراعة البيئية L'agroécologie التي أصبحت موضة تنتشر يوماً عن يوم في مجتمعاتنا. يقول بيير رابحي ساخراً في هذا السياق: "اليوم عندما نريد أن نتناول طعامنا، بدل أن نقول شهية طيبة علينا أن نقول حظاً طيباً". بمعنى أننا لا نعرف بالضبط ما هي نوعية السموم التي نتناولها. كل هذا بسبب المبيدات الحشرية، وبسبب البذور المعدلة جينياً، التي تسيطر عليها بعض الشركات الخاصة مثل شركة مونسانتو وتعتبرها ملكية فكرية خاصة لها.
لكن مع ذلك لا يتعلق الأمر فقط بتقنيات ومهارات زراعية، بل بفلسفة كاملة تغير نظرة الإنسان لعلاقته بالطبيعة؛ أي بإيتيقا الحياة كما يحمل عنوان كتابه الأساسي حول هذا الموضوع.
يقدم بيير رابحي مثالاً مستمداً من أساطير الهنود الحمر، ليؤكد على أهمية المبادرة الفردية في الحد من اتساع المشكلة البيئية. فبعد أن اشتعلت النيران في الغابة اضطربت الحيوانات، ولم تعرف كيف تتصرف. عندها أخذ الطائر الطنان، يملأ منقاره الصغير بقطرات من الماء يرشفها من الوادي، ثم يقوم برشها على الأزهار. استغرب حيوان الطاطو/ المدرع من فعله وسأله: هل تعتقد أنك بعملك هذا ستتمكن من إطفاء الحريق؟ فأجاب الطائر الطنان: أعلم ذلك، ولكنني أقوم بما هو مفروض علي من جانبي. إن هذا معناه في نظر الكاتب أن الوضع الذي نعيشه، ليس قدرياً ولا مفر منه، بل نحن نمتلك القدرة على تغيير نظام الأشياء. فإما أن نغير حضارتنا ونمط عيشنا، وإما ننساق للمنحدر القيامي الذي تقودنا إليه الحضارة المعاصرة. وإذا قام كل واحد بما يتطلبه جانبه فإن الأمور ستتغير بدون شك.
انتقادات
استقبلت أعمال بيير رابحي سواء في فرنسا أو خارجها بحفاوة كبيرة. بيعت أزيد من مليون ونصف نسخة من كتابه: "البساطة السعيدة". لقد نظر إليه دوماً كرجل أرسلته العناية الإلهية لإعادة علاقة الإنسان بالطبيعة، ولتصحيح قطار التنمية والتقدم الهائج. لكن ورغم النجاح الكبير الذي عرفه بيير رابحي، إلا أنه لم يسلم من بعض الانتقادات، أشهرها تلك التي ذكرها باحث شاب اسمه جان بابتيست ماليث في مقال تحقيقي له، أثار ضجة كبيرة تحت عنوان: "التقشف والتسويق: نسق بيير رابحي"، نشر بالجريدة الشهيرة لوموند ديبلوماتيك سنة 2018. يرى الكاتب أن بيير رابحي يقدم نفسه كخبير زراعي، في حين أن منهجيته تفتقد إلا أية خبرة علمية.
إن كتاباته تميل نحو السرد الأدبي والروحانية -خصوصاً في مجال الزراعة الإيكولوجية- أكثر مما تميل نحو الكتابة العلمية الرصينة. إضافة إلى هذا فأفكاره الداعية إلى التقشف تنتهي أحياناً إلى امتداح الفقر، واعتباره شيئاً عادياً ومقبولاً، لدرجة أنه انتقد المساعدات الاجتماعية. لكن تبقى أهم الانتقادات التي قدمها بابتيست ماليث هي اعتباره لبيير رابحي كرجل مهادن للشركات والمؤسسات التجارية الكبرى، وبذلك فهو يبسط الصراع ويجعله مسألة روحانية ذاتية، تسقطه في "إيكولوجيا مسالمة" عوض أن يكون صراعاً سياسياً واجتماعياً.
وعلى أية حال؛ قد تنطوي أفكار بيير رابحي على بعض اليوتوبيا، من خلال تركيزه على مخاطبة الضمائر الحية، بدل تشكيل جبهة صراعية ضد الشركات الاحتكارية الملوثة كما اعتاد فعله المناضلون البيئويون ومناهضو العولمة. غير أنه وفي الآن ذاته لا يمكن استصغار الفعل الذي تقوم به المبادرة الفردية. هناك البنية العولمية وهناك الانتظار، فهل سنظل متقاعسين ننتظر متى تتغير هذه البنية حتى تحل المشاكل. إننا نعلم أنه في الحكاية الهندية يموت ذلك الطائر الطنان من التعب. ولكن أن يموت الإنسان وهو يحاول إنقاذ الأرض، أفضل له من أن يموت وهو يتفرج على انهيار العالم.